رواية نساء:
القدرة على مواجهة العبث في الرواية والحياة
فراس حج محمد
من هو "هنري شيناسكي" هذا؟ أيعقل أن يكون مجرد بطل رواية "نساء" للكاتب شارلز بوكوفسكي؟ هل يمكن لشخص حقيقي أن يكون مثل "شيناسكي"؟ هل يمكن أن يكون هناك كاتب مثل هذا الكائن الروائي المجبول بالنبيذ والفودكا وعرَق النساء اللواتي ضاجعهن عن طيب خاطر، لدرجة أنهنّ كنّ يسافرن من ولاية إلى أخرى فقط من أجل أن يحظين بليلة في فراش هذا المعتوه؟
المسألة مربكة، والأسئلة عنيفة وضاجّة ومتدفقة، ليس بوسع القارئ أن يتجاوز عن هذه الرواية دون أن يتمها، وربما لعن كل شخصياتها الشاذة، على الأقل لقارئ مثلي أدهشه ما فيها من جنون وطقوس جنسية متعددة الأشكال والأنواع والمذاقات، على ما كان يصف شيناسكي. ربما كان الكاتب فضائحيا ولم يكن عبثيا، هل كان الكتّاب أو هكذا يرى بوكوفسكي أن الكتّاب كانوا وما زالوا صائدي نساء من أجل متعة عابرة، لم تمكث إحداهن في أقصى ما مكثت مع شيناسكي أكثر من أسبوع. فهو شخص تضجره العلاقة الواحدة التي تربطه بامرأة واحدة. تزوج مرة واحدة، ولم يفكر بإعادة الكرة مرة ثانية، يريد أن يظل حرّا ويمارس ما يمارسه مع كل امرأة تتاح له، سواء في شقته أو شققهن، أو حتى أثناء سفره ليحيي أمسيات القراءة الشعرية.
في الواقع كان شيناسكي رجلا محظوظا، إذ إنه لم يكن يفكر بأكثر من ازدراد النساء، فهو "لا ديني"، ولا تحكمه أي تقاليد أو أعراف أو مواضعات اجتماعية، لا يحب الاختلاط بالناس أو الالتقاء بهم، سوى من أجل القراءات الشعرية مدفوعة الأجر التي كانت في المجمل لجمهور مخمور مثله يتبادل وأفراده السباب والشتائم المنحطة. كان شيناسكي غاية في الوضاعة وهو يعرف ذلك من نفسه جيدا، فقد وصف نفسه بأنه أشد حقارة من ماركيز دو ساد صاحب ذلك التاريخ البشع من الجرائم التي جسدها في رواياته، بدا غير مبال بشيء، ويرى "البشرية مشروعا فاشلا"، مع أنه ودود وطيب أحيانا، ومتعاطف مع من يشعر أنه بحاجة لمساعدة أو يحتاج نقودا.
مضت حياة شيناسكي في الرواية على هذه الشاكلة في (104) فصل من رواية متضخمة الحجم إذ بلغت (535) صفحة، شرب فيها عدداً لا يحصى من قناني الخمر بشتى أنواعه من النبيذ والفودكا والويسكي، وغيرها مما لست أذكره. وضاجع فيها ما لا يقل عن (90) امرأة؛ بعضهن لمرة واحدة، والوحيدة هي (ليديا) التي مكثت معه مدة أطول بعد فراغه من أمر زواجه الأول. لقد أغرمت به إلى حد الجنون والغيرة من أي امرأة كانت تأتيه أو تعرف أنها على علاقة وشيكة معه، إذ كان محل شكها ويقينها في كل امرأة يتلفظ هذا (المنحط) باسمها.
يظل هنري شيناسكي على هذه الشاكلة، ما إن يودع امرأة في مطار لوس أنجلوس حتى يستقبل أخرى، أو أنهن يقتحمنه اقتحاما مباغتا، أو يبعثن له رسائل وصوراً فوتوغرافية لأوضاع مهيجة يبرزن فيها أعضاءهن وعوراتهن، ليحظين به. فقد كانت النساء تتودد له، وهو لم يكن يردّ امرأة مهما كانت (كريهة الفم) أو (لا تحسن العمل) أو (غير جميلة) (صغيرة الحجم) أو (سمراء نحيلة)، مجانية أو مقابل بعض الدولارات. لا شيء يمنعه عن النوم مع أي امرأة مهما كانت.
ربما إن وقفت عند رسم هذه الصورة المرعبة لهنري شيناسكي أكون قد ظلمت الرواية والروائي، وهضمت البطل المهووس حقه الإنساني، وتغاضيت عن تلك الفكرة المتوارية خلف كل ذلك الصخب من ممارسة الجنس وشرب الخمر، إن هذه الصورة بلا شك صورة عديمة الفائدة، وربما وجدتها مبالغاً فيها، ولكن فلنفتش عما هو أهم من ذلك كله.
