شهدت الأعوام الأخيرة تعثر عدد من تجارب الجامعات الإلكترونية أو ما يسمى بالجامعات الافتراضية في أكثر من منطقة من مناطق العالم رغم أن التعليم الإلكتروني ينمو بشكل مستمر، ويزداد الطلب عليه من قبل الكثير من المتعلمين. وكان لانهيار مشروع الجامعة الافتراضية البريطانية هذا العام بعد أن أنفق عليه ما يقارب من 100 مليون دولار أثراً كبيراً على الدوائر الأكاديمية المهتمة بمشروعات التعليم الجامعي الإلكتروني. وفي هذا المقال دراسة لبعض التحديات التي تواجه التعليم الإلكتروني الجامعي، وكيف يمكن تجنب الفشل في التجارب العربية التي بدأت تنتشر مؤخراً في العالم العربي.
مقدمة
تظهر الإحصاءات الغربية أن حجم سوق التعليم الإلكتروني عالمياً قد تجاوز 18 مليار دولار أمريكي في عام 2004م. وتنتشر اليوم في كل أنحاء العالم الشركات المتخصصة في تقديم الاستشارات التعليمية والدورات التدريبية عبر الإنترنت للموظفين والعاملين في القطاع الخاص والحكومي والمدني. وتجمع الإحصاءات كذلك أن هذه السوق الجديدة، والتي تركز على التعليم المتخصص والمركز تحقق عوائد مادية مجزية للقائمين على هذه المشروعات.
وفي المقابل يشهد قطاع التعليم الجامعي الإلكتروني تعثراً ملحوظاً في تحقيق المقابل الأكاديمي أو المادي الذي يسمح باستمراره في تقديم رسالته، وتطوير برامجه الأكاديمية الإلكترونية. وبدأ التساؤل يظهر بشكل واضح بحثاً عن تفسير لهذه التناقض بين الانتشار والنجاح في قطاعات التعليم الإلكتروني، وبين الإخفاق في العديد من المشروعات الجامعية الهامة في نفس المجال. فمنذ أعوام قليلة فقط، وقف أحد كبار الأكاديميين الاستراليين ليقول "إن التعليم الإلكتروني الجامعي سيكون بمثابة تسونامي ضخم سيجتاح الجامعات التقليدية التي تعيش في أبراجها العاجية". ولكن الأعوام التي تلت تلك العبارة لم تكن في صالح التعليم الإلكتروني الجامعي على الإطلاق.
فقد تعثر مؤخراً مشروع الجامعة الافتراضية البريطانية، وتم إلغاؤه بعد أن كان من أهم مشروعات التعليم الإلكتروني في بريطانيا على مدى الأعوام الخمسة الماضية رغم توفر الدعم الحكومي والميزانية الضخمة التي رصدت للمشروع، والتي تجاوزت 130 مليون دولار تم إنفاق معظمها دون فائدة تذكر.
وفي استراليا تعثر أيضاً مشروع غلوبال 21، وهو مشروع تعليم جامعي إلكتروني يجمع 21 جامعة من جامعات استراليا وغيرها، ولكنه تعثر في الآونة الأخيرة في اجتذاب الطلاب أو الموارد المالية للاستمرار. فرغم أن جامعة ملبورن أنفقت مبالغ كبيرة في المشروع منذ عام 1997، وكانت دراسات الجدوى تتوقع أن يصل عدد الطلاب إلى الآلاف بعد أن تبدأ الجامعة في الانتشار عالمياً، إلا أن الجامعة لم تنجح في استقطاب أكثر من 400 طالب لبرنامج الدراسات العليا في مجال إدارة الأعمال بعد مضي ثماني سنوات على بداية المشروع.
وفي أمريكا ألغت ولاية كاليفورنيا مشروع الجامعة الافتراضية CVU، بعد أن فشل المشروع في اجتذاب عدد كاف من الطلاب. وألغت كذلك جامعة مدينة نيويورك برنامج الجامعة الافتراضية بها لنفس الأسباب. وقامت ولاية ميشجان بتحويل مشروع "جامعة ميشجان الافتراضية" MVU إلى مؤسسة أكاديمية إلكترونية تهتم بالتعليم المدرسي والنظامي.
وفي العالم العربي ظهرت بعض المحاولات المماثلة، والتي تمتعت بدعم حكومي كبير كما في حال الجامعة الافتراضية السورية التي افتتحها الرئيس السوري بشار الأسد، ورصدت لها ميزانيات كبيرة أيضاً، ومع ذلك لم توفق الجامعة حتى الآن في تحقيق الانتشار أو النجاح الذي كان يرجى منها طبقاً لدراسات الجدوى التي سبقت الإعلان عن المشروع. ولذلك فمن المهم دراسة أسباب تكرار التعثر في المجالات الجامعية رغم أن التعليم الإلكتروني في انتشار وتزايد مستمر في معظم أنحاء العالم، ومنها أيضاً العالم العربي.
