الرسالة السابعة والعشرون
كيف كنت في أول التسعينيات؟
السبت: 8-12-2018
عزيزتي الغالية، أسعدت أوقاتا،
لقد شعرت بالدفء وأنا أقرأ رسالتك الأخيرة، تلك التي جاءت طويلة على نحو أبهجني، وجعلني أعيد قراءتها كثيرا، وجاءت حميمية أكثر من أي وقت مضى، أحببت فيها ذلك التعاطف الكبير غير المعلن عنه صراحة في ثنايا الكلام، لكنه واضح، كنت محتاجا لها على الأقل وأنا أشعر بهذا البرد الريفي الذي يبدو لي أكثر وضوحا في منطقتنا الريفية القابعة على هامش هذا العالم المسكون بالهواجس.
تدفعني أجواء الشتاء بالعودة إلى ذاتي، وكثيرا ما يكون الشتاء فرصة مواتية لفعل ذلك، أعود إلى بداياتي وأراجع نفسي، وعلى الأخص بدايات التعلق بالكتابة والصحف في أوائل تلك الفترة؛ فكيف كنت في أول التسعينيات؟
كنت شغوفا بتجميع الصحف، وإلى الآن أشعر بحنين للصحف والمجلات. أعود إلى ذاتي قبل 26 سنة، كتاباتي الأولى قرأت بعضها، لم أستطع إكمالها، بعض تلك النصوص عارية ومخيفة وسيئة! يقع بين يدي شهادات تقدير قديمة ليس لها قيمة الآن؛ لا أحد يتذكرها ولا أنا! هل تطورت عما كنته أنذاك؟ كنت أكتب نصوصا غزلية وإلى اليوم أكتب نصوصا غزلية، كنت أكتب للفراغ، وإلى الآن أكتب لفراغ آخر مختلف. مؤلم أن تكتب لفراغ ما بعد أن أصبح فراغاً!
ما زال أرشيفي من كتب وأوراق يدل على ذلك اليافع الذي فارقته رغما عني بفعل الزمن الذي جرفني إلى حيث أنا الآن قابعا في الوحدة، مع فارق بسيط أنني أصبحت مجنونا ليس إلا أفكر بأشياء ربما بدت غير قيّمة بالمطلق، وأراجع كثيرا من الأفكار التي كنت أومن بها، واستقرت في وعيي طويلا، أراني ابتعدت كثيرا عن براءتي الأولى لأصبح أكثر هلامية وضياعا. نعم أكثر ضياعا، على الرغم من كل تلك الأشياء التي تحاصرني وتضغط علي.
لعلني صرت الآن أكثر وعيا على أشياء كثيرة، بفعل التأمل وهذه الانعزالية الاختيارية، أفكر بما قلته في رسالتك الأخيرة؛ اكتب لي عن كل شيء، عن العلاقة الحميمة وعن نفسكَ، دفعني ذلك لأفكر بذلك الهوس الذي يتملكني والصراع ما بين العذرية والأيروسية، غدوت أرى أن العذريّة في الحبّ، على رأي المثل الشعبي، "قُصُرْ ذيل يا ازعرْ". من أحبّ اشتهى ومن اشتهى يجب أن يأكل فيشبع ويشرب فيرتوي، ولا أظنّ عاشقا بعد ذلك يكتفي، وإلّا لا معنى لكل ما ندعي من حبّ، لقد صارحتك أكثر من مرة في هذه الرسائل التي أكتبها لاستحضارك أنني أرغب في الالتحام بك، لعلني أشعر بالدفء والخروج من هذه الدائرة المغلقة من الانعزالية، إذ لا معنى لكل من حولي وأنت الغائبة الوحيدة. لقد أعطتني هذه الوحدة قدرا كافيا لأقف في مسافة آمنة لأتأمل المشهد كله، ما زلت باحثا فيه عن إجابات لكل تلك الأسئلة التي تقلقني، ما زالت هواجسي في تكاثر، ونومي متقطعا.
