فراس حج محمد

موقع يختص بمنشورات صاحبه: مقالات، قصائد، أخبار

في تأمّل تجربة الكتابة:

الحريّة وسؤالها الظاهريّ الأسهل

فراس حج محمد/ فلسطين

هل سيساعد كتاب "نسوة في المدينة" على أن تتحرر حبيبتي أيضا كما تحررت أنا؟ يبدو أن هذا السؤال إشكاليّ، وربما ارتقى ليكون معضلة تستدعي التفكيك، فليس سهلا على امرأة محبّة أن تتفاجأ بهذا الكم الهائل من النساء اللواتي كنّ على علاقة جنسية مع حبيبها بأوضاع مختلفة، سيكون هذا الكتاب عاملا منطقيا لإنهاء أي علاقة مهما كانت قوية ومتوغلة في الروح والقلب. التفسير جاهز ويترعرع بقوة، فهذا العمل خيانة وغدر وتلاعب وعدم تقدير، ويعطي مجالا للتشكيك بصدق تلك العلاقة التي كانت.

أتفهّمُ ذلك جيداً، وأقدّر ردة الفعل الطبيعية، ربما كانت مغامرة خطرة نشر مثل هذا الكتاب، وما يصاحبه من نشر الغسيل على العام، ليكون "السارد" الذي هو أنا متاحا ومباحا وعاريا لكل قارئ. أيضا أتفهّم جيدا ذلك الكم من الغضب العارم، وموجة البكاء الهستيري الذي عبّرت به حبيبتي بعد أن قرأت الكتاب، وناقشتني فيه. فكيف كنت في الوقت ذاته أنسج تلك العلاقات "المقرفة" وأنا على علاقة عاطفية معها. إنها مصدومة صدمة شديدة، وتكاد لا تصدق. هذا ما قالته لي بمرارة. إنها كانت تبكي بحرقة، اختلط النحيب بالبكاء، بالصراخ، بالتهديد، وماتت الكلمات وتلاشت ولم أعد أتبين ما هي. "أيعقل أن أكون ضحية وغبية إلى هذا الحدّ؟"، هذاما استنتجته، فكأن الكتاب خيّب أملها خيبة كبيرة وهائلة.

كل محاولاتي ذابت في الأثير، وأنا أحاول هادئا أن أشرح لها الهدف من الكتاب والفلسفة التي يقوم عليها، وأنني كنت أتحدى فيه نفسي وكل ما مرّ بي من قيود، أردت أن أتحرر من كل فكرة وكل شخص، حتى أنني أردت أن أتحرر منها هي ذاتها، لذلك كتبت الكتاب لنفسي تمرينا صعبا على الحرية، حتى لو خسرتها. هكذا كنت أفكر بيني وبين نفسي. لو خسرتها ولم تفهمني أكون على الأقل قد ربحت حريتي، ولكن هل يكفي كتاب واحد أن يمنح مؤلفه الحرية المطلقة؟

مالت بعد ذلك إلى القبول على مضض بالكتاب، مجبرة ربما على ذلك، مع أخذها قرارا شجاعا ألا تتركني، وتقطع العلاقة، فهي لا تتصور كما قالت: "أن تخلو حياتها مني". إنه موقف شجاع بالتأكيد، ممتن لها على أن اتخذته، لكنني أشعر بالعمق أنني قد شوهت صورتي أمامها، فهي إلى الآن لا تستطيع أن تزحزح صور النساء بأجسادهن وأنا أحدق فيهن ككائن أبله مجنون أستنزف شهوتي على صور أعضائهن الحميمة. كلما تذكرتْ ذلك ارتفع السور بيني وبينها، ولم تعد تثق بما أرسله لها من قصائد أو نصوص. تفكر دائما أن تلك النصوص ليست لها، وربما كتبت لامرأة أخرى موجودة في كتاب "نسوة في المدينة"، أو ربما لامرأة أخرى، وببساطة شديدة لم تعد على يقين أن تلك النصوص قد كتبت لها. لقد اتخذت قرارا عنيفا بألا تقرأ لي شيئا مما  أكتبه، لم تعد تبصرني ولا تبصر ذاتها في تلك النصوص. كأنّ الكتاب أعماها، بل إنها صارت أكثر إبصارا للحقيقة، متمنية لو بقيت عمياء، وتصدقني فيما أدعيه من حبّ وشهوة في تلك الكتابات.

