ما يشبه الرثاء للشاعر فراس حج محمد
توطئة لموت صغير اسمه الحب
بقلم: فاطمة نزال*
"يا قلبُ أنتَ وعدَتني في حُبّهمْ
صَبراً فحاذرْ أن تَضِيقَ وتَضجرا
إنَّ الغرامَ هوَ الحياةُ فمُتْ بِهِ
صَبّاً فحقّك أن تَموتَ وتُعذرا"
لا أدري لماذا ألحت علي أبياتُ ابن الفارض وأنا ألجُ هذا اليم من الألمِ الذي ورّطني فيه صديقي الشاعر فراس حج محمد. فمنذ أن وقعت عيني على العنوان وأنا أهيئ نفسي وأدرّبها على احتمال ما ستفيض به روحه. كنت أتابع صفحته على الفيسبوك بصفته صديقا مقربا منذ سنوات شريكا لي وعونا في أولى محاولاتي في العودة إلى عالم الكتابة والإبداع بعد انقطاع طويل، كانت بدايتُها في نصوص "رسائل إلى شهرزاد"، وتطورت إلى دفق متواتر زخمٍ من نتاجه الشعري والأدبي والنقدي الذي توّجها، مؤخرا، بهذا الديوان "ما يشبه الرثاء"، وكأنها محاولة لاجتراحِ حالة البين بين تلك التي نحاول أن نكون فيها متأرجحين بين مصيرينِ لا نمتلك فيهما الجرأةَ في اتخاذ موقفٍ لا نحتمل عواقبَه، أو أننا نريد البقاء في هذه الدائرة التي تحمينا من الانزلاق إلى هاوية القرار الذي قد تكون فيه نهايتنا الحتمية وانهيارنا معنويا فموتا مجازيا.
والشاعر حج محمد في "ما يشبه الرثاء" يكسر المرايا، فلا يريد لنا أن نرى وجها واحدا نتفرّسُه ونتعرف على خارطة الزمن التي حفرت في ملامحه، بل تجاوز ذلك وحطمها لنمسك بكل شظية منها بوجه وبحالةٍ شعوريةٍ تنتابنا، يريد أن يدلقنا أمامنا ويبعثر ما نخفيه وما نخشى مواجهته، قاسيا في رسم الصور، عنيدا في جلد الذات وقهرها، وساديا بسوداوية يائسة منه ومنا ومن محيطنا، إنها صرخةُ سيزيف المكتومة وعرقه الذي ينزُّ مع كل دحرجة وكل زفرة.
"لا شيء فينا كامل أو ناقص
كل شيء هو هو
ناشئ بفطرته
تشوهه الحياة بلغز مبتذل"5
مفتتح للديوان يصفع به وعينا ويخلخل كل ثابت. هذه المراوحة والمراوغة والتحايل على كل شيء ومن كل شيء لغز الوجود العبثي الذي لا نملك معه الجزم بجدواه أو عدمه.
"يا ليتني وقصيدتي كنا حجر
وفؤاد طيري من حجر
لعرفت ساعتها بأني أشعر الشعراء قافية وأندى من حضر
لكنني ما كنت إلا مثلهم عرّاب أحلام الضجر "9
كيف يلتقي وصف القصيدة بالحجر والقلب الحجر بالنداوة والطلاوة بالحرف بالقسوة؟ كيف يكون هذا التضاد مبهرا حين تضع نفسك حجرا يرشح النداوة بمخاض حقيقي يعيشه الشاعر لينعش المخيلةَ بصورةٍ إبداعيةٍ مبتكرة .
"والفكرة البلهاء شكّ بها المغني
والنغمة الولهى تردت في المزار
حملت بريح،
واشتاقها حرف الخريف
ولفها الشجر المسيج بالحنين
ومات الورد منتصف الطريق
وتبخر العطر المسافر في جسد الفرس
وعادت بالخروق على ملاءات السماء
تبحث عن جريح
عندي لكم خبر من الغيم السديم:
البدر ليلا قد سقط
في فكرة شوهاء، نضدها العدم"15
فكرة تدور في فلك سديمي لا معالم له، ولا رؤيا سوى القتامة، حتى السماء ملاءة خرقة والبدر الذي كان يوما يزينها سقط. كيف يكون الفرد كونا؟ ومن أين لنا كل هذا الاتساع؟ كل ما هو خارجنا هو داخلنا في الحقيقة وما يدور حولنا ما هو إلا انعكاس ذواتنا.
