نساء حكمن العالم...بين سلطان العقل وسلطان القلب.. لمن كانت الغلبة؟


 
«كانت فائقة الجمال، لا شك في الأمر، ذلك الجمال الذي تعجز الكلمات عن وصفه، إنه الجمال المنتصر، ليس بأقل من الجمال الذي يذعن له الآخرون رغماً عن إرادتهم». بهذه الكلمات وصف الكاتب ويفي مليفل الملكة الآشورية سميراميس في روايته (ساركادون- أسطورة الملكة العظيم)، سميراميس حكمت الإمبراطورية الآشورية إلى جانب زوجها الملك نينوى لمدة اثنين وأربعين عاماً، وإن كان الأمر من خلف الكواليس، لتنفرد بالحكم خمس سنوات بعد وفاته، ويقال إنها كانت شديدة الجمال، واسعة العينين، ذات رموش كثيفة ونظرات ودودة.
 
عُرفت سميراميس بالحكمة والذكاء الحاد، بالقوّة والغموض، برشاقة الجسم والطول الفارع، كما تنسب إليها إنجازات عظيمة، منها تشييد الجنائن المعلقة (إحدى عجائب الدنيا السبع)، والعديد من الإنجازات العمرانية والنهضة الفكرية، وقيادة الحملات العسكرية التي يعجز عنها أشد الرجال. أماكن وبلاد... شهدت حروباً وانتصارات، فتوحات، وخيانة شعب وعرش، ارتفاع صروح وسقوط ممالك. صدق معها القول: وراء كل رجل عظيم امرأة. كانت امرأة ليست ككل النساء، بل من نوع فريد، يبدو على هيئة رأس ناعم، عقل راجح، دهاء لا يتكرر، فانتقلت من عرش القلب إلى عرش البلاد. أولئك النساء سلبن ألباب الملوك ليتوجن ملكات في مختلف الأزمان، حكمن بلاد وحضارات، فكانت لبعضهن حكايات عظيمة شرفت به تاريخ بلادهن، ومنهن من تسببن بثورات وحروب عبر التاريخ والأزمان. تلك قلوب وعروش تربعت عليها نساء خلدهن التاريخ، وهززن رجالاً وملوكاً وممالك ليتهاوى بعضها أو لينتصب الآخر صروحاً عظيمة عبر الأزمان في الذاكرة الإنسانية.
يحفل التاريخ بالعديد من قصص الملكات اللاتي حكمن شعوباً ودولاً في مختلف بقاع العالم، وتربعن على عرش الحكم فترات زمنية طويلة، حققن فيها نجاحات وإنجازات وبطولات عظيمة، ولا يختلف اثنان على قدرة وذكاء المرأة وجرأتها، وإن كان بعض الناس يقف عند حكمتها عندما يتعارض الأمر مع العاطفة في اتخاذ القرارات الحاسمة.
إذا تتبعنا الروايات عن بلقيس- التي ورد ذكرها في القرآن الكريم- مع النبي سليمان (عليه السلام) في سورة النمل، لعرفنا ما أكسبها شهرة لم تكن للكثير من الملوك من قبلها أو من بعدها، ضمنت أن يبقى ذكرها خالداً عبر العصور، فضلاً عن أنها سليلة حسبٍ ونسب. كان أبوها ملكاً، وقد ورثت الملك عنه، إلا أن أشراف قومها لم يعجبهم أن يتبوأ عرش بلادهم امرأة، فحاكوا المؤامرات ضدها، وكان من بين الطامعين بالعرش الملك «عمرو بن أبرهة» الملقب «بذي الأذعار»، فخافت بلقيس على بلادها ونفسها، وتركت الحكم بإرادتها لتحمي شعبها، إلا أن الفساد والفوضى عما البلاد لاحقاً، لتعود بلقيس للتخلص من «ذي الأذعار»، فدخلت عليه ذات يوم في قصره، وظلت تسقيه الخمر وهو ظانٌ أنها تسامره، وعندما بلغ الخمر منه مبلغه، استلت سكيناً وذبحته، وهذه الحادثة هي دليلٌ جليّ وواضح على رباطة جأشها وقوة نفسها وفطنة عقلها وحسن تدبيرها. هذا، وتشير الوثائق إلى ازدهار مملكة سبأ في فترة توليها العرش، إذ تمتع أهل اليمن بالرخاء والحضارة والعمران والمدنية. كما حاربت بلقيس الأعداء، ووطدت أركان ملكها بالعدل، وساست قومها بالحكمة. لن أتوقف عند كليوباترا، أشهر ملكات مصر، لأنها معروفة جداً عبر مسرحيات وروايات وقصائد، كافية لتطبق شهرتها الآفاق، ويصبح من غير المجدي تلخيص سيرتها. لكنني سأتوقف عند زنوبيا، التي حكمت مملكة تدمر، عندما كانت أهم مدينة وحاضرة في عصرها، فبرزت وسطع نجمها في أيام بعيدة، وتبدو زنوبيا كأنها واحدة من الأساطير، فقد كانت عربية الأصل، ذات شخصية قوية، تجيد اليونانية والآرامية، ولم تكن تجهل اللاتينية. كانت امرأة ليست كالنساء، عاشت عظيمة وتوارت عظيمة أيضاً، فكانت نموذجاً نسائياً رائعاً لقيادة وتثبيت أركان الدولة إلى حيث لا يستطيع الكثير من الرجال، وقال أحد المؤرخين يوماً عنها «إنها كانت ذات رأي وحكمة وعقل وسياسة ودقة نظر وشدة بأس وجمال فائق، كانت امرأة حسناء، بشرتها قد لوحتها شمس الصحراء يلقبونها بالزباء، وسميت كذلك لطول وغزارة شعرها، أسنانها بيضاء، فاعتقدت نساء روما بأنها زرعت اللؤلؤ.. صوتها قوي وكلامها ملحن. فعاشت بعظمة ورحلت ببهاء».
