"الحاجر"..لا تفتش عنها على الخريطة فلن تجدها..يعرفها فقط أهل شمالي قنا..ثماني ساعات يقطعها قطار الصعيد من القاهرة متجها إلى الجنوب ، حتى يصل إلى "ابوتشت" ، ..هنا فلنتوقف قليلا ، إذ أننا أمام "متوالية قصصية" كتبها واحد من أبناء هذا المركز ، هو أشرف التعلبي.. زميلنا الصحفي بمجلة "المصور" ، ولهذه الزمالة – ولظروف صدور هذه "المتوالية" – قصة أخرى نوردها في مقامها تماما من هذه السطور ، ونعود إلى أبو تشت ، هذه البقعة الوادعة من شمال محافظة قنا ، ابو تشت التي تتراص فيها القرى والنجوع ، ويتراص النخيل والزراعة محدودة المساحة من القصب وأشياء أخرى ، وتتشابك القلوب الطيبة المسالمة ، تلك التي تصنع في مجملها خارطة أخرى – غير جغرافية – من القصص المنسية التي لايعرفها أهالي القاهرة والدلتا..
النسيج هنا من البشر والأرض والحجر – متباين كل التباين عن نسيج الشمال ، يرسم مع الشمال فسيفساء دقيقة للغاية للمجتمع المصري ، الذي عاش على ضفتي النيل واتسع واستمر وتشابكت عناصره وتفاعلت على مدار آلاف السنين.في الصعيد الأعلى – من أسيوط شمالا إلى أسوان جنوبا – تشم رائحة مصر القديمة أو الفرعونية وتشم كذلك رائحة مصر العربية التي جاءت إليها القبائل من الجزيرة العربية مع الفتح العربي الإسلامي بقيادة عمرو بن العاص قبل ما يزيد على الف وأربعمائة سنة من اليوم ، هنا – في أبو تشت وشمال قنا عموما – مزيج مصري بديع شديد الدقة في رسمه ، به مصر الفرعونية وبه مصر القبطية المسيحية ومصر العربية الإسلامية ، تجمعهم جميعا مصر المعاصرة ..
كل هذا الخليط ممتزج امتزاجا بديعا في عقلية الصعيدي ابن أبو تشت ، يتوارثه كابرا عن كابر حتى يصل إلى الأحفاد ، ومنهم صديقنا التعلبي .. الذي أخرج لنا "متوالية قصصية" بديعة تحمل اسم " الحاجر".وقبل أن ندخل إلى تفاصيل المتوالية ، نقول انها صادرة عن " دار أضافة" للنشر في 140 صفحة من القطع المتوسط ، بها 23 نصا سرديا تغوص جميعا في " الصعيد الجواني" .. حيث الجنوب والإرث ..هذه النصوص من بينها نص يحمل اسم المتوالية وهو " الحاجر" .
وقد يسأل القارىء: وما السر في ان يسمي الكاتب هذه المجموعة بالمتوالية القصصية كما يشير غلافها؟ لماذا لم يكتب على الغلاف " مجموعة قصصية" ؟ الجواب أن هذه القصص الثلاثة والعشرين جميعا ينتظمها خط واحد ، يجمعها المكان .. وهو " الحاجر" ، فهي لا يمكن فنيا ان تصبح رواية ، وفي ذات الوقت ليست مجموعة قصصية عادية لأن جميع قصصها يربطها رابط واحد هو المكان ، وهناك رابط خفي آخر في هذه القصص هو الروح ، جميع الشخوص هنا تجمعهم روح واحدة ، تأتي من طبيعة المكان ذاته، من الحاجر التي لا يسمع عنها أحد ، لكنها تلخص الدنيا ومافيها عند أهلنا في الصعيد الأعلى.من لهجة الصعيد الأعلى ، ومن رحم ثقافته ، ومن تراثه العريض ، ومن روحه العتيقة ، تأتي نصوص التعلبي في هذه المتوالية ، ففي قصة الحاجر يصف التعلبي" كنا نعيش سويا ، نلعب بين النخل والنبق – الحامية والفطة والشبر شبرين – نسرق البطيخ من ارض ولاد حسين ، نذهب وأولاد النجع إلى مدرسة ناصر المشتركة .. كبرنا وكبرت معنا الهموم والمشاكل ، أصبح الطفل منا شابا يلبس جلبابه الفضفاض وعمته المزهرة ولا نحلق شواربنا ، نتميز بالخشونة كالجندي وقت الحرب ، حتى مشاعرنا كنا نخفيها وراء الكشرة..".
