«النمنم» نجح فى تشريح دقيق للغزوة وللزمن الذى حدثت فيه..
ثوابت النبى صلى الله عليه وسلم تكشف حقيقة إجرام الجماعة الإرهابية وبراءة الإسلام من أفعالها
بقلم: أشرف التعلبى
فى التاريخ الحكم والعبر، التجارب والسير، هو ماض، والماضى لا يموت ولا ينقطع، فيه ما يستحق أن نتأمله ونتعلم منه، ودائما يستحق التاريخ أن نعيد قراءته فلا حاضر أو مستقبل دون ماض، ومن هذه الحكمة والعبرة صدر كتاب جديد للكاتب الصحفى الكبير حلمى النمنم، بعنوان «يوم حنين» قراءة تاريخية، يتناول فيه غزوة حنين.. الغزوة بكل ما فيها من أحداث سبقتها وتبعتها، وهو ما يجعلنا نقول إن الكاتب نجح باقتدار فى تشريح دقيق للغزوة وللزمن الذى حدثت فيه، ثم فندها وربطها بحاضرنا وما مررنا به من أحداث تاريخية حديثة، ثم قدم لنا دروسا وعبرا نستفيد منها اليوم ثقافيا وحضاريا وسياسيا.
يقول الكاتب المعروف بثقافته الواسعة كونه واحداً من كبار المفكرين فى مقدمة الكتاب الصادر عن «دار الكرمة»: إن دراسته تهتم بقراءة وقائع وأحداث غزوة حنين قراءة تاريخية، وربما حربية وسياسية.. وقعت غزوة حنين بعد فتح مكة مباشرة، وفى الدراسات التاريخية لغزوات النبى محمد (صلى الله عليه وسلم) لا تجد هذه الغزوة بنفس الاهتمام والاحتفاء اللذين تجدهما غزوتا بدر وأحد مثلا، على الرغم من أن لها ظروفًا خاصة وتختلف فى طبيعتها وأهدافها عن كل ما سبقها من غزوات فى صدر الإسلام، وإن صح التعبير يمكن القول بأن «حنين» كانت غزوة استباقية، فقد أراد النبى أن يستبق الخصوم، من قبيلة هوازن تحديدا، الذين قرروا مساعدة «ثقيف» فى الهجوم على مكة لضرب القوة الوليدة بها، وكان فتح مكة يعنى الالتحام بين يثرب ومكة تحت قيادة النبي، بما يهدد مكانة ونفوذ المناطق والقبائل الأخرى القريبة فى جزيرة العرب، وهناك تنافس تاريخى بين مكة والطائف وكانت الطائف مدينة زراعية متميزة، وكانت تجارية كذلك، يضاف إلى ذلك أن الطائف كان بها بيت للعبادة ينافس الكعبة، ويتردد عليه عرب الجزيرة وكانت تمتلك علاقات تجارية ودينية مع اليمن، بما ضمن لها مكانة متميزة، والآن بعد فتح مكة، ونجاح النبى فى توحيد مكة ويثرب معا، وارتفاع صوت المسلمين، فإن المستقبل للكعبة وزوارها، والوضع الاقتصادى والتجارى سوف يسير لصالح مكة والدين الجديد وهكذا قرر أهل الطائف الاستعداد لغزو مكة، لضرب ذلك النموذج الجديد وتحطيم القوة الصاعدة.
أما جيش النبى - فى تلك الغزوة - فقد اختلف تكوينه هذه المرة، ففى الغزوات السابقة كان الجيش يتكون من المهاجرين وعدد محدود من الأنصار، كما كانت الحال فى غزوة بدر الكبرى، أو من المهاجرين والأنصار معا، كما فى سائر الغزوات، لكن بفتح مكة اختلف الأمر، لقد انضمت مكة وأهلها من المقاتلين والفرسان إلى الجيش، وهؤلاء ليسوا من المهاجرين ولا من الأنصار، وفيهم المسلم وفيهم الكافر الذى لم يعتنق الإسلام بعد، ذلك أن الرسول لم يفرض عليهم الإسلام يوم الفتح ولا ألزمهم به، وإنما منحهم أمانًا مطلقا غير مشروط: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، أما وإن المعركة للدفاع عن مكة فقد تقدم أبناؤها للدفاع عنها، وفيهم من لم يمر على إسلامه سوى أيام، وفيهم الكافر الذى ما زال على موقفه القديم، وقد قبلهم النبى جميعا فى الجيش، وقاتلوا ببسالة.
