في تأمل تجربة الكتابة:
اكتبْ لتكون إلهاً
فراس حج محمد
أعتقد أحيانا أن الكاتب يكتب فقط ليتشبه بالخالق، فالله هو الكاتب، وقد علم آدم الأسماء كلها ليقرأ وليس ليكتب، وخاطب الله الإنسان بـ "اقرأ"، ولم يخاطبه بـ "اكتب". الكتابة فعل إلهي، هي فعل خلق، ولذلك قال الشاعر جبران خليل جبران "إنما الناس سطور كتبت لكن بماء". كل الكتب السماوية نزلت لتقرأ، ألواح موسى، والزبور، وصحف إبراهيم، وصحف الناس فقط تقرأ يوم القيامة "هَاؤُمُوا اقْرَؤوا كِتَابِيَهْ".
هل يتحدى الكاتب الموت بالكتابة "هزمتك يا موت الفنون جميعها". كل فن هو كتابة، بالمعنى العميق للكتابة، هذا ما أشار إليه حبران في الشاهد السابق.
لا أتحدث عن وظائف الكتابة البراغماتية، وإنما عن الكتابة في أصل وجودها وفي دلالتها على فعل الإنشاء الذي يحمل معنى أبعد مما نتصور، تلخصها عبارة محمود درويش: "اكتب تكن"، وعبارة يوسف زيدان: "اكتب يا هيبا فمن يكتب لن يموت أبداً". لذلك فإن الكتابة تعد أخطر فعل بشريّ. الرسل لم يكتبوا، وإن كانوا يعرفون الكتابة، كانوا يتلقون مكتوبا يقرؤونه ويطبقونه.
الكتابة حيلة بشرية مراوغة ليصبح الكاتب خالدا لا يموت، وهي تنم عن أعلى درجات الشعور بالذاتية وحب الحياة والذهاب بها إلى أقصى مدى مستطاع.
من أعدم كتابا لم يعدم كائنا حيا فقط، بل أعدم شاهدا إلهيا، ليغدو شخصا عدوا للخلود وللخالق ولسر التكوين الإلهي. فكأنّه ملحد بمعنى من المعاني.
_____________
تعليق مادونا عسكر على اكتب لتكون إلهاً
يمكننا أن نستنبط من هذا النّصّ البديع ثلاثة مفاهيم على الأقل تمكّن القارئ من التّأمّل في فعل الكتابة المؤثّر في الأعماق الإنسانيّة.
المفهوم الأوّل: من هو الخالق؟ من هو الله؟
المفهوم الثّاني: ما هو الخلود؟
المفهوم الثّالث: الكاتب أرفع رتبة من الرّسل.
قد تكون هذه المفاهيم الثّلاثة الّتي أشار إليها ضمنا الأستاذ فراس خطيرة بالنّسبة للقارئ، وذلك لأنّه اعتاد على استنباط معاني المفهومين الأوّلين من الكتب والمقالات الدّينيّة. ولكنّ هذا النّصّ الّذي نتج عن تأمّل عميق أظهر هذه المفاهيم الثّلاثة من خلال خطورة فعل الكتابة الموازية لفعل الخلق.
البعض يقول إنّ الكتابة لا تغيّر في الإنسان شيئاً، وهنا ينبغي التّأمّل في التّجربة الإنسانيّة ككلّ حتّى نتلمّس فعل التّغيير الّذي تؤدّيه الكتابة على مستوى الأفراد أوّلاً ثمّ على مستوى الجماعة. لكنّ التّغيير يتطلّب فهماً ووعياً وتحرّرا من الخوف المرتبط بالدّلالات.
أعتقد أن الأستاذ فراس لم يتوقّف عند فعل الكتابة الموازي للخلق ليشرح لنا أنّ الكاتب يسعى إلى الخلود كتحدٍّ للموت. وإنّما أراد القول إنّ الكاتب الحقيقيّ يلامس الحقيقة وتنكشف له أنوار على أثرها يكتب. وماذا يكتب؟ هو يكتب القوّة غير المرئيّة حتى تصبح مرئيّة، ويجسّد القول شخصاً وبذلك يتمكّن الكاتب من التّأثير في الإنسان.
"لم يدفئني نور العالم بل قول أحدهم لي أنّي، ذات يوم، أضأت نوراً في قلبه"، والقول لأنسي الحاج الّذي عنى في هذا القول أنّ الكاتب يزيل الظّلمة عن البصيرة ويدخلها في ملامسة الحقيقة.
هل الكاتب خالق؟ نعم هو خالق وذاك معنى الإبداع. فالإبداع فعل خلق خالد.
هل يتحدّى الكاتب الموت بالكتابة؟ نعم، بل إنّه يغلبه لأنّ الكاتب الحقيقيّ يتحوّل إلى لغة، وبالتّالي يبقى حيّاً إلى الأبد.
هل الكاتب أرفع من الرّسل؟ نعم؛ هم تلقوا وأوصلوا وحسب، وأمّا الكاتب فيتلقّى ويكتب ويطوّر الفكرة، بل إنّه يخلق الفكرة. (إلى هنا ينتهي التعليق)
هامش إضافي على التعليق:
وقفة تأمليّة في محاولة الإجابة على سؤال "لماذا يكتب الكتّاب؟" فجاء هذا التعليق ضافيا، مضيفا، عابرا للب الفكرة التي استتر جزء منها في الذات، وإن ألمحت له الكتابة الأولى ولكنها ربما كانت تخشى أن تصرّح به، فجاءت هذه الكتابة نورانية سابرة وتتجاوز الكتابة الأولى إلى آفاق أخرى، تأمل على تأمل ليكون هذا الإبداع.