التعلبي مهموم بالحكي.. تحديدا بطريقة الحكي ، انه يريد أن ينقل الصعدي الأعلى للقارىء القاهري والسكندري والبحراوي عموما نقلا حقيقيا ، ينقله بلحمه ودمه وناسه وجبله ونخيله ونبقه وبطيخه أيضا ، وينقله بهمومه التي لا حد لها ، وينقله بأفكاره البسيطة والمعقدة سواء بسواء.
من هنا فإن وصفه للبشر لا يقل خطورة عن وصفه للمكان في هذه المتوالية القصصية ، مثلا في قصة " الغجرية " يقول (.. وجهها ذو ملمس ناعم ، قمحي اللون نظرت له كثيرا ، تمنيت أن الصق يدي أو فمي فيه .. عيونها همجية ، تخفي خلفهما أميالا من الغابات..) ، اميال من الغابات – يقول التعلبي – ولا يكتفي بغابة واحدة..أخذت عينا الغجرية الجبارتان صاحبنا راوي القصة إلى غابات كثيفة ، بما في الغابات من الحياة الأولية بفطريتها وغناها وخصوبتها وجنونها أيضا!ويصف غجريته الخلابة فيقول "..شعرها منكوش مجعد يتمايل بخفة فوقها ، أقصد فوقنا ، لقد اقتربت منها ، كاد صدري يصطدم بثدييها..).
وفي قصة " الحمارة العجوز" يمكنك أن تصل إلى عمق الأسطورة في تفكير أهالي صعيدنا الأعلى .. فهناك حريق كبير في النجع ، كتب التعلبي في هذه القصة يقول في أحد المقاطع "..عاد وكرر سؤاله : يعني كرات النار تتساقط من السماء دون سبب؟ كيف ذلك؟ لم يكن معي إجابة تشفي صدري قبل صدره فقلت له: لكن الناس رأت الكرات النارية وهي تسقط من السماء وتشعل القش أو في سبايت البوص ، لعل هذا غضب من الله علينا...". هكذا تمضي الأمور وهكذا يتداول الناس الأفكار في نقاشاتهم ، وبهذا تمر الأمور أو لا تمر.. هذه حياتهم منذ آلاف السنين.. وتلك قوانينها! ومن قوانين الحياة في الصعيد الأعلى أيضا ان يفتك الألم بالأجساد لا يبالي برقتها ، ولا بأنوثتها الشفافة ، كما في قصة " غرفة 16" ، مأساة سيدة صغيرة السن جاءت إلى القاهرة للتداوي من ورم لا تعلم انه السرطان وكيف أكل السرطان جسدها ، قصة اذا قرأتها قد تبدو لك بسيطة ، لكن أسلوب التعلبي في الحكي جعلها قصة عبقرية ..كيف؟ ان التعلبي في هذه القصة وفي كل قصص متواليته هذه انما يكتب بروح وعقل صعيدي جواني بحت ، انه ليس من خارج النسيج الذي يصنعه لك في قصصه ، انه جزء من سدى ولحمة هذا النسيج ، وهو بأسلوبه قادر على ان يجعلك تبكي أو تضحك أو تحزن أو تفرح أو تغني أو تصرخ من الانفعال بالقراءة ، برغم بساطة الأحداث .. التعلبي لا يسعى إلى إدهاشك ، ولكن يسعى إلى ملامسة وجدانك ، يريدك ان تنفعل معه كما انفعل هو نفسه بهذه القصة أو غيرها من قصص مجموعته حين سمعها او سمع بها أو عايشها!
نحن بين يدي متوالية قصصية عرضها صديقي اشرف التعلبي علي قبل نحو عامين لكي أقرأها وأدلي فيها برأيي ، اعتقد التعلبي (وهو بالمناسبة في الثالثة والثلاثين لا يزال..) انني ناقد مهم او انني كاتب لا يشق له غبار ، شكرته على حسن ظنه بي ومبالغته في تقديري ، سعدت واندهشت حين قرات هذه القصص على اللاب توب الخاص به ، وتوقعت له مكانة شديدة الخصوصية بين كتاب القصة في جيله هذا ، وهو أيضا روائي سيكون له مكان مهم بين الروائيين قريبا حين تصدر أعماله الروائية ، التي قرأت بعضا منها ، بخاصة ان التعلبي لديه من الحماسة للكتابة مايجعله مثل بركان يلفحك بالحكايات مادمت جالسا معه ، يتدفق في الحكي دوما فأستوقفه قائلا : بدلا من أن تحكي بلسانك هذا الحكي البديع ..اكتبه للناس..سيكون أفضل كثيرا..! وأظن أنه مع الأيام سيغدو أهم قلم أدبي يكتب عن الصعيد ومن الصعيد وبالصعيد أيضا!