ورغم أن هناك عدد من قصص النجاح بالمقابل في مجال التعليم الجامعي الإلكتروني، إلا أن حالات التعثر أكثر شيوعاً وانتشاراً عالمياً. وبما أن العالم العربي قد بدأ يولي اهتماماً واضحاً بهذا الموضوع مؤخراً لأسباب سياسية واقتصادية وتعليمية أيضاً، فمن المهم أن نتعلم من التجارب التي سبقتنا في هذا المجال، حتى يستفاد من تلك التجارب، ويمكن بالتالي تجنب التعثر أو الإخفاق لمشروعات الجامعات الافتراضية في العالم العربي.
الجامعة الافتراضية البريطانية
برز الاهتمام بتفسير سبب فشل الجامعات الافتراضية بشكل أكثر إلحاحاً في مطلع هذا العام، عندما قامت الحكومة البريطانية بإلغاء مشروع الجامعة الافتراضية البريطانية EUK بعد أن أنفق عليه أكثر من 100 مليون دولار أمريكي في أربعة أعوام، ولم يكتب له النجاح في اجتذاب الطلاب، أو تقديم البرامج الأكاديمية التي كانت تنتظر من هذا المشروع الضخم.
واعتبر تقرير صدر مؤخراً عن لجنة التعليم بمجلس العموم البريطاني أن المشروع بأكمله كان "فضيحة عامة"، استهلكت فيه أموال دافعي الضرائب دون أن تعد دراسات جدوى حقيقية للبرامج المقترحة، وارتبط ذلك بثقة مفرطة في النفس لدى القائمين على المشروع بحتمية نجاحه فور الإعلان عنه، وعجز مخل في متابعة التنفيذ بشكل يضمن النجاح العملي والحقيقي للمشروع، وهو ما لم يتحقق عندما ظهر المشروع إلى أرض الواقع.
وحدد التقرير عدداً من جوانب الخلل في مشروع الجامعة البريطانية الافتراضية من ضمنها المبالغة إلى حد كبير في المبالغ التي طلبت من الطلاب مقابل الالتحاق بها. لقد كانت تكلفة الالتحاق بالجامعة تتجاوز 80 ألف دولار للطالب الواحد، وهو ما يزيد عن تكلفة الالتحاق بجامعات بريطانية عريقة كجامعة أكسفورد أو جامعة كمبريدج.
كما ذكر التقرير أن التوقعات كانت خيالية في تقبل الطلاب لهذا النوع من التعليم الجامعي. فقد بنيت دراسة الجدوى في ذلك المشروع على أن الجامعة سوف تنجح في استقطاب 110 ألف طالب في ستة أعوام، ولكنها في الحقيقة لم تنجح في العام الأول إلا في الوصول إلى 900 طالب، في مقابل الهدف الذي كان لا يقل عن 5600 طالب في نفس الفترة الزمنية. ومن بين العدد المحدود الذي اشترك بالجامعة، فضل أكثر من 700 منهم (أي ما يقارب من 75% من إجمالي عدد الطلاب) استخدام نظام تعليم إلكتروني محلي بالجامعة التي يدرس فيها الطالب على النظام الإلكتروني للتعليم والذي قدمته الجامعة الافتراضية البريطانية لهؤلاء الطلاب. وكان من الأمور المفاجئة في التقرير أن هذا البرنامج الخاص بالتعليم الإلكتروني، والذي صممته ونفذته شركة صن مايكروسيستميز العالميةSun Microsystems قد كلف ما يزيد عن 25 مليون دولار أمريكي لتنفيذه، ولم يحظ في النهاية بأكثر من 200 مستخدم، وهو ما اعتبر إهداراً كبيراً للأموال العامة دون دراسة لجدوى المشروع الاقتصادية بشكل واقعي.
وأخيراً أظهر تقرير مجلس العموم البريطاني أن من بين أسباب الفشل أن الجامعة الافتراضية البريطانية قد قررت أن يكون نظام التعليم بها افتراضي بشكل كامل .. أي إلكتروني بنسبة 100%، بينما تبين معظم الدراسات والأبحاث العلمية أن الطلاب في هذه المرحلة من مراحل الحياة الجامعية يفضلون البرامج التي تجمع بين التعليم التقليدي وبين التعليم الإلكتروني، وهي ما تسمى ببرامج التعليم المشترك Blended Learning.
في النهاية بين التقرير أن عدم وجود دراسات واقعية ومستمرة للواقع التعليمي في الجامعات،
وتجاهل حاجات الطلاب ورغباتهم في استخدام التعليم الإلكتروني قد تسببا في ضياع مشروع هام من مشروعات التعليم،
وفرصة كانت مواتية لبريطانيا للاستفادة من السوق الضخمة للتعليم الإلكتروني في العالم.
تعريف بالكاتب
الدكتور باسم خفاجي هو مدير جامعة النهضة – الجامعة العربية الأولى للتدريس باللغة العربية على الإنترنت، وهو كذلك المشرف على موقع "التعليم الإلكتروني العربي" Www.Elearning-Me.Com، ويرأس منتدى الشرق الأوسط للتعليم الإلكتروني الذي يعقد ضمن فعاليات أكبر مؤتمر عالمي للتعليم الإلكتروني Online Educa Berlin
ساحة النقاش