قراءة وتحليل:
مراوغة الديني والانغماس في المعنى البشري
قراءة في قصيدة "براءة" للشاعر أحمد البرقاوي
فراس حج محمد| فلسطين
المقدمة:
في قراءة سابقة[1] تتبعت بعضاً من تجليات حضور قصة النبي يوسف- عليه السلام- في نماذج من الشعر العربي الحديث، فتحدثت عن قصائد كل من محمود درويش، ومحمد حلمي الريشة، وفاطمة نزال، وسلطان القيسي، ووقفت عند مجموعة من النصوص التي كتبتُها، كنتُ قد وظفت فيها هذه القصة، وفي الهامش أشرت إلى قصائد أخرى، لشعراء آخرين تناصت قصائدهم مع هذه القصة؛ موسى الحوامدة، وشوقي بزيع، وأحمد دحبور، وأحمد البرقاوي. كما بينت أن هناك الكثير من الشعراء الذين وقفوا عند هذه القصة مستفيدين من إمكانياتها البديعة.
يثبت حضور القصة المكثف في الشعر الحديث، وتثوير اللغة ومكامنها، ورمزياتها إلى أنها فعلا قصة- كما وصفها القرآن الكريم- "أحسن القصص" فلم تكن "من" أحسنها، بل هي أحسنها على الإطلاق، فلم يشترك معها في هذا الحسن قصة أخرى، ولعل هذا الحضور جانب مخفيّ لسيطرة النص القرآني على ألباب الشعراء وقلوبهم، ليكون هذا أيضا تجليا آخر من تجليات الإعجاز القرآني في هذه السورة، إذ يلاحظ تأثيرها الإبداعي على الشعراء، بغضّ النظر عن إيمانهم بالقصة أو لا، وتسللها إلى نصوصهم بهذا الشكل الإبداعي المتجدد، فثمّة سحر جاذب للقصة يوقع المبدعين في تأثيره.
أعود إلى هذه القصة من جديد لأكتب عنها من خلال قصيدة "براءة" للشاعر والفيلسوف والأكاديمي الفلسطيني أحمد نسيم برقاوي[2]، وكنت قد أشرت إلى القصيدة في الهامش في الكتابة السابقة، من خلال اطلاعي على كتاب البرقاوي "نهد الأرض" ولفت انتباهي قوله: "وأنا بالأصل لا أحبّ يوسف، لأنّه كان قاسيا جدّا مع المرأة الّتي أحبّته، وديواني الأول يحتوي على قصيدة "براءة" ومطلعها ما أنا يوسف يا بني أمي..."[3].
لم أطلع على القصيدة في ديوان الشاعر، لكنّه قام مشكورا بكتابة القصيدة في التعليق على الكتابة السابقة حول "توظيف قصة النبي يوسف في الشعر الحديث" عندما نشرتُ المقالة على صفحتي في الفيسبوك.
قرأت القصيدة مرات متعددة في أوقات مختلفة، فوجدتها تنحو منحى آخر مختلفا عما هو لدى الشعراء الذين وقفت عند أشعارهم ممن سبقت ذكرهم في الكتابة السابقة، لاسيما أن الباحثة سنابل حلبي لم تتناول القصيدة في دراستها التي تتبعت فيها استفادة الشعراء الفلسطينيين من قصة سيدنا يوسف[4]، ما دفعني أن أخصص للقصيدة وقفة مستقلة.
وصف عام للقصيدة:
تتألف القصيدة من اثنين وخمسين سطرا شعريا، فيها مزج بين تفعيلتي المتقارب والمتدارك، وهما من دائرة عروضية واحدة؛ يطلق عليها العروضيون اسم "دائرة المتّفق"، وكثيرا ما تتجاور هاتان التفعيلتان في قصائد التفعيلة لدى شعراء الشعر الحر المعاصرين، فهما تفعيلتان قصيرتان، قريبتان في النغمة الموسيقية[5].
يمكن للدارس أن يتعامل مع القصيدة على أنها ثلاثة مقاطع، بناء على تكرار اللازمة في كل مقطع (لا، ما أنا يوسف يا بني أمي)، وتألفت هذه المقاطع من جمل قصيرة اسمية وفعلية، وكانت على النحو الآتي:
القسم الأول، ويتكون من عشرة أسطر شعرية في تسع جمل: جملتان اسميتان منفيتان. وخمس جمل فعلية منفية. جملتان جاءتا في أسلوب الشرط غير الجازم مع لو، و"لو" حرف يحمل معنى النفي لامتناع وقوع فعل الشرط لامتناع تحقق جواب الشرط.