ما زلت أقطع الوقت بالقراءات التي ألتهمها بيسر وسرعة، إلى الآن استطعت أن أتعرف إلى أدباء كثيرين كنت أجهلهم، هنري ميلر ومكسيم غوركي وفردريك نيتشه وبيسوا ويوسا، وأخيرا توقفت عند حياة مارك توين، هذا الكاتب الذي "كانت حياته سلسلة من المصائب: فهو الطفل المشاغب الذى ظفر بعداء الجميع، وهو الاقتصادى الفاشل الذى يعانى الإفلاس، وهو البائس الذى رأى أخاه يحترق، وهو الزوج الذى فقد أفراد أسرته وظل وحيداً". لعل أعظم ما شدني في سيرته الذاتية تلك السلاسة الممزوجة بالفكاهة في الحديث عن تلك المصائب التي عاشها، ولكن الأعمق حزنا في كل ما كتب حديثه عن وفاة ابنته جين، وحديثه عن ابنته سوزي التي كتبت سيرة حياته وهي ابنة ثلاث عشرة سنة، وقد توفيت هي الأخرى.
أما القراءات النقدية فكانت من نصيب كتيب صغير الحجم "الرواية الجديدة والواقع". يحتوي أربع مقالات مترجمة حول الرواية, إنه كتاب مهم للغاية، يبين علاقة الروائي بالواقع، تلك العلاقة التي حدثتك عنها كثيرا. تتلخص الفكرة فيما قاله المترجم: "لا بد من أن تكون لكل واقع لغة جديدة، وقوالب شكلية مبتكرة، ووسائط أسلوبية مبتدعة". لقد أشبع يوسا في كتابه "الكاتب وواقعه" هذه العلاقة بين الروائي والواقع، ولعلك تذكرين حديثه عن رواياته التي تستند إلى خبرته الشخصية، ولكن مع بعض التحوير والتعديل. هذه الفكرة لها صدى مختلف في هذا الكتاب. إنه يتغيا الحديث عن واقع آخر لا يوجد إلا في الرواية؛ فـ "حين يتعلق الأمر بالممارسة الروائية، ننطلق من لا شيء بحيث ينتفي ما قبل النص، باعتبار النص بحثا عن شيء ما، لن يوجد إلا بعد الانتهاء من الكتابة". إذن الروائي يكتب واقعا يراه ويتمنى وجوده. هكذا فهمت الكتاب وأبحاثه أن الرواية الجديدة هي احتجاج على واقع غير مُرْضٍ نهائيا.
هناك بعض الأخبار التي قد تسرك، أولها أنني حسمت الأمر بالموافقة على طباعة ديوان "ما يشبه الرثاء" مع دار طباق، وكان من المفترض أن أوقع العقد هذا اليوم، ولكن للظروف الجوية الباردة لم أستطع الذهاب، أيضا أشعر أنني أكثر حيوية فيما يخص العمل، خبر ثان قادم من معرض الكتاب الدولي في الدوحة، يفيد أن كتابي "شهرزاد ما زالت تروي" قد نفد من المعرض، إنها أخبار سارة بالتأكيد، بعد أن أخبرني قبل مدة ناشر الكتاب أن كتاب "كأنها نصف الحقيقة" هو الآخر قد نفد مع أنه طبعه طبعة محدودة.
انتبهي لنفسك جيدا في هذا البرد الشديد، ولتحرسك العناية الإلهية، وفقك الله ورعاك، وعلى أمل أن نلتقي دمت بود ومحبة ودفء قلبي الذي يشتاق لاحتضانك، لعله يدفأ ولو قليلا في هذا الشتاء القارس. كيف يبدو الأمر عندكم؟ أرجو أن تكتبي لي. فرسالة أخرى منك تجعلني سعيدا بالتأكيد.
فراس حج محمد