التاريخ هنا كما يقدمه - الكاتب الصحفى ووزير الثقافة الأسبق حلمى النمنم - ليس جامدا معقدا بل سرده كقصة لها بداية ونهاية، بأسلوب سردى سلس يجعلنا نفهم منه كل التفاصيل دون أى عناء يُذكر، ويتناسب مع ثقافة الأجيال الجديدة، التى تحتاج إلى بناء عقل نقدى واعٍ مدرك لكل ما يُحاك حولنا.
لقد شارك فى غزوة حنين عدد من أهل مكة ولم يعتنقوا الإسلام بعد، ولا يؤمنون بنبوة سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، ولكن لأن المعركة كانت للدفاع عن مكة فكانوا فى الجيش ليدافعوا عن وطنهم، وهذا يؤكد مفهوم الدولة المدنية الذى رسخه رسول الله «». فلم يكن صفوان بن أمية ومعه سهيل بن عمرو وحدهما فى جيش النبى وهما لا يزالان على الشرك بالله أو كفارا، يذكر الواقدي: خرج مع رسول الله ناس من المشركين كثير، كان خروج جيش حنين بعد خمسة عشر يوما فقط من فتح مكة، وقد تقبل المسلمون وجودهم بالجيش، ولم يشعروا بأى غضاضة من جراء ذلك، وتاريخيا لم يخرج كل رجال مكة إلى تلك الحرب، هناك مَن رفضوا أو تكاسلوا، ويقول ابن هشام فى «السيرة النبوية»: استعمل رسول الله عتاب بن أسيد بن أمية على مكة أميرا على من تخلف عنه من الناس، أى أنه (صلى الله عليه وسلم) لم يترك مكة فارغة أو بلا أمير يتولى أمرها وأمر أهلها، لو أن هناك مخاوف لأمرهم جميعا بالخروج، لكنه لم يفعل، بل إن مَن خرجوا تسابقوا وكانوا يخشون ألا يقبلهم النبى معه، ومن الحوار بين «النبى وصفوان» نفهم أن النبى دعاه للمشاركة فى الجيش.
وحينما فتح النبى مكة لم يمس - ما نسميه اليوم - «المراكز القانونية والاجتماعية» لأعيانها ورؤساء القوم، وطلب إليه «على بن أبى طالب» أن يسلم مفتاح الكعبة إلى الهاشميين وتكون لهم سدانتها بدلًا من عثمان بن طلحة، فرفض النبى تماما ذلك الاقتراح أو الطلب، ونادى عثمان وسلمه المفاتيح قائلا: «اليوم يوم بر ووفاء»، باختصار الفتح والانتصار لا يعنى الانتقام ولا الثأر، وكذلك لا يعنى حصول البعض على مكاسب معينة.
وحين طلب إلى صفوان المشاركة هو وغيره من الكفار، كان يعرف موقفهم الدينى ويعرفهم شخصيا، وهو (صلى الله عليه وسلم) كان يضع هنا عدة قواعد بل مبادئ يجب التوقف عند بعضها: أولا: هى ليست حربًا دينية ولا عقائدية، كانت حربًا وطنية للدفاع عن مكة ضد القبائل الأخرى، تحديدًا ثقيف وهوازن، فقد قصدوا الهجوم على مكة، باختصار الطائف وما حولها يسعون لاحتلال مكة، لو أن هؤلاء يستهدفون النبى والإسلام لهاجموا يثرب من قبل، أو لأعانوا أبا جهل (عمرو بن هشام) وأبا سفيان على النبى فى معركة بدر أو ما تلاها من معارك. ولما بلغ النبى فى نهاية المعركة مقتل عثمان بن عبدالله بن ربيعة بن الحارث، وكان أحد قادة جيش العدو، قال: «أبعده الله فإنه كان يبغض قريشًا، لم يذكر النبى أنه كان رافضا أو معاديا للإسلام، ولم يقل إنه عدو الله ورسوله، إنما كان يبغض قريشًا.