أما القسم الثاني فيتألف من أربعة عشر سطرا شعريا، وكان فيه اثنتا عشرة جملة، منها سبع اسمية وخمس فعلية، وجاء النفي في جملتين اسميتين، واحدة منهما جملة اللازمة المكررة، وجملة اسمية إنشائية تعجبية. وجاء الخبر في جملتين اسميتين جملة فعلية. أما بقية الجمل الفعلية فهي مثبتة.
وجاء القسم الثالث من القصيدة في ثمانٍ وعشرين سطرا شعريا، وتوزعت جمله بين الفعلية والاسمية على النحو الآتي: أربع جمل اسمية، واحدة مكررة في المطلع، منفية، واثنتان اسميتان مثبتتان، وواحد وعشرون جملة فعلية كلها مثبتة.
وعلى ذلك يكون نصيب الجملة الفعلية بين المنفية والمثبتة والأصلية أو التابعة في القصيدة ثلاثا وثلاثين جملة فعلية، أما الاسمية فكانت ثلاث عشْرة جملة اسمية ما بين المثبتة والمنفية. علما أنني أدخلت الفعل (صار) في المقطع الثاني- وهو فعل ناقص من أخوات كان الناقصة- ضمن الجملة الفعلية؛ لأنه واقع في جواب الشرط في أسلوب الشرط غير الجازم، أما الفعل كان (كنتُ) في المقطع الأول فأدخلته ضمن الجمل الاسمية، لأن الفعل ناقص يدخل على جملة اسمية، علماً أن بعض النحاة أدخلوا جملة "كان وأخواتها" ضمن تصنيف الجملة الفعلية[6]. وعلى ذلك يكون النصيب الأوفر للجملة الفعلية في هذه القصيدة. وأهملت جملة "يا بني أمي" التي تكررت 4 مرات، مع أنها في عُرف النحاة جملة فعلية إنشائية طلبية، حل حرف النداء محل الفعل "أنادي"، وذلك لأنها خلت من الفعل الصريح، واندمجت في سياق الجملة الافتتاحية، في القصيدة، وفي بداية كل مقطع من المقاطع، كأنها جزء أصيل من المطلع الذي هو جملة اسميتان، واحدة مقدرة وأخرى ملفوظة، كما سأوضح فيما يأتي.
وفيما يخص النفي والإثبات؛ فإن الإثبات غالب على القصيدة بواقع اثنتين وثلاثين جملة، في حين جاءت فقط أربع عشْرة جملة منفية موزعة بين فعلية واسمية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن جملتي الشرط مع "لو" الواردة مرتين في القصيدة بأربع جمل هي جمل منفية في المعنى والسياق، إذ يعني الحرف لو: حرف امتناع- أي نفي- وقوع فعل الشرط لامتناع- أي نفي- وقوع جواب الشرط.
في تأويل البنية والمعنى:
تدرجت القصيدة في بناء بنيتها المقطعية، فبدأت بالمقطع الأول الذي تألف من عشرة أسطر شعرية، ثم المقطع الثاني الذي تألف من أربعة عشر سطرا، ثم المقطع الثالث وجاء مكونا من ثمانٍ وعشرين سطراً، وكان النفي حاضرا بوضوح في المقطع الأول، ثم أخذ يضعف في المقطعين اللاحقين. هل يقول هذا التوزيع الجُمْليّ شيئاً؟
لا شك في أن القصيدة في اتساقها الجمْلي الواضح ذاهبة إلى السردية. وربما كان هذا أحد المؤثرات الخفية للنص الأصلي ذي السلطة المعرفية في ذهن الشاعر، وأقصد "قصة يوسف" القرآنية، فقد شكلت القصة متكأ فنيا للشاعر، في المضمون وليس في الأساليب، كما أن الجمل الفعلية المثبتة تشير إلى فاعلية النص وديناميكيته وحيويته الفاعلة في الرؤيا التي أرادها الشاعر، على الرغم من أن اللازمة "ما أنا يوسف يا بني أمي" لازمة اسمية منفية، مكررة في النص أربع مرات، إلا أنه النفي الدافع للإثبات، فالنفي في هذه اللازمة يحمل معنى الإثبات أيضا. بمعنى أنه ليس يوسف إنما هو "سيد وصعلوك وحكيم ومغترب".