"الشعر صعب قل طويل سلمه
فقد انبرت تلك النجوم تغازله
تهوى الجلوس إلى المعاني الشاردة
والروح تنهض ترتقي درجات سلمها
وتصدح بالغناء لعلها تجد
الملائكة الشهود تكلمه "22
لطالما حاولنا تعريف الشعر لكن شاعرنا هنا يختصرُ كلّ التعريفات بأنه شأنٌ سماويٌّ علوي، وكأنه وحيٌ يوحى، فلا تفسدوه بأرضيتكم، وارتقوا إلى مطلقه، إلى سلامكم وسلمكم وخلودكم في نعيمه.
"النار في الأحشاء نادت موتها الموعود
أملته الوصية في احترام العشق
محرابا لإنجيل الوفاة
بحضور كل الليل والبوم الجليل
فتسربت روحي ليحفظها الأثير
أيقونة سوداء
كالحبر المراق على ضفاف الروح
فالعشق شاهديَ الأخير " 25
أيّ صورة شعرية هنا ينقلها هذا المقطع في قصيدة الوصية في حالة احتمال؟ وأي تجسيد لحياة اللحظة المحشرجة بحضور سوداوي لليل والبوم؟ ايقونة سوداء في بياض برزخي مهيب. إنه النقيض للموصوفة الروح بسوادها وسؤددها وكأن ما صبغها بهذا اللون هو قتامة الحياة وقسوتها وعذابات الحب وآلامه فاسبغ عليها صفة العذاب المقيم. وينقلنا الشاعر حج محمد هنا في هذا النص من المعنوي الى المادي بقوله:
"الشعر لا يشفع لي
لأكون حبيبا علنيا
فهي تريدني افتراضيا وأزرق
كيف سأظهر معها
وأنا أعاني ما أعاني
من عرج ونحول وشيب
وعروق وجهي الصابئة
وصوتي اليشغب خرخشة موحشة
تتنكر لي
مثلما يتنكر ظل في الظلام لقامة متلاشية
الشعر لا يشفع لي
وهي كذلك لا تعاني من بحة في صوتها
كيما تؤطرنا صورة مشتركة"34
هنا تظهر الصورة جلية في معاناة الشاعر الذي يأبى لا وعيه إلا أن يحضر ويجبره على التعامل بواقعيةِ هذه النظرةِ القاصرةِ للذات والذي يحاول جاهدا في وعيه أن يكابر ويعلن تعايشه مع عجزه الخَلْقي؛ ليعيش صراعا يحيل فيه تواري الحبيبة من الظهور معه بسبب إعاقته. إنها التبرير المنطقي من وجهة نظره لاستنكافها غير واضع اعتبارات أخرى قد تكون أشد وطأة عليها من تعليله المستند لعدم ثقة في مشاعرها وانعكاس ذاته التي تظهر هنا، وكأن هذه الحبيبة ما هي إلا بنت لخياله ربيبة فكره وعزلته وخلق تصوراته وأحلامه.
"أعلنت موت الشارة الأولى
لتبدأ محنة أخرى بشكل الدائرة
وانطبقتُ على الحياة
بلا نهر ، ولا طهر، ولا أنوار
هو ذا أنا شيء بدا مثل المشيب
وعند طلعته سراب
فأنا الغواية والمجون وسرب أحلام تذاب ..."45
الشخوص التي نخلقها وتحيا بداخلنا هي عالمنا وبدونها في الحقيقة نبدو وحيدين مهما كان عدد المحيطين بنا. تماما كسرب أحلام الشاعر التي تتبخر بفعل اليومي المعاش.
