فراس حج محمد

موقع يختص بمنشورات صاحبه: مقالات، قصائد، أخبار

في تأمّل تجربة الكتابة

المسكوت عنه في الكتابة عن الأسرى

فراس حج محمد/ فلسطين

ثمة أمور مسكوت عنها في الكتابة بشكل عام، وأصبحت تلك التابوهات الثلاثة معروفة (الجنس والدين والسياسة)، وكل من يحاول الاقتراب من هذه الثلاثة أو واحد منها فإنه يوصم بالعهر أو الزندقة أو الخروج عن الصف الوطني والانحياز لأجندة خارجية. تابوهات أصبحت مملة، وممجوجة لكثرة ما تحدث عنها وفيها الكتاب والنقاد والقراء. لكنّ ثمة تابوهاتٍ أشد حساسية من تلك التابوهات السابقة فيما يتعلق بأدب الأسرى والحديث عنهم، فالكشف عن ضعف الأسير وانهزاميته أمام نفسه وفقدانه القدرة على المقاومة، والشعور بالملل وهو يعيش في جلباب البطولة الفضفاض، ومساءلة القدرة الوطنية والإلهية عما يحدث له، كل تلك القضايا ليست أمراً هينا بالنسبة للأسير أو أهله أو الاتجاه الوطني العام، ربما لهذا السبب يتجنب الأسرى الحديث عن أوجاعهم الإنسانية بحرية، بل دائما يتحدثون عنها فرعيا ضمن سياق عام، فيبدو خجولا ومواربا، ويصاحبه التبرير ضمن شروط الفن والحالة الإبداعية.

خلال قراءاتي لكثير من أعمال الأسرى مؤخرا والكتابة عنها وتأمل حالة الكتابة فيها، صرت ألاحظ هذا الجانب، ولم يعد خافيا، بل إنه يطفو على سطح الكتابة عاريا، مع انغماس الكاتب في الكتابة ينفلت منه هذا "الشعور المحرّم"، ويصبح مكشوفا، وقد تجنبت في مرات عديدة الحديث عنه أو الإشارة إليه إلا بشكل بسيط، خوفا من شعور الأديب الأسير بانكشافه أمام نفسه، وتعريته من قناع البطولة الذي ستستر خلفه، حفاظا على تماسكه ومقاومته لتكون أطول عمرا.

هذه الحالة التي وصل إليها الأسرى، نحن سببها، وأقصد بهذه الـ "نحن" كل فرد من أفراد الشعب، والحكومة بكل أجهزتها ووزاراتها، والإعلام بكل مؤسساته وبرامجه، والثقافة بكل إمكانياتها، والفصائل بكل اتجاهاتها اليسارية والوطنية والإسلامية، فكلنا "نحن" في واد والأسرى في واد، مما خلق شعورا مضادا لدى الأسرى أنهم تركوا وحدهم لمصيرهم، فهم ليسوا عزلا فقط، بل إنهم كذلك مقيدون وعاجزون عجزا من بعد عجز في حواجز ثلاث تنهش أرواحهم: البعد، والتهميش، والمرض.

لقد رأوا الأسرى مآلات الحالة السياسية وتوقف خض قضيتهم في قربة الإعلام المحلي والقومي والعالمي، فاتجهوا إلى أنفسهم وإلى أنفسهم فقط في تجليين اثنين، أولهما المقاومة البدائية لتحسين الظروف المعيشية على الأقل داخل السجن عبر خوضهم إضرابات طويلة عن الطعام، ولعل الأسرى الفلسطينيين وحدهم هم من قام بأطول عملية إضراب عن الطعام في التاريخ، سواء جماعية أو فردية، ووصولهم إلى هذه الحالة يعود إلى تلك الـ "نحن" التي أهملتهم إهمالا تاما، وأدى إلى تمادي الاحتلال في إهمال قضاياهم وعدم الاستجابة لمطالبهم، وليس أمرا كبيرا لدى قادته المجرمين لو مات الأسرى جوعا وإهمالا طبيا، بل إن البعض استشهد نتيجة ذلك، ولم يرفّ لهذا "الوحش" المستولي على ديارنا جفن، لأنه أمن العقاب فأساء الأدب والتعامل أيضا.