ويتخذ النفي عموما هذه الفاعلية في النص، فكل نفي لحالة ما، هناك إثبات لحالة مضادة لها، تجعل النفي لا أثر له في النص، فكان النفي دافعا للإثبات ولما يحمله الإثبات من يقينية تجلت في المقطع الثاني، وتأكدت في المقطع الثالث بشكل لا يقبل الجدل أو الشك، بسيطرة الجمل المثبتة الوثوقية وتراجع وجود الجملة المنفية إلى هوامش المعنى المقصود، فتكثّف النفيّ في المقطع الأول ليتحول إلى تكثيف إثبات في المقطعين التاليين بطريقة منطقية، معتبرة في التحليل النصيّ وفي دلالة هذا التحليل على المعنى الموحى به من البنية الكلية للقصيدة.
وهذا وذاك- الإثبات والنفي- كلاهما منح النص إيقاعا متوترا، عبر عنه النص بتلك الجمل القصيرة أو الأسطر الشعرية القصيرة، واعتمادها أحيانا على التكرار والمتعاطفات، جعل كلّ ذلك إيقاع القصيدة متسقا مع ما يريد الشاعر.
ربما كشف هذا الإيقاع عن غضب ما في نفس الشاعر، اتّحدت كل هذه العناصر لإثبات موقف الشاعر الواضح من رفضه أن يكون يوسفاً آخر في زمن آخر، كما هو عند محمود درويش، أو عند سلطان القيسي، بل تحول إلى "ذئب"، وأوقع أباه الذي سبب له هذه المحنة في الجبّ، كما أنه رفض أن يكون كيوسف فيما لو أن امرأة ما راودته عن نفسه، فإنه سيقدّ لها قميصين وليس قميصا واحدا من قُبُل ومن دُبرٍ، علما أن هذا هو موقف متوقع وليس موقفا قد وقع، فهو يقوم على النفي أساسا لوجوده في سياق حرف الشرط "لو"، وهو حرف امتناع لامتناع كما سبق وذكرت.
القناع وتغريب النص:
يحاول النص الانفكاك من إسار النص المركزي؛ وهو هنا "قصة يوسف" والافتراق عن شخصية يوسف النبي المعصوم المنصور المحفوظ بالعناية الإلهية، فلا يتقمصها باتخاذها قناعاً، إنما يستحضرها لينفيها عنه وعن كل فلسطيني، وهذا ما أثبتَه في القصيدة بمقاطعها الثلاثة، وتأكيده ذلك عندما ختم النص باللازمة التي بدأ بها "لا، ما أنا يوسف يا بني أمي"، وهذه اللازمة تستدعي التحليل، ففيها أداتان من أدوات النفي؛ حرف لا المنفردة، كأنها جملة مستقلة، بل إنه يضمر جملة اسمية، فهي مقدرة في ذهن الشاعر وفي ذهن المتلقي كذلك، وسرعان ما يردف هذا الحرف/ الجملة بجملة اسمية "ما أنا يوسف يا بني أمي"، وجعلهما الشاعر ضمن سطر شعري واحد، ما يدل على أنهما تؤديان غرضا واحدا.
يشير حرف النفي "لا" إلى سياق سابق "مضمر" ومفترض، وكما يعرفه النحاة، فـ "لا": حرف نفي وجواب لسؤال مثبت، وكأن السؤال المفترض الذي غيبه الشاعر: "هل أنت يوسف؟"، وهذا السؤال (جملة اسمية) موجه له من جماعته، من قومه، بني أمه، فيرد عليهم مكرر الإجابة وشارحا لماذا هو ليس يوسف، فكل القصيدة جاءت إسهابا وإطنابا لردّ هذا الوصف عنه، فلا يريد أن يكون يوسف ولا يريد أن يشبهه، فهو مختلف عنه تمام الاختلاف إلى حدّ أنه نقيضه، وكأنّه يعارض الشعراء الآخرين الذين وصفوا الفلسطيني بأنه يوسف هذا العصر، ويردّ عليهم، ومفنّدا هذا الرد بطريقة شعرية، تقترب من الحجاج العقلي المبني على المنطق. "فالنفي يعنى إنكار الجملة أو القضية المغايرة للقضية المثبتة"[7] التي يريد الشاعر تأكيدها في هذا النص.
