في تأمل تجربة الكتابة
لا أخاف شيئا كما أخاف من الرواية!
فراس حج محمد/ فلسطين
ثلاثة مصطلحات تشير إلى سلبية انتشار الرواية: الانفجار الروائي، والتضخم الروائي، والفيضان الروائي، المصطلح الأخير قرأته مؤخرا في صفحة الأستاذ الدكتور عادل الأسطة. ثمة توصيفات أخرى لظاهرة المرض الروائي من مثل التهافت الروائي والإسهال الروائي والاستسهال الروائي، وهذا التعبير الأخير استخدمه الناقد وليد أبو بكر في كتابه "ظاهرة التثاقف وآثارها المدمرة على السرد"، عندما قدم ملحوظاته العامة حول فن الرواية وكتّابها في الفترة الأخيرة من خلال مناقشته أربعاً من الروايات لثلاثة روائيين (أحلام مستغانمي، وأثير عبد الله، وربعي المدهون).
ما الذي يجعل الرواية ظاهرة مرَضية مزعجة ومقلقة؟ هل فكرتم يوما بأن الرواية أداة من أدوات السيطرة على الثقافة وعلى الحياة وعلى الغرق في الوهم؟ لماذا كل هذا الاهتمام بالرواية؟ كم رواية أنتج العالم في العقدين الأخيرين فقط؟ كم كاتبا أصبح مشهورا بفضل نشره رواية، كانت بالنسبة له ضربة نرد وحظّ ليس أكثر؟ كم من مشرّد صعلوك جائع أصبح بفضل الرواية كاتبا ثرياً في العالم العربي. كم من حبر وورق وجهد استهلك الكتّاب والمطابع والناشرون وهم يكتبون وينشرون روايات. كم من وقت سيلزم القراء أولا لقراءة هذا الكم الهائل من الروايات، وثانيا كم سيلزم من وقت وجهد للجان التحكيم لتحكيم هذا السيل العرم من الروايات الداخلة إلى السباق في كل دورة جديدة لجائزة ما.
كم شخصٍ كاد يموت مقهورا لأنه لم يفز. وبالمقابل كم شخص كاد يموت من شدة الفرح لأنه اقتنص الجائزة الأولى. كم من كاتب حالم وكاتبة حالمة يحلمان بالرواية ليلا ونهارا في المنام وفي اليقظة، ولا شيء لديهما إلا التفكير بالرواية، هذا هو "الهوس الروائي" القاتل، وهذا أيضا مصطلح توصيفي آخر ذو بعد نفسي مرَضي للاهتمام بهذا الجنس من الكتابة. هل أستطيع القول إن الرواية هي مرض الثقافة المعاصرة، عربية وغير عربية؟
ما الذي جعل الرواية ظاهرة إلى هذا الحد؟ الثرثار وغير الثرثار يحبّ الرواية، لقد تساوى ذو الميول الأدبية مع ذي الميول العلمية في حب الرواية، الكل عاشق مغرم بالرواية، يبذل الجهد والوقت والصحة من أجل عينيها، ومن أجل عيني ساردها تهون كل المصاعب والعقبات في سبيل وصالها والوصول إليها مطبوعة تحتل رفوف المكتبات، دخلت عنوة إلى حقل العلوم، كما حُشرت مضطرة في دهاليز التاريخ، وتهجمت على الرمزية والسوريالية وحطمت الشعر، أخذت كل شيء، إنها أشبه بالكارثة أو الإعصار المدمر.
ولكن ما الذي يجعلني أفكر بالرواية هذا التفكير السلبي؟ مؤخرا تبعث لي صديقة روائية تستفسر؛ إن كنتُ كتبتُ الرواية أم لا. وكتبت تقول: "سؤال هل كتبت رواية؟ أنصحك أن تكتب رواية. من خلال ما قرأته من كتاباتك أرى أنك ستبدع بالكتابة، لكن اختر موضوعا غير متداول". وأردفت رسالتها تلك برسالة أخرى: "لديك لغة جميلة الأهم مميزة مختلفة، أتوقع ستنجح في كتابة الرواية. أؤكد أنك ستنجح"، لم تكن هذه هي المرة الأولى، وربما لن تكون الأخيرة التي يتوقع فيها أصدقائي الكتّاب وصديقاتي الكاتبات أنني قادر على كتابة الرواية. على أصدقائي جميعا كتابا وكاتبات أن يعلموا أن الرواية ليست موضوعا غير مبتذل أو غير متداول، وليست كذلك لغة جميلة. إنها شيء آخر مختلف تماما، لا أدري كيف أصفه. لكنه بالتأكيد مغاير لكل ما عرفت وما توهمت أنني أعرف.
في الليلة السابقة صحوت من النوم باكرا كالعادة وأنا أهجس بالرواية. كنت أبحث عن الجملة الأولى، كنت أفكر بتلك الجملة المفتاحية الصادمة التي تجعل الروائي ممتلكا للرؤيا وللحكاية، وتقنع القارئ أنه أمام رواية لكاتب روائي فحل! كنت أفكر بتلك الجملة التي تشبه مفتتح الروايات التي اشتهرت جملتها الأولى. عليّ أن أتذكر أيضا نظرية "حسن المطالع" في القصيدة القديمة. يبدو أن الأمور تشتبه وتتشابه.