ثانيا: إن الدفاع عن الوطن واجب كل أبنائه القادرين على ذلك، بغض النظر عن الموقف والاعتقاد الدينى لكل منهم، واجب المسلم وغير المسلم المؤمن والكافر، لا يجوز سحب شرف ومسئولية المواطنة من إنسان بسبب دينه، واعتقاده هذا ما أرساه النبي.. ونحن هنا بإزاء نموذج ودولة المواطنة الكاملة لكل الأفراد، بلا تمييز ولا إقصاء أو استبعاد، فلم يكن صفوان وغيره يقرون بنبوة النبي، ولكن هذا لم يؤدِ إلى استبعادهم من الدفاع عن مكة ولا المشاركة فى الجيش، ليس هذا فقط، لقد استعان النبى بقدرات صفوان العديدة وغيره، مثل المشاركة فى تسليح الجيش ونقل المؤن والسلاح.
ثالثًا: تأسيسا على ذلك، لا يليق أن ينظر أحدنا باستخفاف أو استهانة إلى النص الدستورى الذى يقول إن حرية الاعتقاد مطلقة، دستورنا المصرى ينص على ذلك، ولا يجوز لأحد أن يعد هذا النص «ديكور» أو للوجاهة السياسية، كما لا يجوز لجماعة أن تحاول السير عكس الدستور.
رابعا: الدفاع عن الوطن دور الرجل والمرأة معا، فى معركة «حنين» وجدنا مشاركة نسائية تستحق التوقف عندها، لدينا نموذج «أم سليم» التى شاهدها الرسول فى القتال، وكذلك «أم الحارث الأنصارية»، وكانت من أثبت الناس فى أصعب لحظات القتال.
خامسا: ليس شرطا لازما أن يعتنق أبناء الوطن جميعا دينا واحدا، أو أن يكونوا على المعتقد نفسه، ولا أن يكونوا فى موضع مفاضلة دينية، المطلوب منهم جميعا الدفاع عن الوطن والحفاظ على سلام الدولة وتماسكها، فالتنوع الخلاق والتعدد الخصب يزيدان المجتمع ثراء ويمنحانه حيوية دافقة، فلا ينبغى لأحد، فردًا كان أو جماعة أن يدفع بالمجتمع إلى الاحتدام أو الاحتراب الطائفي، ولا الاستقطاب المذهبى.
والنقطة السادسة هى أن يقدم كل إنسان لوطنه ما يقدر عليه، ويوم حنين أمر «مالك بن عوف» قائد المعركة قومه بأن يخرجوا جميعا لملاقاة المسلمين ويأخذوا معهم نساءهم وأبناءهم وأموالهم وأغنامهم وإبلهم وأبقارهم، حتى لا يفر المقاتلون من أرض المعركة، وكان وادى حنين منحدرا شديدا، سبقهم مالك بجيشه إليه قبل جيش «النبي»، فتهيأ هنالك ووضع الكمائن والرماة فى مضايق الوادى وعلى جوانبه فباغتهم حتى لحقت الهزيمة بجيش النبى فى بداية الغزوة، وفر معظمهم من ميدان المعركة، حتى تمكن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) امتصاص الهجمة الأولى وتحمل خسائرها، فاجتمع المسلمون ثانية وهجموا هجمة واحدة على جيش مالك، حتى انتصروا وبادر مالك بن عوف إلى الهرب ولحق بحصن ثقيف، ومن هناك أرسل إلى النبى يطلب المصالحة.