يستلزم نفي شخصية يوسف إثبات شخصية مغايرة، وهذا معنى يقرب أن يكون معنى فلسفيا، "فمن البيّن إذاً أن لكل إيجاب سلب قبالته، ولكل سلب إيجابا قبالته"[8]، فلا بد من تعريف الشخصية الملتبسة، وإزالة الالتباس عنها، لتوضيح معالمها الإنسانية وإبراز هويتها المميزة لها، ولذلك أكدها في المقطع الثالث، فهو "سيد وصعلوك وحكيم ومغترب"، وهذه الصفات الأربع في تحديد الهوية الشخصية تنطبق على الشاعر نفسه، كما قد تستغرق كل أحوال الفلسطيني في منفاه.
كما أن هذه اللازمة المهمة في "الفعل الشعري" تحيل إلى شخصية أخرى، يحاول الشاعر أن يتلبس بها ويأخذ صفاتها، ومن ثَمّ كانت في النص حاضرة بوضوح، وهي شخصية الشاعر الجاهلي "الشنفرى"، إذ ترتدّ هذه اللازمة إلى مطلع قصيدة الشنفرى "لامية العرب" المشهورة التي يقول في مطلعها[9]:
أقيموا بني أمّي صدور مطيّكم فإني إلى قوم سواكم لأميلُ
والشنفرى أحد الصعاليك المشهورين في الجاهلية، كان فارسا وشجاعا، ويحكي الرواة عنه أخبارا كثيرة، ويشكل الشنفرى حالة إنسانية في مأساته ومقتل أبيه، وسعيه وراء الثأر لمقتله من القبيلة التي قتلت أباه، ومات هو مقتولا أيضا[10].
ربما من أجل هذه المأساة يختار البرقاوي الشاعر الشنفرى قناعا له، فثمة ما هو متشابه بين "الفلسطيني" وما بين الشاعر الشنفرى، فالفلسطيني له مع "بني أمه" قصة مشابهة لما كان مع الشنفرى مع قبيلة الأزد قاتلة أبيه، مع أن هذا الملمح يشتبك مع قصة يوسف، وتضييع إخوته؛ بني أمه، له أيضا، إنما جاء انحياز الشاعر للشنفرى وليس ليوسف، لأنه يريد تأكيد الفعل الثوري للفلسطيني، فالصعاليك معرفون بأنهم ثوار العصر الجاهلي، يقول عنهم الدكتور يوسف خليف[11]: إنهم "جميعا يؤمنون بفكرة الفناء في سبيل المبدأ" و"ذوو عزيمة خارقة لا يثنيهم شيء عن هدفهم الذي يسعون إليه إلا الموت" و"يتمتعون بحظ وافر من الشجاعة والجرأة وقوة الجسد"، كما أنهم يتصفون "بنزعة إنسانية نبيلة"، غير خاضعين للنظام القبلي الذي ظلمهم.
هذه الصورة تناقض صورة النبي يوسف، فقد كان خاضعاً للنظام بمعنى ما أو متساوق معه، يُظهر احتراما له، بدليل عمله في هذا النظام "خازنا" للقمح عندما طلب من عزيز مصر قائلا: "اجعلني على خزائن الأرض، إني حفيظ عليم"[12]. وكان قبلاً ينتظر معجزة أو أمرا غيبياً أو شفاعة من الحاكم ليعفوَ عنه، ليتخلص من محنة السجن الذي مكث فيه بضع سنين ظلماً، ألم يقل لرفيق سجنه الناجي من الموت "اذكرني عند ربك"[13]؟ وقبل ذلك قال: "إنه ربي أحسن مثواي"[14]، إذاً، لا بوادر ثورية لدى يوسف النبي عليه السلام، كما كان لدى الصعاليك، ومنهم الشنفرى.
