الله يقطع إبليسك يا فراس!
بقلم: أشواق عمر
قيل إن الجنّ كانوا يلهمون شعراء العرب في الجاهلية، فيتخذ كل شاعر منهم شيطاناً من الجنّ يوحي له بالمعاني، ويلقّنه فريد الشعر، وغريب القوافي.
فقيل إن (جندل) هو شيطان الأعشى، و(لافظ) شيطان امرؤ القيس، بل وأوغلوا في توهّمهم فنسبوا الشعر الجيد إلى شياطين وادي (عبقر)، وزعموا أن الشعراء يرتادونه لتلقي الشعر منهم.
وقبل أيام، صادفت قصائد على فيسبوك لشاعر ضليع في اللغة، بارع في الشعر، ويملك زمام الكلمة، وفي نفس الوقت مجنون به لوثة الشعر، مشاكس لا يستريح ولا يُريح، ولا (يترك أحداً في حاله)، ومجرد يمشي حراً طليقاً عارياً لا خجل ولا تردد.
وما أن قرأت القصائد حتى تلوّن وجهي بكل ألوان الطيف، وخرَجَتْ من فمي هذه الجملة
(الله يقطع إبليسك يا فراس حج محمد)! ما هذا؟!!
يقطع من فعل "قطع"، وفي لهجتنا الدارجة عندما نقول (الله يقطع فلان) فإننا لا نقصد أن يقطعه الله نصفين بالمعنى اللفظي للكلمة، لكن بمعنى أن يموت أو يفنى بالكلية، فينقطع ذكره عن الدنيا.
وما حملني على قولي ذاك أني قرأت قصائد موغلة في الفلسفة "الجنسيّة" المجردة من كل شيء، بأسلوب استفزازي، تنفُر منه النفوس، يضرب كل التقاليد والعادات المتبعة في المجتمعات المحافظة عرض الحائط، ويهدم أسوار الحياء والخجل، وينسف كل الحواجز بلا استثناء، ويجعل القارئ مرتبكاً مضطرباً متقززاً، يتلون وجهه بكل الألوان كما حصل معي، لينقسم جمهوره إلى أقسام، منهم من أصابه الوجوم، ومنهم من غرق في نوبة ضحك، ومنهم من وقف يتأمل القصائد وكأنها تمثال روماني عارٍ!
وأخال الشاعر مبتسماً ضاحكاً من ردة الفعل تلك، وكأنه جرّع القارئ عصير صبّار بالخردل الفرنسي الحلو!
لكن هذا ليس سبب اعتراضي وتحفظي وسخطي فقط، بل هو يهون أمام بعض الأسطر التي حوتها القصائد من تعدٍّ على المفاهيم الدينية، وإقحام الألفاظ القرآنية، واستخدام لفظ الألوهية في غير محله الصحيح، ويعزو الشاعر ذلك كله إلى المجاز، والرمزية، وحمل الكلام على أكثر من معنى.
قيل إن أحد الشعراء هجا ملكاً بقصيدة موغلة في الرمزية، وحين سأله الملك عن المعنى، قال: المعنى في بطن الشاعر، فقال الملك: ابقروا بطنه لنرى هذا المعنى.
فهل سنفعل مثل ما فعل الملك، لنرى ما بداخل تلك البطن "الكرش" المثقلة بالمعاني؟!
قرأتها وأنا أتساءل في نفسي، إن استطعنا (بلع) نص جنسي فاضح لهذه الدرجة، ثم السكوت على التعديات الدينية التي تمس العقيدة - أثمن ما يملكه المؤمن- فهل بعدها سنصل للعالمية، ونبلغ الإبداع الذي لم يبلغه أحد قبلنا، ونحقق النصر على أعدائنا، ونرجع مجدنا التليد؟!
هل هذا ما سنتركه للأجيال القادمة؟ هل هذا هو إرثنا؟ هل هو أثرنا الذي سنخلّفه على الأرض؟!
هل سنقدّم مثل هذه القصائد لأبنائنا، بدعوى الانفتاح، وتقبل الرأي الآخر، والحرية المطلقة، ثم نتركهم أمام موجة الإلحاد التي تضرب مراكبهم الصغيرة ظانين أن كل هذا سيحمي عقيدتهم؟!
وبعدها نجد من يدافع، فيقول إن التفسيرات متعددة، وأنتم لا تفطنون للإشارة، ولا تفهمون دواخل الشعراء.
وأنا أقول لهؤلاء "العباقرة" الذين يفهمون أكثر منّا، وأكثر من الشاعر نفسه! أليست الكلمة ملك الكاتب، فإن نطق بها تكون ملكاً للقارئ، إن الكاتب الفطن هو الذي يحسب حساب كل التفاسير لكلمته قبل أن يكتبها، فهو يوجهها لكل أطياف المجتمع، فيحرص كل الحرص ألا يُفهم كلامه بطريقة خاطئة، وما دامت عقيدته راسخة، وإيمانه في قلبه، فعلى الأقل ليظهر ذلك فيما يكتب! ولو بتجنب ما قد يُفهم خطأ، وليستخدم ذكاءه وفطنته وأدوات الكتابة التي يملكها في إبراز فكرته، بدلاً من تسليط كلماته المستفزة على عقولنا المجهدة التي تنشد الراحة والسلام حين تقرأ قصيدة شعر بعد عناء يوم طويل.
وأذكّر نفسي والشاعر أن الخوض في مثل هذه الأمور، والاستهانة بها، إنما هي من ظلم النفس، ومن الأمور التي تربك المؤمن، وتقدح في عقيدته، وتضعف إيمانه. قال تعالى:
"وَإِذَا رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِىٓ ءَايَٰتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِۦ ۚ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ ٱلشَّيْطَٰنُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ ٱلذِّكْرَىٰ مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ" (الأنعام، 68)
لذلك أقول بصدق (الله يقطع إبليسك يا فراس)، لأن ما كتبته هنا يا فراس... لا هو من وحي إلهي، ولا من وحي القلم، ولا من جنّ وادي عبقر، بل هو تلقين مباشر من إبليس بعينه!