ويتضح التجلي الثاني في عملية الكتابة، وما تستدعيها من تفاعل خارج السجن وداخله، ونتيجة لحالة الأسرى التي بينتها سابقا، فقد لجأ كثير منهم للكتابة، فبرزت خلال السنوات الخمس الأخيرة مجموعة من الأسماء التي تكتب داخل السجن وتصرّ على الكتابة، وبما أن أولئك الأسرى من ذوي الأحكام العالية فإنهم لم يقفوا عند إنتاج كتاب واحد، بل أصبح كثير منهم ذوي مشاريع كتابية يأوون إليها ويعملون عليها جاهدين، وينفقون كل الوقت من أجل ذلك، دارسين ومحللين وكاتبين، وناشرين لها، وراجين من الآخرين التعرف إليها والتفاعل معها.

هذه العملية من الكتابة بالنسبة للأسير لم تعد ترفا وتزجية للوقت، ريثما تنتهي عدة السنوات التي يقضيها داخل الأسوار العالية، بل أصبحت هي "المتنفس" الذي يتنفس فيها الكتاب الأسرى هواء الحرية بكلماتهم وكتبهم.

ضمن هذه المعادلة من التفاعل ولد مشروع المحامي والكاتب الفلسطيني حسن عبّادي (لكل أسير كتاب ومن كل أسير كتاب)، مشروع ذو اتجاهين من الأسير إلى الخارج، ومن الخارج إلى الأسير، بحيث يوظف هذا المشروع أثر الكتابة وأهميتها في المساهمة في جعل قضايا الأسرى حية، ومن خلال هذا المشروع، دخل المعتقلات الإسرائيلية مئات الكتب، ووصل القراء أيضا العديد من كتب الأسرى وتمّ التعريف بها وقامت دور النشر بنشرها، وهذه العملية التبادلية أنتجت بكل تأكيد تفاعلا حيا في الاتجاهين، فالأسرى يكتبون عن تلك الأعمال التي يقرؤونها، والكتاب خارج المعتقلات يكتبون في أعمال الأسرى ويتفاعلون معها.

ربما نرى أن أثر هذا المشروع "العبّاديّ" بسيطا، أو محدود الأثر، بل إنه مع استمراره يدق جدران الخزان، دقا لطيفا لا يخلو من قرع أسماع هذه الـ "نحن" اللاهية غير المصغية. ويشكّل عملا عظيما وأثره يشبه كثيرا "أثر الفراشة"، فلا بد من أن له أثراً على المدى البعيد، ولذا تجب رعايته وتطويره، والتعامل معه بشكل أكبر، لأننا كلما وسّعنا الدائرة اتسع التأثير وعظم شأن الثقافة، ألم نرفع شعار "الثقافة مقاومة"؟ فكل قراءة لكتاب أسير هو إحياء له، واستحضاره بيننا، وكل كتابة عن كتاب أسير هو مساهمة في حريته وانطلاق كلماته ومعانيه لتغرّد في فضاءات رحيبة، فإنك لا تدري مع أي كاتب أو دارس ستلامس الكلمة سمع قدر ما، فيكون ما لم نتوقع حدوثه، ويتحقق المأمول.

لعل عملية الكتابة والقراءة لدى الأسرى تشبه إلى حد بعيد "تهريب النطف"، لما فيها من إصرار على الحياة والتواصل والوجود، وعدم الاستسلام للظرف الحالي، فالكتابة شرطها الحرية وهي نابعة من داخل الأسير نفسه، وإن شعر أحيانا بأن كل ما في هذا الكون يتآمر عليه، حتى ظن أن العناية الإلهية قد نسيته. وحتى لا يغرق الكاتب الأسير في تابوهات الأسر والاستسلام والانهزامية ويواجه نفسه بها في الكتابة، علينا أن نواصل مشوار التفاعل معه بكل وسيلة متاحة، فلنبعث للأسرى كتبا فيها الفرح والحب والغزل والتفاؤل والأمل، ولنستقبل كتبهم ونعيش معها ونصادقهم من خلالها، فقد شعرنا نحن القراء بشيء من هذا الأثر في رسائل الأسرى التي ولدتها هذه الحركة من التفاعل معهم على المستوى الثقافي كتابة وقراءة ونشرا ومتابعة. فلنستمر، لعل القادم أبهى وأجمل.