ومن هذه اللحظة اندفع المقاتلون من جيش النبى إلى قتال وقتل مَن لقيهم، المشكلة أنه لم يكن هناك سوى النساء والأطفال والصبيان، حيث لم يتمكنوا من الفرار، بينما الرجال والشبان المقاتلون فروا مع مالك، وبلغ النبى ما يحدث، ولم يقبل به، ونادي: «ما بال أقوام ذهب بهم القتل حتى بلغ الذرية، ألا لا تقتل الذرية»، وقالها ثلاثا: «ألا لا تقتل الذرية...»، هؤلاء أطفال، أولاد المشركين، وجدوا فى ميدان المعركة وفى لحظة القتال، وقد وضعوا فى المقدمة، أى دروع بشرية بمصطلح عصرنا، ولم تكن هناك قوانين حديثة كالتى نعرفها الآن، ومع ذلك استنكر النبى هذا السلوك، وأعطى أمرا قياديا بالامتناع عنه تماما، وقد توقف المقاتلون فور أن وصلهم النداء.
الآن كما يقول «النمنم» نرى أناسا يزعمون أنهم يجاهدون فى سبيل الله، الجماعة الإرهابية، اعتبروا الشوارع ميادين قتال، يقتلون الأبرياء، أطفالا ونساء، معظمهم أبناء مسلمين، وبقلب وضمير بارد يقولون: يبعث على نيته، وقد وجدوا من يفتى لهم بذلك، وذهبوا إلى بعض الكتب الصفراء يستخرجون منها ما يسوغ لهم عمليات القتل والإرهاب وعلينا أن نسمى الأفعال بمسمياتها، القاتل يظل قاتلا ومجرما، حتى لو حاول التخفى وراء مصطلحات مثل الجهاد وإقامة الخلافة، هم قتلة فقط.
ودور القيادة العظيمة أن تحد من القتل وسفك الدماء وتتصدى له، بل إن دور القائد تجنب القتال بالمرة إلا إذا فُرض عليه ذلك فرضًا، فالنبى تجنب القتال عند فتح مكة، لكن مع هوازن كان يدفع عدوانًا.
ففتح باب القتل وسفك الدماء لا يجلب سوى مزيد من القتل، ولذا من يتابع التنظيمات الإرهابية، يجد أنهم يقومون فى حالات كثيرة بتصفية بعضهم بعضا، أو يبلغ بعضهم عن البعض الآخر، عبدالرحمن السندى قائد التنظيم الخاص فى «الإخوان الإرهابية» أرسل سنة 1953، علبة حلوى مفخخة إلى بيت خلفه فى قيادة التنظيم، و«أبو بكر البغدادى - أمير داعش» تعرض لعدة محاولات اغتيال من بعض عناصر تنظيمية، و«أسامة بن لادن» سلمه أحد أتباعه إلى الولايات المتحدة التى كانت تطلب حياته.
وفى يوم حنين كانت غنائم جيش النبى كبيرة جدا، حيث إن مالك بن عوف دفع جيشا للخروج بأسرهم وممتلكاتهم كافة، وفى عرف ذلك الزمان يصبح كل هذا من حق المنتصر وملكه، ويذكر ابن إسحاق فى السيرة النبوية وأخذ عنه الطبري» كان مع رسول الله من سبى هوازن من النساء والأطفال عدد كبير، ومن الإبل ستة آلاف بعير، ومن الشاه ما لا يُحصي. ويذكر الواقدى أنه كانت مع رسول الله من السبى ستة آلاف وكانت الإبل أربعة وعشرين ألف بعير، وكانت الغنم لا يدرى عددها»، وفى مسألة توزيع الفيء، هذا الأمر اختلف عن الغزوات السابقة حيث تم دخول عناصر جديدة للجيش وهم أهل مكة تحديدا، إضافة إلى المهاجرين والأنصار، وهناك من بين المقاتلين مَن ليسوا من المسلمين، وهذه سابقة لم تحدث، والكل كان متعجلا ومترقبا، وقام النبى بتوزيع الغنائم بحكمة سياسية كبيرة.
لكن منهم من اعترض مثل «العباس بن مرداس» قائد قوم بنى سليم لحصوله على غنائم أقل مما يتوقع، فاختار الشعر وسيلة لقول ما لديه من تظلم وعتاب، فلم يغضب النبى من قصائد الهجاء أو العتاب ولا أصدر قرارا يمنعه الشعر ويلزمه الصمت، بل أزال سبب الشكوى والعتاب، وظل العباس يشارك النبى فى كل حروبه.
