في تأمّل تجربة الكتابة
لا شاعر سوى الله
فراس حج محمد
تحدث بيني وبين الشعر بين فترة وأخرى نفرة غريبة، لا أستسيغ قراءته ولا كتابته، ولا أسعى لنشر بعضه مما هو مخزّن في ذاكرة الحاسوب. أبعد عن الشعر كثيرا، أرى ما يكتبه الآخرون ساذجا وبسيطا، وما كتبته أنا أكثر بساطة وسذاجة. إلى الآن أخجل من صفة "شاعر"، على الرغم من أنني أصدرت ستة دواوين، ونشرت عشرات القصائد في الصحف والمجلات، أشعر أن هذه الصفة لا تناسبني. ما الذي دفعني لأكون؟
أحيانا أشعر أن الكون كله شاعر، بما فيه أنا، أرى الشعر متجليا في كل شيء؛ في الصورة الفوتوغرافية، وفي البحث العلمي، والمقال السياسي، والنقد الأدبي، وفي وجبة الطعام التي تعدها زوجتي، وفي فستان ألاحظه على الفتيات، وفي أجسادهنّ المهفهفة وأصواتهن العذبة الرقراقة، وفي نقوش الحناء والمكياج. وفي الطبيعة البكر حتى وهي تبدو كأن يد الفوضى قد رتبتها، حالة من الرومانسية الموهومة في النظر إلى الشعر.
أصل أحيانا إلى حالة من الكره الشديد للشعر، تصيبني الكآبة لمجرد أن مرّت في ذهني كلمات: شعر، شاعر، قصيدة. صداع، ألم في المعدة، غثيان، زوغان في العينين. إنها "كلمات تلاشت معانيها منذ وقت طويل، وأصبحت دون معنى بسبب الإفراط وإساءة الاستعمال"*. أي غباء إذن تمارسه البشرية وهي تكتب شعرا، أتظن أنّ الشعر يغير وجه العالم؟ إنه لم يغير نفوس الشعراء، فهل سيغير الكون؟ يا لها من سذاجة مطلقة!
أتمنى لو لم أكتب يوما جملة شعرية واحدة، ويا ليتني ابتعدت عنه، وأتمنى لو توافيني الجرأة لأتخلص نهائيا من ذاكرتي وذاكرة الكتب وأعدم كل ما كتبته وأوهمت نفسي أنه شعر. ربما لم يكن سوى هلاميات في زمن هلامي تتعلق على أذياله خيبات متعددة.
هل فعلا كتبت البشرية شعرا يستحق القراءة والنشر والخلود؟ أظن أنه لا شاعر سوى الله، ولذلك لا شيء اسمه شعر، وكل ما كتبناه محض هراء، لغة منمقة، معبّأة بالرداءة، كلما كشفت عن طبقة باغتتك برائحتها العفنة. البشرية تخدع نفسها وهؤلاء يقودونها في أسواق الكلام، لا أحد يستحق أن ينافس الله في مهنته كشاعر، لم يستطع شاعر إلى الآن أن يكتب تلك القصيدة المتخيلة التي تضجّ في رأسه وتكاد تقضي عليه، لا تريد أن تخرج، يضرب ويضرب، يحاول ويحاول، ولكنّه يفشل في كل مرة، ولم يتعلم من فشله يعود من جديد ليعيش هذه الدوامة القلقة المقلقة، لذا لا يستطيع فعل ذلك غير العقل الكليّ لهذا الوجود، إنه الله، فالشعر سر الألوهية الخالد الذي لم يمنحه لأحد، وإن أعطاهم أشكاله الخارجية، ولكنه لم يسمح لهم بالنفاذ إلى العمق؛ لأن النفاذ يعني أن هناك من سيكتب كما يكتب الله!
هل يعني ذلك أنني سأعتدي على حرمة ما وأنا أعترف هذا الاعتراف؟ فليتركني الدعاة الأنقياء الأتقياء وشأني إذن، فالله جميل وشاعر ويحب الجمال والشعر، وهو من خلق الجمال والوزن والشعر واللحن والموسيقى، وسبحانه من أودع فينا الحب والموسيقى والنزوع إلى الكمال والاتحاد بروح الجمال الإلهي الذي لا يتوقف عن الدهشة، هذه الدهشة الطازجة المفقودة فيما ينزّ من سطور "الشعراء" على تلك المساحات البيضاء من الورق. ليتها بقيت نظيفة ولم تلطخها أيادي الإثم التي تدعي الشّعر، لعلها تكون صالحة ليتعلم طفل ما في مكان ما رسم حروف بريئة في لغة ما.
هل يحقّ المطالبة إذن بإسقاط صفة الشاعر عن كلّ هؤلاء؟ وهل يوجد حد أدنى منه ليكون مقبولا؟ هل ما قاله بوكوفسكي* كافيا للاستمرار في قول الشعر؟
تحتاج إلى الكثير من
اليأس
السخط
والتحرر من الوهم
لتكتب بضع قصائد جيدة،
الشعر ليس للجميع
ليكتبوه
أو حتى ليقرؤوه.
_____________________
* من كتاب "لا تحاول"، ترجمة علي لطيف، القصيدة رقم 7، ص33، والمقتبس الأول من المقدّمة ص12.