أضحكتني صفة الفحولة المقترنة بالروائي. فلم يحدث ووصف ناقد أو صحفي أو كاتب روائيا ما بأنه "فحل"، كيف يكون الروائي فحلا؟ نجيب محفوظ مؤسس الرواية العربية الحديثة والطيب صالح عبقري الرواية العربية وعبد الرحمن منيف المبدع الكبير في فن الرواية، لم يحدث أن وُصف أحدُهم بأنه فحل. اقتنعت للحظة أن الروائي ليس فحلا مهما كان مبدعا وعبقريا. الثقافة الحديثة لم تربط الإبداع بالفحولة، كالثقافة العربية القديمة. الشعر العربي القديم كان يقبل وجود الفحل، بل ويصرّ عليه، خذ مثلا كتاب "طبقات فحول الشعراء"، ولكن الرواية بنت الثقافة المعاصرة لا تستوعب الفحولة ولا تستسيغها. الفحولة بنت البداوة والتفكير الحسي القائم على المتعة المباشرة الشكلية، والرواية ربما هي امرأة أكثر حضارة وتعقلا ومتعة عقلية. المهم أنه لا فحل في الرواية هذه هي الخلاصة المهمة.
هل تحمل الرواية صفة الأنوثة المضادة للفحولة؟ هل تغلب الجانب الأنثوي من الروائي على ما لديه من "فحولة" مفترضة، تستدعيها طبيعة تكوينه "الذكوري". ربما يعرف الروائيون أنهم ليسوا فحولا، وعلى العموم المبدع الحديث ليس فحلا، وقد لفت انتباهي قول مارسيل خليفة في مقابلته الأخيرة مع ياسين عدنان في برنامج "بيت ياسين" أنه يشعر كثيرا بجانبه الأنثوي. كم مبدعاً مثل مارسيل يفتخر بأنثويّته؟ حتى الشعراء اليوم ليس فيهم من هو "فحل". شعراء التفعيلة وشعراء قصيدة النثر لا تنطبق عليهم صفة الفحولة مهما كانوا مبدعين، لماذا لا يوصفون بالفحول؟ وبالعموم أيضا وبما هو غالب على ظني أن صفة الفحولة لم توجد في سياق ثقافي عالمي إلا الثقافة العربية القديمة فيما يخصّ الشعر وحده، ثم انقطعت تلك الصفة، ولم تطلق مثلا على شعراء الموشحات ولا على الشعراء الصوفيين، ولعلّ أبا تمّام الطائي هو آخر شاعر فكّر في فحولة الكتابة الشعرية عندما قال: "والشعر فرجٌ ليست خصيصته طول الليالي إلا لمفترعه".
لن أكون فحلا إذن في الرواية، حتى وأنا أهجس بالجملة العبقرية التي صحوت وهي ترقص على شفتيّ، فكرت قليلا بعد أن رددتها مرات متعددة، أحسست أنها جملة لا بأس بها، جيدة، يمكن أن تشكّل مفتاح رواية جيدة. بعد أن رددتها مرات متعددة. شعرت أنني حامل بجمل أخرى تريد أن تنسلّ من عِطف هذه الجملة ومن معطفها. لم تعجبني اللحظة ولا طريقة ولادة هذه الرواية المحتملة، وفكّرت أنه لو استسلمت لهذه اللعبة سأكون مستعبدا لسارد ما يسلّني من فراشي ليجعلني أكتب ما يريده هو، حتى ينهي حكايته تلك. أحسست بالرعب، ربما امتدّ الأمر إلى سنة أو سنتين على أقل تقدير، وهي المدة المتوهمة لإنجاز رواية جيدة.
أنا الآن أمام لحظة فارقة إما أن أستمرّ، وإما أن أُميت السارد فيّ، وأطرده من رأسي، وأحافظ على دفء فراشي. نسيت الجملة الآن، ولن أسمح لساردٍ مهما كان مخلصا لي أن يراودني ليستعملني في كتابة روايته، السارد ليس شخصا سيئا بالتأكيد، لكنه سيطبّق عليّ قوانين ليس من السهل التعامل معها. ليس لديّ رغبة في ولادة مصطلح جديد للرداءة، لوصف ما كنت سأكتبه لو استسلمت لغواية تلك الجملة السردية المكتنزة. قد يكون أولها حلوا، ولكن ما الذي يضمن أن تظل الثمار طيبة حلوة؟ لن أنجرّ بسبب حلاوة البداية لأقع في مرارة النهايات المؤلمة؛ فقد علمني الحبّ ألا أكون متسرعا أحمق.
ألا قاتل الله الرواية ما أصعب لعبتها، وما أشد غوايتها، وما أعقد اختباراتها، وما أجبن كاتبا مثلي أن يخوض غمارها! عليّ أن أظل بعيدا حتى لا أقع في شرَك المصطلحات التي تستفزّني مع كل مقال أقرأه أو أكتبه عن الرواية والروائيين، فأنا لا أخاف شيئا كما أخاف من الرواية.