ففى وقت من الأوقات - حسبما يذكر النمنم - أيام الإمبراطورية العثمانية، كانت عقوبة من يتكلم بما لا يرضى سلاطين آل عثمان أو ولاتهم وأغواتهم، هى قطع اللسان أو تخييط الفم بإبرة مخصوصة وتجريسه، ولدى الجبرتى فى «عجائب الآثار» نجد بعض حالات لأفراد عوقبوا على هذا النحو، أما فى زماننا فقد حدث فى سوريا قطع لسان مطرب وشق حنجرته لأنه غنى، والغناء لدى بعض المتشددين محرم، وفى مصرنا قُتل فرج فودة لأنه نطق بما أحرج وأغضب نائب المرشد العام للجماعة الإرهابية فى مناظرة الموت سنة 1992 بمعرض القاهرة الدولى للكتاب. هكذا كان النبي، وهكذا يحدثنا التاريخ عنه، وهكذا المتشددون والإرهابيون.. هكذا إسلام النبى ومن معه، وهكذا فهموا هم الإسلام.
وإن الدين ليس عبادات فقط، ولا طقوسا مقدسة تستغرقنا بذاتها ولذاتها، إنما الدين المعاملة، وكم من أناس يحقر عمر بن الخطاب صلاته وصيامه إلى جوارهم، ويقرؤون القرآن لا يجاوز حلوقهم، أى لا يـمس شغاف الروح ولا يهذب النفس. ولعلنا سمعنا بيان فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب من مسجد الروضة فى «بئر العبد» بعد مذبحة المصلين التى نفذها فلول «الإخوان الإرهابية» فى صيف سنة 2018، حيث استُشهد فضيلته بواقعة ذى الخويصرة وحديث النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى عمر بن الخطاب، أى أن ما عاناه المسلمون الأوائل نعانيه نحن اليوم، باختصار نحن فى مواجهة مع أحفاد ذى الخويصرة.
وذلك يضعنا مباشرة، فيما بات يطلق عليه اليوم كثير من العلماء والباحثين التدين المغشوش أو الزائف والشكلي، وفى قضايا الفساد هناك عدة قضايا بعضها فصل فيها القضاء، وبعضها ما زال أمام القضاء، كانت رشاوى لتمرير أشياء بالمخالفة للقانون، وكانت الرشوة «عمرة» مدفوعة بالكامل والإقامة فى فندق خمس نجوم بالأراضى المقدسة والعودة بهدايا للأصدقاء والأقارب من الراشين، ونسى هؤلاء أن الله طيب لا يقبل إلا كل ما هو طيب.
كما أن باب المزايدة الدينية بلا سقف، إذا فتح فلا آخر له، ولا أحد يتوقف عنده. معتب بن قشير بدأ المزايدة على رسول الله متهما إياه بأنه لم يقصد وجه الله فى التوزيع والآخر اتهمه صلوات الله عليه، بعدم العدل. ترى كيف يكون أى مسلم آخر عندهم وفى نظرهم؟ لذا لا يجب أن نندهش من أن أشباههم وأتباعهم هم مَن قتلوا عثمان بن عفان وعلى بن أبى طالب، هذا باب يجب أن يغلق، وينتهي، كما نبهنا رسول الله بالمروق من الدين أو العنف والإرهاب، وهو أيضًا مروق من الدين والإنسانية، لذا لا يجب أن نندهش من أن بعضهم حاليا انتهى إرهابيا مرتزقًا لدى من يدفع ويمول، أو يكفر الآخرين.
وسوف نلاحظ فى التاريخ الإسلامى - كما يذكر الكاتب - أن الفِرق والجماعات التى تسمى «راديكالية»، كان جانب من عملها يقوم على محاولة تغييب دور النبى (صلى الله عليه وسلم) وحصره فى أنه أبلغ الرسالة، تغييب دور النبى أو إضعافه دون إلغائه، أى يصبح وجوده رمزيًا فقط.
