لن تملك إلا الإعجاب والاندهاش وأنت تقف أمام إحدى نماذجها، بما تحمله من رائحة الإتقان والخصوصية والجمال المنمّق، وبما تحمله من تاريخ طويل يكتنز بالتفاصيل الاجتماعية والإنسانية، ربما لم يتيسّر لك أن ترى العالم من خلفها، ولكنك بالتأكيد تستمتع – كما يتمتع الجميع – بعبق ورونق “المشربيّات”.
هى عنصر معمارى يتمثّل فى بروز غرف الطابق الأول أو ما فوقه، وامتدادها فوق الشارع أو داخل فناء المبنى، فى البيوت ذات الأفنية الوسطيّة، وهى تُصنع من الخشب المنقوش والمزخرف والمبطّن بالزجاج الملون، وتعتبر “المشربيّة” إحدى عناصر العمارة التقليدية الصحراوية فى البلاد العربية الحارّة، بدأ ظهورها فى القرن السادس الهجرى “الثالث عشر الميلادى”، أى قبل ما يقرب من 10 قرون، إبّان العصر العباسى، واستمر استخدامها حتى أوائل القرن العشرين الميلادى، ويكثر استخدام المشربيات فى القصور والبيوت التقليدية “المبانى السكنيّة”، إلا أنها استُخدمت أيضًا فى بعض المبانى العامة، مثل دور الإمارة والخانات والمستشفيات وغيرها.
“المشربية”.. تلك الكلمة القديمة التى بدأت تختفى من حياتنا الحديثة، وهى أجمل صور فنونُ النجارة المختلفة فى العالم الإسلامى، وقد احتلت مكانةً مرموقةً بين سائر الفنون التطبيقية، وهو ما ساهم فى تربُّع الفن الإسلامى على عرش هذا المجال بما قدَّمه من روائع، فقد اشتهر النجَّار المسلم بالبراعة والإتقان فى صنعته، وقدَّم نماذجَ فريدةً من المنتجات الخشبية، وذلك ما تؤكده التُّحَف الخشبية الباقية فى المتاحف أو فى العمائر الأثرية المختلفة.
استخدام الصنَّاع المسلمون فى صناعة منتجاتهم الخشبية وزخرفتها طرقًا وأساليبَ كثيرةً أضْفَت عليها طابعًا فنيًّا متميزًا، وتعود صناعة المشربيات الخشبية فى تاريخها إلى ما قبل القرن السادس الهجرى، الحادى عشر الميلادى، ولا سيما فى مصر، لتقدّمها فى عمل المشغولات الخشبية وقتها، خاصةً عبر استخدام أخشاب الخرط الدقيقة، فقد احتضن النجَّارون فى مصر فنَّ صناعة “الخَرط”، وأضفوا عليه الطابعَ الإسلامى الخالصَ، ثم ازدهرت هذه الصناعة فى كثير من بلاد العالم الإسلامى خلال القرنَين السابع والثامن الهجريَّين. تفاوت استخدام “المشربيّة” فى البلاد العربية فى عماراتها الصحراويّة المحليّة، لكنّ هذا الوصف التاريخى لا يوضّح الأسباب العمليّة لاستخدام المشربيّات، حيث أنّ لاستخدامها أبعادًا أعمق، ونتائج هائلة، فهى تعتبر نقطة تحوّل مهمّة فى مسيرة العمارة المحليّة، ولفهم استخدامات المشربيّة وفوائدها، استخدمنا هنا تصنيف المعمارى المصرى “حسن فتحى” حيث إنه يعرّفها على أنها تقوم بخمس وظائف، وهى: ضبط درجة الحرارة وضبط مرور الضوء وضبط تدفّق الهواء وزيادة نسبة رطوبة تيار الهواء وتوفير الخصوصية للسكان.