نصل إلى شجرة الدر، التي كانت جارية من جواري الملك الصالح، لكنها لم تكن كباقي الجواري، بل تميزت بالذكاء الحاد والفطنة والجمال، كما نالت الإعجاب بفتنتها وفنها، إذ كانت متعلمة، تجيد القراءة والخط والغناء. أعجب بها الملك نجم الدين واشتراها، ولقبها بشجرة الدر. كانت فريدة لديه، حيث حظيت عنده بمنزلة رفيعة، فأعطاها الحق في أن تكون المالكة الوحيدة لقلبه وعقله، وصاحبة الرأي السديد الذي يصغي إليه، ثم أصبحت الشريكة الشرعية وأم ولده خليل. احتلت حياة شجرة الدر مكانة كبيرة في التاريخ لقوة نفوذها وذكائها ودهائها وقدرتها العجيبة في الحكم. وقد خلد التاريخ ذكراها وذكر الخدمات التي قدمتها للمسلمين ومصر. من هنا وهناك تتداعى حكايات التاريخ مسجلة للمرأة الحاكمة قدرتها على استخدام الحيل السياسية لفرض سيطرتها على الممالك، ومجازفتها بكل شيء في سبيل ذلك، بعكس الصورة النمطية عن المرأة. تأتي الملكة حتشبسوت، أعظم ملكات مصر الفرعونية، كأعظم شاهد على دور المرأة المميز وقدرتها على الإدارة والحكم. هذا، على الرغم من كثرة المعارضين لها، والرافضين لوجود امرأة على كرسي العرش. على الرغم من تلك المعارضة، تمكنت حتشبسوت من إحكام قبضتها على الحكم عشرين عاماً، نعمت فيها البلاد بالكثير من الرخاء والازدهار. ولكن، عندما كثرت عليها الضغوط من الكهنة وقادة الجيش، تنازلت عن العرش فقط من أجل مصلحة البلاد، تميزت حتشبسوت بالكثير من الصفات التي تؤهلها لأن تكون ملكة متمكنة على عرش مصر، يأتي في مقدمتها انحدارها من أصول ملكية، نسبها إلى «آمون»، تمتعها بذكاء باهر وإلمامها بالمهارات القتالية التي نافست بها الرجال.
مع ذلك، فإن العديد من المنتقدين للمرأة وقدرتها على الحكم يذهبون للبحث عن قصص وروايات فشلت فيها النساء، علهم يجدون ما يروي ظمأهم في التقليل من شأنها وإمكانية نجاحها عندما يتعلق الأمر بالقدرات القيادية، فالعديد منهم يرى أن هناك قاسماً مشتركاً بين معظم الملكات يتمثل في النهايات غير السعيدة، والتي تسبقها عادة حالة من الرفض الشعبي العارم، ويعود ذلك إلى اهتمامهن بالإنجازات والمكاسب السياسية دون الالتفات للإنسان، فباستثناء بلقيس التي سلمت الحكم طوعاً للنبي سليمان عليه السلام، قررت الملكة كليوباترا الانتحار خوفاً من الأسر بعد خسارتها كل شيء، وكذلك فعلت الملكة زنوبيا التي انتحرت بعدما أهينت وجرّت بالسلاسل. أما شجرة الدر، فقد تم قتلها بالقباقيب - كما يقال - وقذف جسدها من فوق القلعة وظلت جثتها ملقاة لعدة أيام قبل أن تُدفن. في جميع الأحوال، فإن هذه القصص تبدو أمثلة قاصرة عن تأكيد أو نفي قدرة المرأة على الحكم، فقد شهد العصر الحديث شخصيات نسائية برزت بقوة في مجال المناصب السياسية العليا كرئيسة وزراء بريطانيا مارغريت تاتشر التي اشتهرت بصلابة إرادتها ورأيها وعنادها حتى أطلق عليها لقب «المرأة الحديدة»، وكذلك أنديرا غاندي في الهند، وبنازير بوتو في باكستان، وكوروزان أكينو وغلوريا ماكاباغال أورويو في الفيليبين، وأخيراً يوليا تيموشينكو في أوكرانيا. بعيداً عن الأساطير التي رويت، والحقائق غير المؤكدة، تبرز العديد من التساؤلات عند الحديث عن المرأة والعرش، عرش القلوب والبلاد. يبقى السؤال وجوابه مثار جدل ونقاش. إلى حين يجد المرء الجواب، تبقى النساء منبعاً للإلهام العالمي، ورمزاً للقوة والجمال في أنحاء العالم وفي شتى المجالات، من الأدب والفن، إلى الاقتصاد والإدارة. أكبر سند على ذلك قول الأديب والمسرحي المصري توفيق الحكيم: «إن عقل المرأة إذا ذبل ومات فَقَد ذبل عقل الأمة كلها ومات».

 موقع آثارنا

 

fauze

فوزي أحمد

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 345 مشاهدة
نشرت فى 5 إبريل 2013 بواسطة fauze

fawzi fawzi

fauze
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

146,305