نيسان 2020

 

المصدر: فراس حج محمد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 254 مشاهدة
نشرت فى 25 إبريل 2020 بواسطة ferasomar

فراس عمر حج محمد

ferasomar
الموقع الخاص بــ "فراس حج محمد" »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

569,358

فراس حج محمد

نتيجة بحث الصور عن فراس حج محمد كنانة أون لاين

من مواليد مدينة نابلس في فــلسطين عــام 1973م، حاصل على درجة الماجستير في الأدب الفلسطيني الحديث من جامعة النجاح الوطنية. عمل معلما ومشرفا تربويا ومحاضرا غير متفرغ في جامعة القدس المفتوحة. 

عمل محررا لغويا في مجلتي الزيزفونة للأطفال/ رام الله، وشارك في إعداد مواد تدريبية في وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، وكان عضوا في هيئة تحرير مجلة القانون الدولي الإنساني/ الإصدار الثاني الصادرة عن وزارة التربية والتعليم في فلسطين.

نشر العديد من المـقالات والقـصائد في مـجالات النشر المختلفة الإلـكترونية والصحف والمجلات في فلسطين والوطن العربي وبريطانيا وأمريكا وكندا والمكسيك. وشارك في ندوات وأمسيات شعرية ومؤتمرات في فلسطين.

الكتب المطبوعة: 

رسائــل إلى شهرزاد، ومــن طقوس القهوة المرة، صادران عن دار غُراب للنشر والتوزيع في القاهرة/ 2013، ومجموعة أناشيد وقصائد/ 2013، وكتاب ديوان أميرة الوجد/ 2014، الصادران عن جمعية الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل/ رام الله، وكتاب "دوائر العطش" عن دار غراب للنشر والتوزيع. وديوان "مزاج غزة العاصف، 2014، وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في القصة القصيرة جدا- دار موزييك/ الأردن وديوان "وأنت وحدك أغنية" عن دار ليبرتي/ القدس وبالتعاون مع بيت الشعر في فلسطين، وكتاب "يوميات كاتب يدعى X"، وكتاب "كأنها نصف الحقيقية" /الرقمية/ فلسطين، وكتاب "في ذكرى محمود درويش"، الزيزفونة 2016، وكتاب "شهرزاد ما زالت تروي- مقالات في المرأة والإبداع النسائي"، الرقمية، 2017، وديوان "الحب أن"، دار الأمل، الأردن، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية"، مكتبة كل شي، حيفا، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في متنوع السرد"، مؤسسة أنصار الضاد، أم الفحم، 2018، وديوان "ما يشبه الرثاء"، دار طباق للنشر والتوزيع، رام الله، 2019، وكتاب "بلاغة الصنعة الشعرية"، دار روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، 2020. وكتاب "نِسوة في المدينة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2020. وكتاب "الإصحاح الأوّل لحرف الفاء- أسعدتِ صباحاً يا سيدتي"، دار الفاروق للنشر والتوزيع، نابلس، 2021. وكتاب "استعادة غسان كنفاني"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2021، وكتيّب "من قتل مدرّس التاريخ؟"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2021. وديوان "وشيء من سردٍ قليل"، وزارة الثقافة الفلسطينية، رام الله، 2021. وديوان "على حافّة الشعر: ثمّة عشق وثمّة موت"، دار البدوي، ألمانيا، 2022. وكتاب "الكتابة في الوجه والمواجهة"، الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمان، 2023. وكتاب "متلازمة ديسمبر"، دار بدوي، ألمانيا، 2023. وكتاب "في رحاب اللغة العربية"، دار بدوي، ألمانيا، 2023، وكتاب "سرّ الجملة الاسميّة"، دار الرقمية، فلسطين، 2023. وكتاب "تصدّع الجدران- عن دور الأدب في مقاومة العتمة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمّان، 2023، وديوان "في أعالي المعركة"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2023، وكتاب "مساحة شخصية- من يوميات الحروب على فلسطين"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "الثرثرات المحببة- الرسائل"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024.

حررت العديد من الكتب، بالإضافة إلى مجموعة من الكتب والدواوين المخطوطة. 

كتب عن هذه التجربة الإبداعية العديد من الكتاب الفلسطينيين والعرب، وأجريت معي عدة حوارات ولقاءات تلفزيونية.