في تأمل تجربة الكتابة:
لم أكن مراوغا وكتبت ذاتي
فراس حج محمد/ فلسطين
أنجزت حتى الآن سبعة عشر كتابا في الشعر والنصوص والنقد، قدمني كثير من الكتاب والكاتبات العرب، أول هؤلاء كانت الأستاذة مادونا عسكر من لبنان عندما قدمتني في كتاب "رسائل إلى شهرزاد"، ثم قدمتني الدكتورة نهلة زيدان الحواراتي من مصر في كتابي "دوائر العطش" ثم الأم حنان باكير الفلسطينية المقيمة في أوسلو/ النرويج في كتاب "مزاج غزة العاصف"، ثم قدمني الأستاذ محمود شقير في كتاب "يوميات كاتب يدعى X"، وكتب على الغلاف الأخير للكتاب الأستاذ محمد راضي عطا. والكاتبة فاطمة نزال، كما وكتب على الغلاف الأخير لديواني "وأنت وحدك أغنية" الشاعر محمد حلمي الريشة، رئيس بيت الشعر في فلسطين (سابقا)، وقدمتني الأستاذة فاطمة نزال في كتاب "كأنها نصف الحقيقة". كما قدمت الدكتورة هيفاء الآغا وزيرة شؤون المرأة السابقة لكتابي "شهرزاد ما زالت تروي". ووظفت بعض تعليقات الكاتب المقدسي إبراهيم جوهر لتكون اقتباسات استهلالية لكتاب "الحب أن..."، كما عادت الكاتبة اللبنانية مادونا عسكر لتقرظ كتاب "بلاغة الصنعة الشعرية" بعد اطلاعها على مسودة الكتاب، وكذلك فعل الصديق والكاتب رائد الحواري والكاتبة المصرية سمر لاشين التي وظفت بعض آرائي في الكتاب في مقالة موسعة حول المرأة وشعرها بعد أن أطلعتها على الفصل الثالث من الكتاب وهو بعنوان "وهج المرأة الشاعرة". فلكلّ هؤلاء الكبار شكري وعظيم امتناني.
كما وأود أن أشكر في هذه الشهادة كل من أجرى معي حوارا كاشفا عن شيء من أناي وطقوس الكتابة، بدءا من أول حوار أجري معي ونشر في صحيفة "الحوار الجزائرية"عام 2008، وانتهاء بالحوار الأخير الذي أجراه الصحفي السوري وحيد تاجا عام 2017، ونشر في ملحق أشرعة الصادر مع صحيفة الوطن العمانية. ثمة حوارات كثيرة أيضا، بعضها لم يتح له أن ينشر وبقي مركونا في ذاكرة الحاسوب، يمتاز كل واحد منها بميزة خاصة، وكانت تلك الحوارات فرصة لمواجهة الذات بأسئلة الذات نفسها قبل أسئلة الآخرين.
ولكل من كتب عن تلك الكتب أو النصوص التي تلفظت بها على حين حب وشوق تحية حب وود خالصين، وهم في الحقيقة كثر، وأخص بالذكر هنا "ندوة اليوم السابع" في القدس التي ناقش أعضاؤها: ديوان "أميرة الوجد" و"يوميات كاتب يدعى X". و"شهرزاد ما زالت تروي" و"ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية"، وديوان "مزاج غزة العاصف".
وناقشت "الندوة الثقافية" في الخليل ديوان "أميرة الوجد" أيضا، وكرموني محتفين في أرض الجنوب الفلسطيني بهذا الشمالي النحيل، جعلني أهدي هذا الجانب من أرض الغزالة كتاب "مزاج غزة العاصف" فكتبت: "إلى وردة الجنوب الأرض والمرأة والقصيدة"، كما وأقدم امتناني لإدارة "متحف محمود درويش"، خاصة الصديق المحتجب الروائي سامح خضر، التي أتاحت لي الضوء في الوسط الثقافي في عاصمة الثقافة رام الله مرات متعددة، مرة بوصفي شاعرا لإطلاق ديوان "وأنت وحدك أغنية" ومرات أخرى باعتباري دارسا أدبياً لإطلاق كتاب "في ذكرى محمود درويش" وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية" وكتاب "شهرزاد ما زالت تروي".
لقد قدمني في هذه الاحتفاليات الثقافية كل من الدكتورة لينا الشخشير والدكتور وليد الشرفا والشاعر والصحفي يوسف الشايب والأديبة المقدسية ديمة السمان. كما قمت بتقديم أصدقائي الكتاب، فقدمت الشاعرة فاطمة نزال في حفل إطلاق ديوانها الأول "اصعد إلى عليائك فيّ"، وكذلك حاورت الكاتب المقدسي جميل السلحوت وقدمت كتابه "ثقافة الهبل وتقديس الجهل".
