من منشورات موقع صحيفة ليفانت
هل تغيّرت حاجات الإنسان الأساسيّة منذ ولد وحتّى الآن؟
فراس حج محمد/ فلسطين
كثيرا ما تستوقفني قضيّة التّجديد، وما يتّصل بها من مفردات ومضامين، وأقلّب الأمر لعلّي أجد راحة، فلا أجد إلّا مزيدا من التّعب والبحث، فيصعب جدّا أحيانا أن تصنف الشّيء الطّارئ جديداً أو قديما، لا أدري كم تغيّر الإنسان منذ وجد وحتّى الآن، ولا أظنّه قد تغيّر مطلقا، فهو خلق على فطرة الله الّذي فطره عليها، يحتاج ما يحتاج من ماء وغذاء وهواء، وحبّ وموسيقى كذلك!
نعم، إنّه يحتاج الموسيقى، كما يحتاج للماء والهواء والغذاء، الموسيقى بمفهومها الشّامل الكامل؛ كلّ ما فيه تناسق وتناغم وانسجام؛ فالإنسان بهيئتيه الدّاخليّة والخارجيّة نوع من الموسيقى، سواء في ذلك الكلمات واتّساقاتها أو الأنغام وتآلفاتها، وحتّى الألوان وانسيابيّتها. عدا تركيبه العضويّ المتكامل كأحسن تقويم!
فهل تغيّر الإنسان كي تتغيّر حاجاته الأساسيّة كلّها؟
الإنسان جزء من الطّبيعة، وليس كائنا يعيش فيها ويستغلّ خيراتها وحسب، إنّه جزء عضويّ منها ومن بيئتها، لا تصلح دونه ولا يصلح دونها، والطّبيعة عناصرها الماء والهواء والغذاء والموسيقى، فمن الطّبيعيّ أن تكون تلك العناصر الطّبيعيّة أجزاء أصيلة في تركيبة الإنسان الطّبيعيّ (المنسوب إلى الطّبيعة)، فيه الماء وفيه الهواء وفيه الغذاء، ولماذا إذن ننكر وجود الموسيقى في تركيبته؟ إنّها المكوّن الأساسيّ الرّابع لعيش الإنسان عيشا طبيعيّا. فقد جُهِّزَ الإنسان خلقا كاملا متوازنا وأعطيَ كلّ ما يجعله متناغما منسجما مع الهواء والماء والغذاء والموسيقى، فلا يصحّ في الأفهام شيء إذا اعتنيت بجانب دون الآخر، وعليه وجدت الموسيقى في أجزاء الطّبيعة وتفاصيلها، ووجدت في تركيب الإنسان العضويّ؛ وجدت في كلامه، ووجدت في دقّات قلبه وانتظامها، وفي حركة يديه وفي سيره بخطوات موقّعة برتابة معيّنة قبل أن يتعلّم الرّقص الّذي هو موسيقى تجسّدها الأعضاء بإيقاعيّاتها المختلفة.
وهذا بالضّبط ما جعل الدّين يتّكئ على الموسيقى، فكلّ الأديان كانت الموسيقى بمفهومها الشّامل حاضرة، في التّراتيل والأشعار والهمهمات والتّصفيق والصّفير، والرّقص وما يحدثه من تناغم ما، وقد حقّق القرآن الكريم موسيقيّته الخاصّة فيه من تنوّع في الجرس الموسيقيّ بين السّور، فجرس سورة الرّحمن ليس هو نفسه الجرس المصاحب لسورة (ق) أو سورة طه، ثمّة اختلاف تحسّ فيه وتستشعره، وتكاد لا تخطئه، كما أشرت إلى ذلك في بحث شعريّة القرآن والمنشور في كتاب "بلاغة الصّنعة الشّعريّة".
هل تغيّر الإنسان ليعدّل من مزاج الموسيقى، وليتغيّر إحساسه بها؟ وهل لها علاقة بالنّصّ كلماتٍ وصورا وتراكيب؟ وهل عدّل الإنسان من مزاجه في الطّعام والشّراب والهواء؟ إنّ الهواء هو هو، والطعام هو هو، والماء هو هو، لماذا إذن نفترض تغيير الموسيقى؟ ولماذا لا تبقى هي هي؟
أكتب كلّ ذلك وأنا أحاول أن تأمّل اعتراض المعترضين على أنّنا ما زلنا نكتب الشّعر التّقليديّ، إنّنا في الألفيّة الثّالثة، وما زلتم تكتبون الشّعر التّقليديّ؟ السّؤال ليس صادما بالنّسبة لي أو لأيّ مطّلع على حركة الشّعر، فإنّه سيلاحظ شدّة الاحتياج النّفسيّ للموسيقى، حتّى التّقليديّة، إنّني من أجل الإجابة على سؤال أو افتراض تَعَلُّق الشّكل بأيديولوجيا معيّنة، كتبت بحثا مفصلا ناقشت فيه المسألة من زوايا أخرى، وعرضت أمثلة للنمط التّقليديّ للشّعر الحديث عند كثير من شعراء الحداثة العربيّة، ومنهم أمل دنقل ومحمود درويش وسميح القاسم، حتّى شعراء قصيدة النّثر، فالشّاعر محمّد حلمي الرّيشة متزّعم قصيدة النّثر في فلسطين والمدافع عن فنيّتها بجرأة وقوّة، وإن خلق موسيقاه الخاصّة في ديوان "أيّها الشّاعر فيّ" إلّا أنّه لم يتخلَ عن الموسيقى بتشكّلاتها النغميّة القديمة. إنّه إحساس الشّاعر بأهميّة التّكوين اللّحنيّ في خلايا الإنسان العصبيّة والدّماغيّة والعاطفيّة.
وخلاصة القول: إنّ التّجديد لا يعني أن تهجر الموسيقى القديمة، فالتّجديد يكون بالألفاظ والتّراكيب والمضامين، وتوظيف اللّغة الحيّة المعاصرة، وخلق الاستعارات الجديدة والصّور الحيّة غير المطروقة، فهل تسطيع أنت أيّها المعترض على النّمط التّقليديّ للشّعر أن تخلق نوعا ثالثا من الجمل، بعد الاسميّة والفعليّة، أو نحوا غير ما تعلّمته من كتب القدماء، ستظلّ ترعى في خمائلهم وعالة عليهم نحوا وصرفا وتركيبا وموسيقى وشعرا.
يا صاحبي ليس هكذا تورد الإبل عليك أن ترى المسألة بتفتّح وشموليّة، ولا تلق الكلام على عواهنه، فإنّ غاربه سيجرّك نحو مزالق الهاوية، وإيّاك وابتسارات المعرفة؛ فهي النّقص المعيب والمنطق الغريب، فنصف العلم يتعب صاحبه، ويدخله في متاهات من الجهل المقيت.
______________________
* من كتاب بلاغة الصنعة الشعرية / ف1 (كيف يحدث الشعر، ص48-49)
** منشورات موقع صحيفة ليفانت