تستعرض الرواية عبر بطلها الذي يروي حكايته قصة كاتب، متعدد المجالات في الكتابة بين القصة والرواية والشعر، وله ما يربو عن عشرين (ربما خمسة وعشرون أو ستة وعشرون) مؤلفا متنوعا، وهو كاتب معروف، له جمهوره من القراء، وإن لم يكن مشهورا شهرة كبيرة كما يطمح، ولكنه على كل حال كاتب يعتاش من إنتاجه الأدبي، نشر له خارج الولايات المتحدة الأمريكية. مثلا في ألمانيا نشر له كتابان، وله ناشر يبيع له كتبه، ويعيش حياته ببساطة، لا يتأنق في مظهره العام ولا لباسه ولا في طعامه وشرابه، وبيته غير منظم وغير نظيف، يقترب من صورة الإنسان العاديّ والعاديّ جداً، مع أنه كان مثقفا، ولم يكن مفاخرا بثقافته، ولم يقل لنا إنه يمتلك كتبا أو أنه كان يمارس قراءة غير الجريدة، ولكنه كان يشير إلى أعمال أدبية متعددة لكتّاب مشهور روائيين وشعراء. إنه لم يكن من أولئك الكتاب الاستعراضيين الفارغين، فثقافته وقراءاته له وحده، فما شأن الآخرين بها؟
قدم هنري شيناسكي رأيه في الكتّاب والمثقفين، وكان كاتبه المفضل "جون فانتي"، فهو بنظره "كتلة مشاعر، رجل بمنتهى الشجاعة"، ويلتقي "سيلين" مع فانتي في الشجاعة ولذلك يفضلهما، ولكنه لم يكن معجبا بآرنست همنجواي، فقد كان في نظره متجهما جدا، مفرطا في جديته، ولم يكن عفويا، ولا يحبّ الرقص"، وكان شيناسكي ينفر من الكتاب المعاصرين ولا يحب صداقتهم، ولا معرفتهم، فمن وجهة نظره أن "أسوأ ما يحصل لكاتب هو التعرف إلى كاتب آخر، والأبشع من ذلك هو التعرف إلى عدد من الكتاب الآخرين". يبدو أن شيناسكي كان يرفض إدعاءاتهم وعبقريتهم الموهومة، فكل كاتب يرى نفسه عبقريا سواء نشر كتابا أم لم ينشر، باع كثيرا من كتبه ألم يبع، مع أن العبقرية كما يصرح شيناسكي "مضمحلة"، وبالكاد تكون موجودة.
كما لا يفوت شيناسكي أن يتحدث عن الكاتب الجيد، الذي يدرك متى عليه ألا يكتب، فالكتابة ليست مجرد الطرق على الآلة الكاتبة، إن لها ظروفا وطقوسا خاصة، أما بالنسبة له، فقد كانت تجربته الكتابية مرتبطة بالنساء وعلاقاته معهن، ولكنه لم يكن يكتب عن تلك العلاقات إلا بعد انتهائها. إنه هنا يشير إلى قضية مهمة جدا في الكتابة، فلا ينبغي للكاتب أن يكتب وهو في معمعة التجربة، عليه أن يتأمل تلك التجربة ليكتب عنها أفضل، بحيث "تصير الكتابة أقل بكثير من العلاقة بالذات، إلى أن تنتهي العلاقة، الكتابة ليست سوى البقية".
تكشف الرواية أن شيناسكي كان طفلا محروما من الحنان والعطف الأبويين، يقول في ذلك: "السبب كان طفولتي.. لا حب، لا عطف، وفي عشرينياتي وثلاثينياتي ما حظيت كذلك بالكثير، أحاول أن أعوض كلّ ما فاتني". فربما ترك ذلك شيئا في نفسه تجاه ذلك، يكابد بمشقة من أجل أن يستطيع دفع إيجار شقته، فهو ليس مالكا لأي عقار، وكثيرا ما كان يشكو من سيارته الفلوكزفاجن القديمة. فالحياة التي كان يعيشها كانت قاسية وذات آثار نفسية تكاد تكون مدمرة، فواجهها بالكتابة والنساء والخمر.
تعيدني هذه الفكرة إلى معلقة طرفة بن العبد، فقد كان له ثالوثه المتعيّ الخاص به الذي يتقاطع به مع هنري شيناسكي، فقد رسم طرفة في معلقته هذه الصورة المشابهة جدا لبعض مشاهد بوكوفسكي، إذ يلتقي مع هنري شيناسكي في اثنتين؛ الخمر والنساء:
ولولا ثلاثٌ هُنَّ من عِيشةِ الفتى// وجدِّكَ لم أحفلْ متى قام عُوَّدي
فمنهنَّ سَبقي العاذلاتِ بشَربةٍ// كُمَيتٍ متى ما تُعلَ بالماءِ تُزبدِ
وكَرّي إذا نادى المُضافُ مُحنَّبًا// كسِيدِ الغَضا نبَهتَهُ المُتورِّدِ
وتقصيرُ يوم الدَّجن، والدَّجن مُعجِبٌ// ببَهكَنةٍ تحت الطِّرافِ المُعمَّدِ
على أيّ حال، قد يتشابه الكتّاب في أزمنة متباعدة وأمكنة مختلفة، فالناس هم الناس بشهواتهم واعتقاداتهم وآمالهم.