أعترف أنني خسرت كثيرا هنا، فإن لم تقرأ لي "حبيبتي" ما أكتبه، فما هو مبرر الكتابة أساساً؟ عندما أبلغتني بهذا الموقف، فإنّ شيئاً من داخلي انقبض، وتراجع دفق الدم في شراييني، وشعرت بالبرد والعري الأكثر ألماً، على الرغم من أنني لم أسئ لها شخصيا لا في الكتابة ولا في الكتاب، بل كنت "أسيء" لنفسي، إن سلمنا أن هذا النوع من الكتابة هو شكل من أشكال الإساءة للذات الفردية في نظرتها لنفسها، أو في نظرة المجتمع لها، كون الذات الإنسانية لا تتحرك في محيط مقفل خالٍ من البشر.

من خلال تلك الحوارات النافرة التي جرت بيننا بعد نشر الكتاب توصلتُ إلى قناعة أن "حبيبتي" تريد لي أن أكون "منافقاً" و"مقيداً"، ولا تحبّ لي أن أكون حرّا. وعندما أخبرتها أنني لم أكن أنوي كتابة تلك القصص في الأساس، بمعنى أن العلاقة مع هؤلاء "النسوة" لم تكن من أجل بناء مشروع سردي مستند إلى تجربة حقيقة، كما قد يفعل بعض الكتّاب، بل قررت ذلك بعد أن غادرت تلك النساء عالمي، ونسيت أسماء الكثيرات منهن. لم يعجبها ذلك، بل رأت أنه لو كان من أجل تجربة الكتابة لكان أهون، ولفهمتني أكثر وأعطتني العذر، كما أنها رأت أنني قد انفتحت كثيرا وهذا ليس صواباً، ورأت أنه من الأجمل لها ألا تراني بهذه الصورة، "فيا ليتك لم تخبرني وتخبر العالم بحقيقتك "السافلة".

شعرت بالامتعاض من موقفها هذا، لأنها أولا تريد أن تجعل "تجربة الكتابة" تقليدا خاويا من المعنى الفردي الخاص المرتبط بكاتبه، دون أن يكون لي أسلوبي الخاص في البناء الكلي للكتاب ومصدر مادته، وتصر على أن تدخل تجربتي الكتابية لتصبح شبيهة بطريقة الكتّاب في اقتناص القصص وصناعتها عن عمد من أجل الكتابة فقط، وثانيا لأنها تريدني انتهازيا مستغلاً، فالعلاقات البشرية-من وجهة نظري- لا تخضع للتجربة من أجل أن يبني أحدنا مشاريع كتابية. لا أومن بهذا الهدف بتاتا، فأنا مثلا لم أحبها لأكتب فيها شعرا، وإنما أكتب فيها شعرا لأنني أحبها. حاولت أن أبين لها أن هذا هو كل ما في الأمر؛ لقد تجمعت لديّ قصص تلك "التجربة"، فأحببت أن أكتبها، معتمدا على الذاكرة وليس على تحرير المحادثات الأصلية التي جرت بيني وبين أولئك النساء. في الحقيقة لقد مضى زمن طويل بين آخر قصة في الكتاب وبين الزمن الذي شرعت فيه بكتابة تلك القصص.

ثمة جوانب إيجابية كثيرة في كتاب "نسوة في المدينة" على الصعيد الشخصي العاطفي، وأشارت إليها القراءات النقديّة المنجزة حول الكتاب. لماذا لا تريد "حبيبتي" أن تراه، وتصر فقط على أن تجعل بيني وبينها مجموعة أجساد عارية تحوّلت إلى مجرد "قصص وسرد"، انتهت عمليا ولم تعد موجودة. آمل أن تعيد التفكير مليّا بهذا، من أجل أن يكون لتلك التجربة أهميتها العاطفية والكتابية، ولنكون أقدر على الكتابة في المرات القادمة بحرية شاسعة الحدّ دون خوف من أنفسنا، قبل الخوف من الرقباء والجلادين، فأول درجات الحرية التحرر من أوهام الذات وحصارها، وعلى رأي (إيتيان دو لا بويسي):

"الحرية خالصةً لا يتمناها الناس البتة، لا لسبب آخر على ما يبدو إلا لأنهم إن يتمنوها ينالوها، فكأنهم يرفضون الحصول على هذا المكسب الثمين، لا لشيء سوى أن الحصول عليه يسير جدّاً". (مقالة العبودية الطوعية، ص152-153).

