الرسالة السابعة والخمسون
الحياة غامضة إنما الموت أشد غموضاً
فراس حج محمد/ فلسطين
الثلاثاء: 14/6/2021
أسعدت أوقاتاً، أرجو أن تكوني بخير، وأن تتقبلي هذا العزاء الخجول الذي جاء متأخراً. لن أكون "شيخاً" ولا "واعظاً"، فالموت لا بد منه، طال العمر أم قصر، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فمن عاش اليوم، سيموت غدا أو بعد غدٍ. فلست أثق في هذه الحياة مطلقاً، فلا تتأسفي، وعلينا أن نستمرّ، فالحياة مع كل ما فيها من غموض، تستحق أن تعاش.
في الحقيقة، يا عزيزتي، لا أحب أن أكتب عن الموت، بل إنني أنساه وأتناساه على الرغم من أنني أراه يومياً من حولي، في جيراني وأهل بلدتي ومعارفي، لم أعد أحفل بالموت لا من قريب ولا من بعيد، فليأت في أي وقت، وليأخذ من شاء، فمن كانت آخرته التراب فله التراب وحسب، فلا معنى لأن نفكر كثيرا بتفاصيل الحياة، وهمومها، كل حي منا، يؤدي دورا مرسوم له، وعندما ينتهي دوره، ينزل عن خشبة المسرح، ويأتي غيره من الممثلين، فلا بقاء إلا للخشبة، أما الممثلون فكلهم راحلون.
وما دمت أتحدث عن الموت، فها هو سعدي يوسف قد مات. أنا لا أحب سعدي يوسف إطلاقاً، لا شاعراً ولا إنساناً ولا مثقفاً. كان منذ سنوات صديقا على الفيسبوك، أنا من بادرت بإضافته بطبيعة الحال، كان جلفاً، مغروراً، يريد أن يقرأه الآخرون، ولا يحفل بغيره، كلنا بالنسبة إليه كائنات تعتاش على مخلفات أفكاره التي لم تعد تنفع. حذفته من قائمة الأصدقاء، لأنني أكره الغرور، وأكره العنجهية. وهذه العنجهية ليست تخصه وحده، بل كل من نقول عنهم إنهم "كبار" هم في الحقيقة متعالون، درويش كان مثله وأكثر، لم أحب من هؤلاء إلا سميح القاسم، كان دائما الحضور مع الناس ومع الشباب، تستطيع أن تتحدث معه وتبادله الأفكار، يقرأ لك، ويشجعك. لم ألتق سميحا، لكنني أحببته من سيرته على لسان معارفه، ولم ألتق أيضا بمحمود درويش، لكنني كرهت فيه عنجهيته من خلال معارفه، أحب درويش شاعرا ولغة، وأكرهه شخصا، كالمتنبي تماماً، أكرهه لتعاليه، وأحبه لتغنيه الشعري الجمالي الباهر.
حدثني يا عزيزتي أحد الناشرين أن شاعرا مرموقاً لم يتقبل هديته وكانت كتابا شعريا لشاعر شاب، تصفح الشاعر المرموق الكتاب، ورماه أرضه، وقال: هذا ليس شعرا. لاحظي العنجهية والغرور، لم يحترم الناشر أولا، ولم يحترم الكتاب ككتاب ثانياً، ولم يتعامل بلطف ثالثاً. هذا الصنف من الشعراء لو كان يقول قرآنا معجزا لا أعترف بشاعريته. الشاعر أخلاق وسلوك راقٍ أولا قبل أن يكون فنان لغة. سعدي كان من هؤلاء إضافة إلى أن سعدي تطور إلى رتبة "شاعر رديء" في آخر حياته الشعرية، صار يهذي. لم يعد شاعرا جديرا بالقراءة، لولا أن "شلته" من الشعراء أمثاله يصفقون له ويمدحونه. بالإضافة إلى أنني كرهت هذا الشخص لأمر مهم بالنسبة لي، ليس لأنه شيوعي أو يساريّ، فأنا أحب الشيوعيين واليساريين، وأحترم مناقشاتهم العقلية وإن اختلفت معهم. سعدي بذيء وليس مفكراً، أهان بكلام يقول عنه مؤبنوه أنه "شعر" شخصية عائشة زوجة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لقد قلّ أدبه كثيرا، ولم يناقش المسألة فكريا أو عقديا، وإنما قال كلاما مبتذلا في حقها وحق الرسول الكريم. إنه سيء بدرجة السفاهة والسفالة.
لا تظني أنني أحمل أفكار إرهابية منغلقة، لكنني أحب محمدا حبا جما والله، وأكره كل من يرميه بسوء، أو أن يتحدث عنه بحديث غير منطقي وغير موزون وأمقت كل من شتمه وسبه، المفكرون العظماء حتى من الملحدين والشيوعيين، لا يشتمون ولا يبتذلون في القول إنما يسردون الحديث بالبرهان كما يعتقدون، وهؤلاء أحب أن أقرأهم، لأنهم ينمّون عقلي، ويدربونني على سعة الأفق، والاختلاف بحبٍّ مع الآخرين، فالعالم ليس شكلا واحدا وليس فكرا واحداً. أعد حاليا كتابا حول ظاهرة "شارلي أبيدو" وتفاهة المثقفين والحكام العرب الذين تغنوا بالمستعمرين، ووقفوا إلى جانب الصحيفة وفرنسا الاستعمارية القذرة.
ماذا وجد محمود درويش الذي لا شيء يعجبه في سعدي يوسف ليعجب بشعره، وليكتب له قصيدة ويهديه إياها، أظن أن درويش فعل هذا، لم أعد أتذكر هذا النص ولعله التبس عليّ وخانتني الذاكرة، لعله كتب له كما كتب لسليم بركات وللسياب ولغيرهم. أرجو أن تفيديني، لم أعثر على القصيدة، وربما وقعت في الخطأ وأنا لا أدري.
في كل الأحوال، لا أجد كبير حاجة للحديث كثيرا عن الأموات، والزمن كفيل بإثبات شعرهم ومواقفهم، لكنني مستغرب فقط من تسلق ظاهرة "الشاعر الكبير"، فقد تحولت حوائط الأصدقاء الفيسبوكية إلى ملطمة "تتشعبط" على أنفاس الموت.
العزيزة الغالية، أرجو أن تتجاوزي ما أنت فيه، أكاد أشعر بذلك الضيق الذي يكتنف روحك، ولو كنت أعلم ما هي ظروفك لهاتفتك. اكتبي لي أرجوك لأطمئنّ. قلبي وروحي معك. سلام.