فراس حج محمد

موقع يختص بمنشورات صاحبه: مقالات، قصائد، أخبار

في تأمّل تجرِبة الكتابة

وللكتابة أشواكها كذلك

فراس حج محمد/ فلسطين

على الرغم من أنني لست فلّاحا إلا بكوني ساكنا في الريف، وهذا ليس إلا توصيفا محايدا، فلستُ أمارس من أعمال الفلّاحين شيئا، لا الحراثة ولا البذار ولا قطف المحاصيل الزراعية ولا جدّ الزيتون، ولا أربّي المواشي والدواجن إلا أنني أجد الشوكة على الفرشة، فأتذكر المثل "المتعوس بلاقي الشوكة ع الفرشة". من أين جاءت تلك الشوكة؟ هل أتى بها إليّ سوء الحظّ أم أنها علقت بطرف البنطال خلال مشيي لمسافة قصيرة بين البيت والشارع لأستقلّ سيارة العمل أو خلال العودة من الدوام؟ لكنّ الطريق معبّدة وجانبيها خاليان من الأشواك.

تحيّرني هذه الشوكة، فأنا لا أندسّ في الفراش إلا بعد أن أغيّر ملابس العمل؛ لأرتديَ بيجامة صيفية مريحة لا تعرف طريقها إلى خارج المنزل.

شوكة الطريق على ما يبدو ليست تعبيرا مجازيا عمّا يصادف الإنسان من أشياء غير متوقعة من سوء الحظ، إنها حقيقة شوكة تَخِزُ جلدي وتزعجني، أفتش عنها وأزيلها دون اكتراث، وسرعان ما يزول ألمها.

لكن ثمة شوكة أخرى، مجازية هذه المرة، شوكة مزعجة، أحتاج للمثل الشعبي لأتمثل به عندما يصادفني التعثر في بعض الأمور، مثلا سقوط ذبابة صغيرة في كأس الشاي أو فنجان القهوة، أحتاج إليهما لأرتشفهما في خلوتي، على الرغم من أن الغرفة التي أعتزل فيها ليس فيها أي نوع من الحشرات الطائرة، فالناموس والذباب والهسهس وأشكالها لا تستطيع دخول الغرفة وتنغيص جوّ الهدوء فيها، ولا أدري كيف تسلّلت هي الأخرى ليكون موقعها في كأس الشاي وفنجان القهوة، تفسد هذه الذبابة الفضولية متعتي هذه.

تتسلّل الشوكة غير المتوقعة أيضا إلى دفتر الكتابة. هنا ليست الشوكة وحدها المجازية، بل أيضا دفتر الكتابة مجازي، فليس لدي أوراق وأقلام للكتابة، فقد تركت هذه الوسائل منذ زمن بعيد، فأنا أكتب على الحاسوب مباشرة أو على جهاز الهاتف المحمول دون الداعي لقلم وورقة. حتى بتّ لا أستخدم شبه الجملة التي يستخدمها الكتّاب في العادة "بقلم فلان"، بل إنني أنفر منها ولا أتذكر أنني استخدمتها مسبوقة باسمي في ذيل الكتابة أو تحت العنوان في رأس الصفحة، مع أن بعض المحررين يصرّون على وضعها إذا ما نشروا لي مادة في صحيفة أو مجلة أو موقع إلكتروني.

عندما كنت أستخدم القلم والورقة، كانت تصادفني الشوكة المجازية بوصفي أحد المتعوسين الذين يلاقون الشوكة على "فرشة الكتابة"، فيتعرّض قلم الرصاص للفطع، أتدرون ما هو فطع القلم؟ إنه انكسار رأسه المدبب. بالمناسبة لم أعثر على هذه الكلمة في المعجم. كنت أحبّ أن أكتب بقلم الرصاص، فخطي يبدو فيه أكثر جمالا مع أن موهبتي في رسم الحروف معدومة. لكن خطي بقلم الرصاص كان أجمل على أية حال، ويشعرني بالرضا عن نفسي، يكسر هذا الرضا فطعُ الرأس، فأحتاج للمبراة مرة أخرى.