وفي نابلس، قامت اللجنة الثقافية في دار الفاروق بمناقشة عدة كتب لي، وكانت البداية بديوان "مزاج غزة العاصف"، ثم ديوان "وأنت وحدك أغنية"، وصولا إلى كتاب: "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية". وفي مكتبة البلدية نابلس العامة تمت مناقشة عدة كتب لي، وناقشتُ أيضا عدة كتب لأصدقاء ومثقفين، كنت أستفيد في كل مرة أضعاف مما كنت أتخيل، ويكفي أنني في كل مرة أساهم في صقل شخصيتي الأدبية والنقدية وكفاءة الحديث والتعبير والحوار وإدارة النقاش، وكلها مهارات ساعدتني تلك الندوات على التدرب عليها، وإتقانها إلى حد ما مع الوقت، وأستذكر هنا تلك الاحتفالية النقدية التي عقدت في منتدى التنوير وشاركت فيها مع الأستاذ الدكتور عادل الأسطة والكاتب رائد الحواري لمناقشة كتاب "قلب العقرب- سيرة شعر" للشاعر محمد حلمي الريشة، وكان من نتيجة تلك الاحتفالية ولادة دراسة "قراءة في كتاب قلب العقرب للشّاعر محمّد حلمي الرّيشة، ذلك المنتبه المختلف"، وأصدرتها في كتيّب مستقل، وفي منشور كتبه الدكتور عادل الأسطة حول الفعالية وقتذاك قال: "قدم الشاعر والناقد فراس حج محمد مداخلة قيمة حول شعر محمد الريشة، وكان فراس الذي كتب رسالة ماجستير جيدة حول السخرية في الشعر الفلسطيني أعد كتيبا مطبوعا حول مداخلته ووزعه على الحضور"، وقد رأيت في قوله هذا اعترافا بي ناقدا أدبيا.
إن كل عملية مناقشة لكتاب ما هي احتفالية بميلاده أو إرجاعه لدائرة الضوء، هذه الاحتفاليات التي تمنحني رضا من نوع ما لما صنعت يداي، لأرى نفسي في عيون محبة ومحايدة وناقدة، حتى وهي تفتش عن عيوبي كنت أستعد لسماع أقصى ما يمكن سماعه من نقد أو انتقاد أو تسفيه، وقد حدث هذا دون أن أمتعض أو يتغضن وجهي. بل ربما أحيانا كنت أنفر من المدح الزائد عن حده.
سبعة عشر كتابا حتى اليوم، لن أتحدث عما في هذه الكتب فسيجد من قرأها جزءاً كبيراً من انكساراتي وخيباتي وفرحي الطارئ القصير، فهي أنا كما أنا في الحقيقة، لم أسع إلى المراوغة ولو بجملة واحدة، فلن أضيف جديدا عما هو مكتوب فيها، وما زال في الجعبة الكثير من الشعر والنقد والنصوص والرسائل والشهادات التوثيقية، فكما كتبت الشعر والنص السردي كتبت المقال النقدي والرسالة الأدبية والوجدانية، آملا أن تتاح لي فأصدرها كلها كتبا، لعلها يوما ما تجد قارئا، يستفيد من رداءتها فيتعلم، قبل أن يستفيد مما فيها من إجادة، إن وجدت، فيتعلم أيضا.
أحب أن أعيد ما قاله أوكتافيو باث عن نفسه في أحد حواراته: "أحب أن أبقى في الذاكرة بقصيدتين قصيرتين أو ثلاث". هذا هو النجاح الحقيقي للكاتب الذي لست متأكدا منه حتى اللحظة، وسأكون راضيا عن نفسي في ظل هذا التكاثر المرَضي للكتّاب لو ذكرني القارئ لو بجملة واحدة، فالكل يمارس الكتابة هذه الأيام، والكل ينفر من الرداءة ويهاجمها، وتجد أول من يشارك بحفلة اللطم تلك هم الطفيليون المرضى، وكما قال الكاتب الروماني شيشرون: "نحن نمر بأوقات سيئة، فالأطفال لم يعودوا يطيعون أبناءهم، والجميع يقومون بتأليف الكتب". أفكر: كم هي حصتي من القراءة والثبات في الذاكرة في ظل هذا السيل الجارف من الكتابة والكتّاب؟ إن الأمر أعظم وأخطر من "السيل العرم".
وفي نهاية هذه الشهادة أشكر كل من قرأ، أو فتش سطرا من أحد بُطُون تلك الأفكار والنصوص المتكاثرة في غير موقع وصحيفة ومجلة وكتاب. والتحية كل التحية لكل تلك الأقلام ولكل هؤلاء القرّاء، ولاسيما من اختلف معي قبل من امتدحني، وأستحضر هنا ما قاله طه حسين: "وَيْل للأديب إن رضي أو اطمأن". فما زلت باحثا عن ذلك الكتاب الأكمل، ولعلني من أجل ذلك سأظل أقترف ذنب الكتابة إلى أن يشاء الله، وربما لن أستطيع فعل ذلك، فالكاتب في نهاية المطاف يكتب ما يستطيعه لا ما يطمح به، فما يطمح به يبقى حلما بعيد المنال. أظن أننا لو حققناه لكانت الكتابة لا جدوى منها بعد ذلك.