فهل سنستهلك الكثير من الوقت لنعيد ترميم العلاقة من جديد؟ وهل يمكن لهذه المرأة التي تحصنت وراء الجدار أكثر من قبل أن تفهمني وتستوعب ما تمّ وتكون أكثر حرية مما هي عليه الآن؟

 

المصدر: فراس حج محمد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 173 مشاهدة

فراس عمر حج محمد

ferasomar
الموقع الخاص بــ "فراس حج محمد" »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

738,745

فراس حج محمد

نتيجة بحث الصور عن فراس حج محمد كنانة أون لاين

من مواليد مدينة نابلس في فــلسطين عــام 1973م، حاصل على درجة الماجستير في الأدب الفلسطيني الحديث من جامعة النجاح الوطنية. عمل معلما ومشرفا تربويا ومحاضرا غير متفرغ في جامعة القدس المفتوحة. 

عمل محررا لغويا في مجلتي الزيزفونة للأطفال/ رام الله، وشارك في إعداد مواد تدريبية في وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، وكان عضوا في هيئة تحرير مجلة القانون الدولي الإنساني/ الإصدار الثاني الصادرة عن وزارة التربية والتعليم في فلسطين.

نشر العديد من المـقالات والقـصائد في مـجالات النشر المختلفة الإلـكترونية والصحف والمجلات في فلسطين والوطن العربي وبريطانيا وأمريكا وكندا والمكسيك. وشارك في ندوات وأمسيات شعرية ومؤتمرات في فلسطين.

الكتب المطبوعة: 

رسائــل إلى شهرزاد، ومــن طقوس القهوة المرة، صادران عن دار غُراب للنشر والتوزيع في القاهرة/ 2013، ومجموعة أناشيد وقصائد/ 2013، وكتاب ديوان أميرة الوجد/ 2014، الصادران عن جمعية الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل/ رام الله، وكتاب "دوائر العطش" عن دار غراب للنشر والتوزيع. وديوان "مزاج غزة العاصف، 2014، وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في القصة القصيرة جدا- دار موزييك/ الأردن وديوان "وأنت وحدك أغنية" عن دار ليبرتي/ القدس وبالتعاون مع بيت الشعر في فلسطين، وكتاب "يوميات كاتب يدعى X"، وكتاب "كأنها نصف الحقيقية" /الرقمية/ فلسطين، وكتاب "في ذكرى محمود درويش"، الزيزفونة 2016، وكتاب "شهرزاد ما زالت تروي- مقالات في المرأة والإبداع النسائي"، الرقمية، 2017، وديوان "الحب أن"، دار الأمل، الأردن، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية"، مكتبة كل شي، حيفا، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في متنوع السرد"، مؤسسة أنصار الضاد، أم الفحم، 2018، وديوان "ما يشبه الرثاء"، دار طباق للنشر والتوزيع، رام الله، 2019، وكتاب "بلاغة الصنعة الشعرية"، دار روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، 2020. وكتاب "نِسوة في المدينة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2020. وكتاب "الإصحاح الأوّل لحرف الفاء- أسعدتِ صباحاً يا سيدتي"، دار الفاروق للنشر والتوزيع، نابلس، 2021. وكتاب "استعادة غسان كنفاني"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2021، وكتيّب "من قتل مدرّس التاريخ؟"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2021. وديوان "وشيء من سردٍ قليل"، وزارة الثقافة الفلسطينية، رام الله، 2021. وديوان "على حافّة الشعر: ثمّة عشق وثمّة موت"، دار البدوي، ألمانيا، 2022. وكتاب "الكتابة في الوجه والمواجهة"، الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمان، 2023. وكتاب "متلازمة ديسمبر"، دار بدوي، ألمانيا، 2023. وكتاب "في رحاب اللغة العربية"، دار بدوي، ألمانيا، 2023، وكتاب "سرّ الجملة الاسميّة"، دار الرقمية، فلسطين، 2023. وكتاب "تصدّع الجدران- عن دور الأدب في مقاومة العتمة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمّان، 2023، وديوان "في أعالي المعركة"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2023، وكتاب "مساحة شخصية- من يوميات الحروب على فلسطين"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "الثرثرات المحببة- الرسائل"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "فتنة الحاسة السادسة- تأملات حول الصور"، دار الفاروق للثقافة، نابلس، 2025. 

حررت العديد من الكتب، بالإضافة إلى مجموعة من الكتب والدواوين المخطوطة. 

كتب عن هذه التجربة الإبداعية العديد من الكتاب الفلسطينيين والعرب، وأجريت معي عدة حوارات ولقاءات تلفزيونية.