بيني وبين قلم الحبر عداء خفيّ، فأول تلك التجليات العدائية هو أنني لم أكن أمتلك قلم حبر جيدا بل كان على الدوام من النوع الرخيص جدا. في امتحان الثانوية العامة كان لا بد من أن أكتب بقلم حبر جاف أزرق، ما يعني أنني لو كتبت بقلم رصاص سيكون علامة فارقة. ما قد يفسره المسؤولون بأنه "شيفرة" سرية بيني وبين المصحح لينحاز إليّ في عملية التصحيح، هكذا سيكون ما كتبته تحت دائرة الضوء والمساءلة والتشكيك والفحص الزائد. وفي الجامعة قبل شيوع الطباعة كان لا بد من أن أكتب الأبحاث والتقارير والامتحانات بقلم الحبر أيضا. كيف أكون طالبا جامعيا وما زلت أكتب بقلم رصاص. ربما شكّل لي هذا الأمر إحراجا ما. كان قلم الرصاص في تلك الفترة وحتى الآن أرخص من أرخص قلم حبر. فتستطيع امتلاك أربعة أقلام رصاص مقابل قلم حبر واحد، وربما اثنين مقابل واحد للأقلام الأكثر جودة.

في مرحلة المدرسة الأولى كان ممنوعا علينا استخدام قلم الحبر. ويتعرّض أحدنا للتعنيف من المعلم لو حاول أن يكتب بقلم حبر. وليس مسموحا استخدام قلم الحبر إلا بعد الصف الخامس الابتدائي، الطلاب الأكبر سنا منا كانوا يتباهون أنهم تجاوزوا مرحلة "الرصاص" إلى "الحبر". فلا يحتاجون ممحاة ولا مبراة. كنت إذاك شغوفا بتجاوز مرحلتي هذه إلى مرحلة الكتابة بالحبر. لأنها كانت تدل على أنني صرت أكبر.

في مرحلة الكتابة بالحبر، كانت الشوكة موجودة أيضا، عندما كنت أضع القلم في جيب القميص، فيفاجئني أنه قد فاض، فيفسد القميص الذي ربما كان وحيدا وقتذاك، وامتدّ الفساد إلى "الفنيلا" أو الشبّاح، أحتاج القلم لأكتب فأجد الشوكة تلك ولا أستطيع الكتابة، عدا ما أُصاب به من تلوّث أصابعي بالحبر. يستمر أثره على أصابعي طويلا، ولا يستطيع الماء والصابون محوه بسرعة وبسهولة. وكلما نظرت إلى أصابعي شعرت بشوكة تخزني، كنت أضطر أحيانا لأخبّئ راحتي في جيب البنطال كي لا أتعرّض للتعنيف من أمّي، مع أن التعنيف لا بد حاصل بسبب فساد القميص والشبّاح. إن هذا الفساد معناه أنني بحاجة إلى بديل جديد، والفرصة غير مهيّأة لتوفّر البديل، إذن سأضطر لارتداء القميص بما عليه من آثار بقعة الحبر التي لم تستطع أمّي إزالتها. أمّي كانت تغسل الملابس بيديها ولم يكن عندنا غسّالة. لم نعرف الغسّالة إلا بعد عام 2000، بعد أن أصبحت خارج سيطرة أمّي، ووقعت تحت سيطرة أخرى، لكنها بالتأكيد أقلّ حدّة من سيطرة أمّي.

شوكة الحبر كانت مزعجة، ولكن ليس بسببها عدت إلى الكتابة بقلم الرصاص. قلم الرصاص ألطف وأخفّ ويحدث بهجة في نفسي وربّما أعادني لطفولة ما. قلم الحبر ليس لي معه إلا ذكريات شوكة المتعوس، فانتقلت إلى الكتابة باستخدام الأدوات التكنولوجية، وهذه لها أشواكها الأخرى، من ارتباك في الاستعمال إلى الاحتياج لأمور التعديل والضبط والاحتفاظ بالمكتوب، وأكبر شوكة قد تصيبني بالخوف، هي تعطيل الجهاز وعدم القدرة على استرجاع ما كتبته وخزّنته في الذاكرة الاصطناعية.

ليس الفلّاحون وحدهم من يصابون بوخز الشوك، بل الكتاب أيضاً يعانون من وخزات لا عد لها، من أشواك لا حصر لها، وقد يفاجأون بالشوكة حتى وهم في عزّ أمان الكتابة والمكتوب، كأنْ يخرج إليهم قارئ بسوء التفسير والتعليل، فيصبحون منتهكين المحرمات والأخلاق العامّة، في تلك الحالة تستطيع فعلا أن تعرف كم من شوكة تلاقيك على "فرشة الكتابة" من حيث لا تتوقع. وكثيرا ما حدث معي ذلك، وما زال يحدث، ولكن لا بأس، ألم يقولوا: "المتعوس بلاقي الشوكة ع الفرشة". تعوّدت على الأشواك، وأصبحت أكثر احتمالا من ذي قبل.