"ثُمن المساحة من دمي ذكرى
وشوق للحمام
وسدس قهر وبؤس واجتياح عواصف
هي لا تنام
وخمس تسكنه الجريدة والكتاب
وروح اشلائي الحرام
ونصف أنت وذكراك وسهدي وسفر الانتقام
وما تبقى من دمي المسحوق في دمّي اسوداد الروح في لغتي وداء الانفصام"
واحد صحيح تسكنه كل هذه الاجزاء، إنه النقيض الفعل المعتل الذي يجمع أشلاءنا ويتركنا أسرى البعثرة بين ما نريد وما يراد. نلاحق هذا التشظي في القسمة الضيزى، حيث يقول فراس:
"جسمي له حقلا ليزرع ما يشاء من البنين
ليعيد تشكيل الخريطة من جديد
ليصوغ أوجاعي على ألحانه عزفا بليد
لكن قلبك وحده غرس المحبة في الجنين "78
هل نعيش هذا في الأخيلة وكأن الواقع والمرئي هو مسوغٌ للوجود المعيش بينما المحسوس هو الإكسير الذي يمنح هذا الواقع استمراريته وعافيته؟ هل عندما نفتقد العلاقة السوية المستندة للتكامل المعنوي والمادي نلجأ لخلق هذا الموازي لنحافظ على توازننا الاجتماعي؟ هذا التشظي الذي يخلقه عدم القدرة على المواجهة لاعتبارات اجتماعية تنظم العلاقات، تجعلنا نعيش هذه المهادنة؟
ينقلنا الشاعر في نص جدلي مناقضٍ لصورة يوسف البريء إلى يوسف الجاني. حيث يقول:
"رأيت دماء يوسف نازفة
وقميصه المقدود من قبل ومن دبر جريح
ومقطع آخر
"رأيت يوسف ناعيا يبكي قتيل سكرته
وتاه في الأمواج تاه
وإخوتُه تولَوْا راحلين
تركوه في جب المهامة مستكين
وحدثوا الركبان
عن ولد وسيم أغرى الذئاب بكل دم
فهذا يوسف الباغي
وهذا بعض ما صنعت يداه"85
انها الصورة الأخرى المناقضة للرواية الذكورية التي تصف الأنثى دائما بالغواية وسبب الضلال، ولعلنا نستشف النفس الأمارة بالسوء بعيدا عن المؤثرات الخارجية، إنه الشر فينا والخير فينا ونحن من نحدد أي السبل نختار دون أن نرمي الآخرين بذنوبنا.
" من سيكشف المستور
ويجرؤ أن يقول: الذئب سيد على القطيع؟
من ينكأ المنكوء قيح جروحنا ويظهر المخبوء؟
هنا وجع معذب
تعب على تعب مركب
وأمامنا لهب وأصفاد وسور" 159
عوالمنا الداخلية هي الواقعية بينما ما نعايشه خارجنا مجرد هراء يقتات على أعصابنا وذواتنا وهو دائرة الأمان التي لا نريد الخروج عن مسارها بإرادة كاملة تماما كما خلق لنا الشاعر هنا هذا الفضاء ليجد المبرر لكل حياد .
وأخيرا ينقلنا فراس حج محمد إلى آخره في نصوص قصيرةٍ مرقمةٍ مكثفةٍ طارحةٍ أسئلةً وجوديةً فلسفيةً عميقةً قد تجاوز فيها نفسه وتألق:
"لحظة انفجار الذات
يغدو" اللاشيء خسارات عديمة الفائدة
نكتب أو لا نكتب
نحب أو لا نحب، نصدق أو نكذب، نحضر أو نغيب
نصمت أو نهذي
نحيا أو نموت
كل شيء صار شيئا واحدا
مؤتلف التناقض
أغنية تعاني من انفصام اللحن والكلمات
جسدا يشتهي جسدا
ويموت في طينةِ البدءِ الأوليّ
ليس مهما هذا الآن
لم يعد ذاك شيئا جديرا بالتفكير
فليمت هذا الكون
وليعد سديما لا جمالية فيه غير شكل الطين الأول"173
هكذا بدأنا وهكذا انتهينا حيث "ما يشبه الرثاء" صخرة سيزيفَ، أزاحها عن ظهره واستراح ووضعها على صدورنا تثقلها بالأسئلة وتفتح مغاليقَ الكَلِم.
وفي البدء وفي الختام لتبقى كلمات فراس حج محمد نجوما مضيئة في سماء الإبداع كما قال الحلاج: "كل بقاء يكون بعده فناء لا يعوّل عليه.. كل فناء لا يعطي بقاء لا يعوّل عليه".
________________________
* شاعرة وكاتبة من فلسطين. ألقيت هذه القراءة في حفل إشهار الديوان الذي تم في مقر دار طباق للنشر والتوزيع، رام الله، بتاريخ: 18-8-2019