يُغيب مرة لصالح نظرية الإمام الغائب أو الإمام المعصوم، وفى ذلك وجدنا العجب أو ما يجاوز حدود الجنون، فبعضهم زعم أن الوحى اتجه إلى النبى خطأ وأنه لم يكن هو المقصود به، وأن إمامهم كان هو المقصود، ويغيب حتى يتسنى تكفير الآخرين وقتلهم، بدءا من المسلمين وليس انتهاء بالمسيحيين، استحدث الخوارج تكفير المسلم وقتله، وانتهى الحال - بذى الخويصرة فى صفوف الخوارج.
ويغيب فى عصرنا وفى مجتمعنا كى يتسنى تمرير أكذوبة «الإمام الشهيد» أو فضيلة المرشد العام، وغير ذلك من الألقاب والمسميات، وتلاحظ أن بعض المتحدثين من تلك الجماعات يستهلون أحاديثهم بقول مأثور لإمامهم أو أحد أئمتهم أو مرشدهم العام مع تجاهل أى ذكر لنبى الله، ليس إنكارا، ولكن تغييبًا أو تهميشا، ويمكن أن تلاحظ كذلك أن هذه الفرق والجماعات تتجاهل سيرة النبى وحياته، بينما ينهمكون فى إصدار عشرات الكتب والدراسات حول أئمتهم ومرشديهم.
فجماعة الإخوان الإرهابية طوال أكثر من تسعين عاما لم تصدر كتابًا معتبرًا عن النبي، بينما أصدرت أكثر من مائة كتاب عن حسن البنا الذى يلقبونه بالإمام الشهيد، وجعلوا قراءة رسائل البنا فريضة على عضو الجماعة، وهكذا الحال بالنسبة إلى سائر الجماعات فى زماننا، والحال كذلك بالنسبة إلى بعض الفرق الإسلامية قديما، والسبب الخفى أن حياة النبى وسيرته العطرة فيها ما ينسف الكثير من توجهاتهم ومزاعمهم، وفيها ما يصمهم بالإرهاب والإجرام، لن تقرهم السيرة النبوية على قتل الأبرياء، ولا على سرقة محال المسيحيين ولا تفجير كنائسهم، هم يريدون كذلك أن يرفعوا أئمتهم ومرشديهم إلى مصاف ومقام النبوة، دون أن يقولوا ذلك مباشرة، لذا حين يريد القارئ أن يراجع شيئًا عن حياة وسيرة النبى فإنه يرجع إلى سيرة ابن هشام وغيرها من كتب السيرة النبوية، أو أن يعتمد على كتابات المحدثين مثل الدكتور محمد حسين هيكل وأحمد أمين والعقاد والشرقاوي، أولئك الذين يرميهم المتأسلمون، كلهم أو بعضهم بالمروق.
وعندما أراد رسول الله أن يعرض دين الله خارج الجزيرة العربية بعث برسائل إلى حكامها، وفى كل ذلك سوف نجد أن النبى لم يلجأ يوما إلى ما يُطلق عليه اليوم «الخلايا النائمة» أو «الذئاب المنفردة»، وبالتالى كان مسلك النبى واضحا، إذ يأتى البيوت من أبوابها ويُقدم الدعوة إلى دين نبيل. فارق كبير بين هذا المسلك ومسلك الإرهابى الذى يجند العملاء ويسعى إلى الهدم والتخريب وتسعده إراقة الدماء، وبناء مظلومية يبتز بها مشاعر وعواطف الأفراد والشعوب.
وقد يفاجأ القارئ إذا عرف أن فى «غزوة حنين» بكل ما جرى حولها من تداعياتها فى التاريخ الإسلامى والإنسانى كبدت المسلمين عددا محدودا من الشهداء - جميع من قُتل أربعة - وعدد القتلى فى الطرف الآخر كان محدودا أيضا، وقد منع النبى قتل المدنيين أو غير المقاتلين من الكفار لحظة الحروب، ونجد حرصا شديدا من النبى على حياة أصحابه ومقاتليه، وكان يوصيهم بلبس الدروع تجنبا للسهام، مثلما كان حريصا على تجنب القتال والقتل حتى فى صفوف الأعداء.