وعلى ذلك، وتأسيسا عليه، فإن البرقاوي لا يريد هذا المعنى، ولا هذه الشخصية بهذه المواصفات، إنما أراد أن يكون الفلسطيني ابن نفسه، وسيد نفسه، ثائرا حرا حكيما وصعلوكا وليس نبياً، لذلك فمن الطبيعي أن يفارق شخصية يوسف والتلبس بشخصية الشنفرى الصعلوك الشجاع الذي قتل مائة من الأزد انتقاما لأبيه، فقد عاش مناضلا، ومات "قتيلا" مدافعا عن دم أبيه، لذلك يبدو مبررا قوله مخاطبا القوم "بني أمه"، وليس بني أبيه، لأنه كما قال سيفارقهم، وأنه سيختار غيرهم، فهل كان "الخطاب المضمر" في قصيدة البرقاوي أيضا أنه يقول "وإني إلى قوم سواكم لأميلُ" كما قال الشنفرى؟ لقد سكت الشاعر عن هذا المعنى صراحة، لكنّ النص أشار إليه إيحاءً.
حضور المعنى الديني في النص:
لا يقتصر تأثر الشاعر البرقاوي بالنص القرآني على قصة يوسف عليه السلام، بل ثمة إحالات نصية على القرآن الكريم، بدءا من العنوان الذي ربما يستدعي سورة التوبة وبدايتها المختلفة التي بدأت بقوله تعالى "براءة من الله ورسوله". فثمة إعلان سافر للبراءة في النصين مع الاختلاف في موضوع تلك البراءة، وهذه أيضا مراوغة للنص الديني وتجاوزه في المعنى. علاوة على أنّه يطلق على سورة التوبة اسم سورة "براءة"[15]، ما يعني أن الشاعر قد وقع فيما أطلق عليه النقاد "التناصّ العنوانيّ".
كذلك يستفيد الشاعر من قصة موسى عليه السلام، وإقامته في بيت فرعون، في قوله: "ولا أقمتُ في بيت فرعون ظاهراً أو متنكراً". هل كان البرقاوي غافلا عن اختلاف السياقين التاريخيين بين قصة موسى وعلاقته بفرعون مصر، وبين قصة يوسف وعلاقته بعزيز مصر؟ ثمة اختلاف بين الإشارتين في حقيقة الأمر. لكن ما المسوّغ لمثل هذه الإحالة، بما تحمله من خلط الأوراق والحقائق؟ ربما ليمعنَ الشاعر في مراوغة النص الديني والتفلت منه، ففي نهاية المطاف ثمة جامع بين موسى ويوسف، وبين فرعون وعزيز مصر، إضافة إلى أن الشاعر يرفض على مستوى شخصي أن يكون مثل "موسى" يعيش في كنف فرعون متخفيا متنكراً وحتى ظاهراً.
وأما الإشارة الدينية النصية الثالثة في مراوغة المعنى الديني فقد جاءت في قول الشاعر في المقطع الثالث: "ورثتُ عن اليافاوية أمي/ يدين مبسوطتين كلَّ البسطِ/ وقلباً حميماً"، وتأتي هذه المراوغة في تجاوز التوجيه القرآني في قوله تعالى في سورة الإسراء: "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط"[16]. جاء هذا التجاوز في وصف الأم اليافاوية، دلالة على جودها الواسع، والجود يدل في هذا السياق على الغنى، وهو بذلك يقول إن الجود والغنى ورثة عن الأم، ما يعني أنه جواد وغنيّ مثل أمّه، وهو في هذا يشبه الصعاليك أيضاً الذين كانوا يتصفون بهذه الصفة.
والتجاء الشاعر إلى أمه، كما التجأ الشنفرى إلى أمه أيضا ودفاعه عنها، فإنه- أي الشاعر- يفارق مرة أخرى العادة في الانتساب إلى الأب، وفي التغني بأمجاد القوم الذين ينتسب إليهم المرء عادة من جهة الأب، إمعاناً في المراوغة والتجاوز. وهذه التجاوزات الدينية- إن صح هذا الوصف- تؤكد أن الشاعر يريد أن يبين هويته وطباعه وصفاته المختلفة عن غيره، لاسيما "بني أمّه".