 

المصدر: فراس حج محمد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 177 مشاهدة
نشرت فى 31 مارس 2020 بواسطة ferasomar

فراس عمر حج محمد

ferasomar
الموقع الخاص بــ "فراس حج محمد" »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

743,176

فراس حج محمد

نتيجة بحث الصور عن فراس حج محمد كنانة أون لاين

من مواليد مدينة نابلس في فــلسطين عــام 1973م، حاصل على درجة الماجستير في الأدب الفلسطيني الحديث من جامعة النجاح الوطنية. عمل معلما ومشرفا تربويا ومحاضرا غير متفرغ في جامعة القدس المفتوحة. 

عمل محررا لغويا في مجلتي الزيزفونة للأطفال/ رام الله، وشارك في إعداد مواد تدريبية في وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، وكان عضوا في هيئة تحرير مجلة القانون الدولي الإنساني/ الإصدار الثاني الصادرة عن وزارة التربية والتعليم في فلسطين.

نشر العديد من المـقالات والقـصائد في مـجالات النشر المختلفة الإلـكترونية والصحف والمجلات في فلسطين والوطن العربي وبريطانيا وأمريكا وكندا والمكسيك. وشارك في ندوات وأمسيات شعرية ومؤتمرات في فلسطين.

الكتب المطبوعة: 

رسائــل إلى شهرزاد، ومــن طقوس القهوة المرة، صادران عن دار غُراب للنشر والتوزيع في القاهرة/ 2013، ومجموعة أناشيد وقصائد/ 2013، وكتاب ديوان أميرة الوجد/ 2014، الصادران عن جمعية الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل/ رام الله، وكتاب "دوائر العطش" عن دار غراب للنشر والتوزيع. وديوان "مزاج غزة العاصف، 2014، وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في القصة القصيرة جدا- دار موزييك/ الأردن وديوان "وأنت وحدك أغنية" عن دار ليبرتي/ القدس وبالتعاون مع بيت الشعر في فلسطين، وكتاب "يوميات كاتب يدعى X"، وكتاب "كأنها نصف الحقيقية" /الرقمية/ فلسطين، وكتاب "في ذكرى محمود درويش"، الزيزفونة 2016، وكتاب "شهرزاد ما زالت تروي- مقالات في المرأة والإبداع النسائي"، الرقمية، 2017، وديوان "الحب أن"، دار الأمل، الأردن، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية"، مكتبة كل شي، حيفا، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في متنوع السرد"، مؤسسة أنصار الضاد، أم الفحم، 2018، وديوان "ما يشبه الرثاء"، دار طباق للنشر والتوزيع، رام الله، 2019، وكتاب "بلاغة الصنعة الشعرية"، دار روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، 2020. وكتاب "نِسوة في المدينة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2020. وكتاب "الإصحاح الأوّل لحرف الفاء- أسعدتِ صباحاً يا سيدتي"، دار الفاروق للنشر والتوزيع، نابلس، 2021. وكتاب "استعادة غسان كنفاني"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2021، وكتيّب "من قتل مدرّس التاريخ؟"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2021. وديوان "وشيء من سردٍ قليل"، وزارة الثقافة الفلسطينية، رام الله، 2021. وديوان "على حافّة الشعر: ثمّة عشق وثمّة موت"، دار البدوي، ألمانيا، 2022. وكتاب "الكتابة في الوجه والمواجهة"، الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمان، 2023. وكتاب "متلازمة ديسمبر"، دار بدوي، ألمانيا، 2023. وكتاب "في رحاب اللغة العربية"، دار بدوي، ألمانيا، 2023، وكتاب "سرّ الجملة الاسميّة"، دار الرقمية، فلسطين، 2023. وكتاب "تصدّع الجدران- عن دور الأدب في مقاومة العتمة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمّان، 2023، وديوان "في أعالي المعركة"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2023، وكتاب "مساحة شخصية- من يوميات الحروب على فلسطين"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "الثرثرات المحببة- الرسائل"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "فتنة الحاسة السادسة- تأملات حول الصور"، دار الفاروق للثقافة، نابلس، 2025. 

حررت العديد من الكتب، بالإضافة إلى مجموعة من الكتب والدواوين المخطوطة. 

كتب عن هذه التجربة الإبداعية العديد من الكتاب الفلسطينيين والعرب، وأجريت معي عدة حوارات ولقاءات تلفزيونية.