والمعنى هنا، أنه على الرغم من عظمة ونبل الاستشهاد ومكانة الشهيد وعظمته عند الله ورسوله، فإن الاستشهاد لم يكن هدفا بحد ذاته لدى رسول الله، فالحرب كلها عنده فعل اضطراري، والاستشهاد فى الحرب أيضا، الأصل هو الحرص على الحياة، والأصل كذلك هو السلام وإعمار الأرض، حتى فى الحرب يجب تجنب القتل العشوائى والمجانى للخصوم، فالحرب سوف تنتهى حتما وسيجلس الطرفان معا بعدها للتهدئة أو للتصالح، حدث ذلك بعد «بدر الكبرى» مباشرة، وبعد «أحد» أيضا، وبعد كل غزوة.
الواقع أن كثيرًا من جماعات العنف التى تتسربل بالدين اعتبرت أن الاستشهاد هدف فى حد ذاته، وأنه معنى مطلق يتم اللجوء إليه فى أى وقت ولأى غرض يحدده المرشد أو الأمير وتنميته لدى المنخرطين فى تلك الجماعات، وليس فقط فى ميدان المعركة الحربية، لذا وجدنا مقولات من عينة شعار جماعة الإخوان الإرهابية «الموت فى سبيل الله أسمى أمانينا»، ولأن الأمر كذلك عندهم يسجل التاريخ تكليفا لأحد الشباب باغتيال أحمد ماهر، رئيس وزراء مصر حينها، لأن حسن البنا عدَّه مسئولا عن عدم نجاحه فى انتخابات مجلس النواب مطلع الأربعينيات بمدينة الإسماعيلية، وتفاصيل العملية وردت فى مذكرات كل من محمود عساف سكرتير حسن البنا الخاص، وسيد سابق، والشيخ أحمد حسن الباقوري.
الشاب الذى نفذ عملية الاغتيال فعل ذلك تنفيذا لشعار «الموت فى سبيل الله أسمى أمانينا»، وقد حوكم هذا الشاب الذى كان من أسف دارسا للقانون ويعمل بالمحاماة، وهو محمود العيسوي، وتم إعدامه، مات فى سبيل المرشد العام وليس فى سبيل الله، قتل زعيما وطنيا وأُعدم من أجل مقعد فى مجلس النواب وليس دفاعا عن وطن ولا نصرة لدين، وسمعنا من يهتف: «على القدس رايحين شهداء بالملايين»، ولم يكن غريبا أن الذى كان يردد هذا الهتاف بين الشباب غرر بهم ثم ولى هاربا، ليس نحو القدس ليحررها، بل نحو الحدود الغربية إلى ليبيا الشقيقة ليشعلها نارا، ويملأها دما، ولما أمسك به عرض على رجال الأمن أن يستخدموه، وأن يقول كلاما معاكسا تمامًا لما نعق به من قبل بين الفتية والشباب الصغار.
هذه الجماعات وتنظيماتها تدفع شبابها عمدا نحو الموت بأكبر عدد منهم أو السجن، لخلق مظلومية أو محنة يتعيشون عليها ويتكسبون من ورائها ماليا وسياسيا، وفوق ذلك بناء حالة ثأرية وانتقامية لدى كوادرهم تجاه المجتمع كله ومؤسسات الدولة، وتناقلها من جيل إلى آخر، لذا تجدهم يشعرون بنشوة ولذة وهم يتحدثون عن المحنة أو المحن التى تعترضهم، والأصح أنهم يتعمدون صناعة المحن.
وفى كلمته الأخيرة يوضح «النمنم» فى كتابه «يوم حنين»على سماحة الإسلام، وفضح ممارسات الجماعات الإرهابية التى ترتكب الجرائم باسم الدين والدين منهم براء.. فتعامل النبى مع أهل مكة لحظة الفتح وبعدها مباشرة يحتاج إلى تأمل خاص، وقراءة مدققة ومفصلة فى ظل همومنا المعاصرة وقضايانا الآنية، التى تعاظمت فيها شرور التكفير وانفجرت فيها شظايا الإرهاب تصيب المجتمع، وتصيب صورة الإسلام عمومًا فى أذهان الكثيرين، سواء فى الداخل أو فى الخارج بين عموم المسلمين وبين غيرهم أكثر.