لن تظل الأمور على هذه الرتابة في رواية "نساء"، وإن استهلكت من الرواية (103) فصل من الـ (104)، بل سيحدث ما لا تتوقع حدوثه، فتظهر له تلك (البتول) المسماة (سارا)، لتعامله تعاملا مختلفا عن بقية النساء، مع أنهما كان ينامان عاريين تماماً في فراش واحد وتحت غطاء واحد، إلا أنه لم يحدث بينهما ما كان يحدث بينه وبين النساء الأخريات، ربما أرادت كشف طبيعته، وهل فعلا يستحق التضحية. فترك لها حرية ممارسة الحب معه، ولم يكرهها على ذاك إلى أن فاجأته بذلك عن طيب خاطر منها. فيعلق شيناسكي على صنيعها "أصبت بالذهول ولم أعرف كيف أتصرف" محترما رأيها في أن ممارسة الجنس تعني الزواج، ولكنها ربما كانت تختبره، وبما أنه قد نجح في اختباراتها غير المعلنة كافأته بمتعة خاصة وغير متوقعة في نهاية احتفالهما برأس السنة الجديدة.
فعلا إنها سنة جديدة، مع ما تحمل هذه الإشارة من سيميائيّة معينة مرتبطة بتحليل الخطاب الروائي المعلن والمستتر لها اعتباراتها الخاصة في فهم التحولات السردية على مستوى النص الواحد المتمثل هنا في بنية الرواية. علماً أن (سارا) بوصفها شخصية مغايرة للأخريات تحمل سيميائيّة على مستوى الحضور الشخصي والمستوى اللغوي أيضاً.
كانت (سارا) هذه المرأة التي هزته وغيرته، على الرغم من أن هناك امرأة أتته من بعيد لتنام معه، ولكنه لم يكن يشعر بالمتعة، إذ كانت تلك المرأة (تانيا) النحيلة السمراء ذات ال (45) كلغم، تضاجعه وهو نائم، يودع (تانيا) ويتصل بـ (سارا) التي أزعجها بكل تأكيد تصرف شسيناسكي، فكأنها أحست بخيبة أملها في ذلك الاختبار. إن ما يميز شيناسكي هو الصدق، لم يكن يكذب أبدا، لذلك عندما أبلغ سارا "اسمعي. دعيني أوضح لك المسألة. أنت بالنسبة لي الرقم واحد، وليس هناك حتى من رقم اثنين". فتوافق على عودتها له في المساء عند السابعة، وفي أول اختبار حقيقي ينجح فيه أنه لم يستجب لتلك المرأة (راشيل) التي اتصلت به. كانت فتاة في سن التاسعة عشرة، وردّها دون أدنى تردد مع ما قد تخبئه له من ليلة ممتعة، ليعلق على تلك المكالمة "أقفلت الخط، لقد نجحت ولو لمرة".
بكل هذا العنف الروائي يمرر الكاتب شارلز بوكوفسكي رسالته الإنسانية، فكل شيء ممكن إن أردنا التغيير، فكأنه يراهن معا وبدرجة واحدة على الذات وعلى المرأة الشافية التي باستطاعتها إنقاذ من تحبّ من ضياع محقق وتلاشٍ يفضي إلى العدمية، لتصبح الحياة أكثر إنسانية. وأكثر متعة ومعنىً معاً. وبذلك يكون الكاتب قد واجهة "العبثية" بالتغلب عليها واختار أن يكون لحياته معنى، هذا المعنى الذي جسّدته الرواية، وكأنّه من باب آخر يواجه عبث الحياة بالكتابة الروائية التي تكتسب في حالة بوكوفسكي عاملا مساعدا على المقاومة أكثر من الجنس والخمر.
وتنبغي الإشارة هنا أن شارلز بوكوفسكي كان يكتب رواياته، ومنها هذه الرواية، من واقع حياةٍ عاشها، فهو يكتب رواية سيرة ذاتية، فالشخصية الروائية في هذه الرواية تكاد تتطابق مع شخصية المؤلف؛ فكلاهما ولدا في ألمانيا عام 1920، وهاجرا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وعملا في مكتب البريد، ويسكنان في لوس أنجلوس، وهنري شيناسكي كشارلز بوكوفسكي، منقطع للكتابة، ويعتاش عليها، كما تشير حياة الكاتب إلى أنه كان مدمنا على الكحول، ويعدها مهربا جيدا مما كان يعاني، كما أن الرواية تشير إلى أن شيناسكي قد تزوج مرة واحدة وأحب امرأة واحدة فقط، فارقته مرغمة بالموت، وهذا ما تقوله سيرة هنري شارلز بوكوفسكي كذلك.
من منشورات صحيفة الحدث الفلسطيني، عدد 140،