الخاتمة:
إذاً، بهذه الكيفية يختار الشاعر أحمد البرقاوي شخصية إنسانية، بمواصفات بشرية، ليبتعد عن إظهار المظلمة التي كانت واضحة عند بعض الشعراء، ومنهم محمود درويش، ليؤكد قدرة الفلسطيني على الفعل والمواجهة، مواجهة الآخر المتمثل في "بني أمه" ليؤكد كينونته وحضوره الكامل، مفارقاً المعنى الديني ورمزيته القدسية إلى معنى أرضيّ، ولذلك لم يحضر من قصة يوسف إلا الاسم، والإشارة إلى فعل "قدّ القميص" بهيأة جديدة مختلفة، وبرؤى متقدمة أكثر تفلتاً من النص الديني الأصلي، بل عمل البرقاوي في هذا النص على تنحي النص الأول جانبا ليؤسس خطابه الخاص النقيض، فقد صارت القصة الدينية- والنصوص الدينية الأخرى- كلها بشخصياتها في الظل، فجردها من سيطرتها الإبداعية، وسلطتها المركزية المعرفية، وصار هو في نصه الجديد قصة أخرى في بؤرة الحدث، وفي معمعة المواجهة لإثبات الذات الفردية والجماعية على السواء، محققا ما أراده من "براءة" أن يكون مثل يوسف وموسى، مؤكداً سياقه التأويلي في دائرتي المعنى وتأويل هذا المعنى، كعلامة على الفلسطيني بوصفه قد وضع في سياق مضلل لذلك كانت هذه "البراءة" في هذه القصيدة التي شكلت نقيضاً للقصة القرآنية في مجملها وذات محامل إبداعية مختلفة.
الهوامش:
[1] قراءة بعنوان: "توظيف قصة النبي يوسف في الشعر الحديث"، صحيفة الحدث الفلسطيني، عدد (151)، نيسان، 2022.
[2] فيلسوف، وأستاذ جامعي، ومفكر، وناقد، وكاتب، وباحث، وشاعر سوري من أبوين فلسطينيين، ولد في بلدة الهامة السورية لأسرة من مدينة طولكرم الفلسطينية. صدر له عدة مؤلفات فلسفية، وعدة دواوين شعرية. (نقلا عن الويكيبيديا)، ينظر الرابط الآتي: https://2u.pw/AnPn9
[3] يُنظر الكتاب، الإصدار 146 من سلسلة كتاب دبي الثقافية، دار الصدى للصحافة والنشر، ط1، مارس، 2016، ص 114-115.
[4] أعدت الباحثة سنابل حلبي رسالة ماجستير بعنوان: "قصة يوسف عليه السلام في الشعر الفلسطيني المعاصر- دراسة أسلوبية"، وتناولت أشعار كثير من الشعراء الذين تناصّت قصائدهم مع قصة النبي يوسف عليه السلام. (جامعة القدس المفتوحة، 2019، إشراف أ. د. عمر عتيق).
[5] أشار الناقد سليمان جبران إلى هذا التداخل في شعر محمود درويش، مشتقا لهذا التنوع الموسيقي الناشئ عن اختلاط هذين البحرين بحرا جديدا بقوله: "فعلا نسمّيه المتدارب، أي المتدارك + المتقارب". يُنظر: موقع صحيفة القدس العربي، مقال بعنوان: "التباس الحوار بين محمود درويش وقصيدة النثر"، 24- أكتوبر- 2012، من خلال الرابط الآتي: https://2u.pw/dxMPt
[6] ينظر: مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، ابن هشام الأنصاري، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، بيروت، ط1، 1999، الجزء الثاني، ص433.
[7] مفهوم النفيّ، د. عبير عبد الغفار حامد، كلية الآداب، جامعة بني سويف، ص13، بحث منشور في موقع أكاديميا، خلال هذا الرابط: https://www.academia.edu/28266325
[8] السابق، ص14، منقولة عن أرسطو في تعريفه للنفي.
[9] ديوان الشنفرى، جمعه وحققه وشرحه د. إميل بديع يعقوب، دار الكتاب العربي، بيروت، ط2، 1996، ص58.
[10] يُنظر في ترجمته وما قيل عنه كتاب "الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي"، يوسف خليف، دار المعارف، د.ت، د.م، ط2، ص330-338. وكتاب "العصر الجاهلي"، د. شوقي ضيف، دار المعارف، مصر، ط3، د.ت، ص379-380.
[11] ينظر: "الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي"، ص35-49.
[12] سورة يوسف، آية رقم 55.
[13] سورة يوسف، آية رقم 42.
[14] سورة يوسف، آية رقم 23.
[15] ينظر: كتاب "صفوة التفاسير"، محمد علي الصابوني، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، مصر، ط1، المجلد الأول، ص488.
[16] الآية رقم 29.
من منشورات صحيفة الحدث الفلسطيني، العدد (153) حزيران 2022
ص1
ص2