موقع مزيف احذر الدخول فيه

موقع مزيف احذر الدخول

 

حينما كنتُ طفلة رضيعة
ذهبَ أبِي إلى الجبلِ الأخضرِ
وبقيَ يمشِي طويلاً بين أحراشهِ
وأنا بينَ يديهِ
أنظُرُ بعينيّ السوداوينِ
تارةً إلى أمّي
وتارةً إلى السّماءِ الواسعةِ الفسيحةِ
*
وحينما وصلَ أبي إلى حافةِ جُرفٍ عالٍ
ألقى بي فجأةً إلى الأسفلِ
حيثُ البحرُ الأسودُ العميقُ
والماءُ الساكنُ بدون موْجٍ
ولا مدٍّ ولا جَزْرٍ
*
صرختْ أمّي الزّهراء كثيراً
وبَكَتْ بحرقةٍ شديدةٍ
وقالتْ لأبي وسط الدموع والآهات:
أجُننتَ يَا رجُل؟
كيف ترمي ابنتنَا الوحيدة
ولؤلؤَتَنا السوداء الفريدة
هكذا في البحرِ بدون علّة ولا سببٍ؟
أيُّ أبٍ أنتَ،
وأيّ زوجٍ أنتَ،
بل أيّ إنسانٍ أنتَ،
ومنْ أيّ طينٍ خُلقتَ؟!
*
ضحكَ أبي بصوت عالٍ
واقتربَ منْ أمّي ثم احتضنهَا بحبٍّ
وقال:
إنّها لمْ تمتْ
انظري إليهَا
إنّها تسبحُ هناكَ،
أيْ نعمْ هيَ لمْ تزلْ بعدُ رضيعة
لكنّها سمكةٌ عجيبةٌ
لمْ أرَ قبلُ ولنْ أرى بعْدُ مثلها أبدا
*
نزلتْ أمّي منَ الجبلِ
وذهبتْ إلى البحرِ
وألقَتْ بنفسِها وسطَ الماء
ثمّ أخذتني بين ذراعيها عاريةً من كُلّ شيءٍ
وبدأتْ تُقَبِّلـُني كالمجنونة
وشكرتِ البحْر
ثمّ مضتْ مشياً إلى حال سبِيلها
وخاصمتْ أبي لأربعين ليلةً أو أكثر
*
أبِي يحبُّ البحرَ كثيراً
وحينمَا بلغتُ السّابعةَ منْ عُمْري
أخذَنِي إليهِ مرّةً أخرى
وولَجْناهُ معاً ساعةَ الجَزْرِ القُطبيّ
*
أبِي يُحبّ أيضاً صُخُور اليُشْبِ الأحْمر
لذا، حينمَا كُنّا وسطَ البحْر
أجْلسَنِي فوقَ صخرةٍ عقيقيّة حمراء
ثُمَّ قطعَ فجأةً بمِقَصِّهِ الفِضّيّ
ضفيرتِي السّميكة الطّويلة
ووضعَها داخلَ غارٍ أزرق
وقال لي:
هذا غارُ حُوت موسى
هيا الآن يا طفلتي الصغيرة
هيّا لنخرُجْ منْ هُنا
قبل أنْ يأتيَ البحرُ الأسودُ
ويغمرَنَا بمائهِ الأخضر
*
أبي يحبُّ البحرَ والبيتَ أيضاً
لذا، حينمَا استقامتِ الشّمْسُ وسطَ السّماءِ
عُدْنا إلى البيْتِ
وما إنْ فتحتْ أمّي البابَ حتّى شهقتْ
وقالتْ:
أينهَا ضفيرةُ ابنتنا يا رَجُل
أيعقلُ هذا؟
أيعقلُ أنْ تَتْرُكَها هكذا بدونِ شَعْرٍ؟
أيّ أبٍ أنتَ،
ومنْ أيّ ماءٍ دافقٍ خرجتَ؟
*
ابتسمَ أبي ثمّ ربتَ على كتفها
وقالَ:
انظرِي إليهَا جيّدا
يبدو أنّكِ مَا عُدْتِ تعرفين ابنتكِ،
غَداً بَدَلَ الشَّعْرِ
سَتُزْهِرُ فوقَ رأسِها
نخلةُ الشِّعْرِ
بكتْ أمّي طويلا
ثمّ أخذتني بينَ يديْهَا
وطفقتْ تُقَبّل رأسي
ثمَّ خاصمتْ والدي هذه المرّة
لسبعينَ ليلةً أو أكثر
*
أبي لمْ يزلْ بَعْدُ يُحبُّ البحر
أيْ نَعَمْ قَدْ كَبُرَ
ولم يَعُدْ قَادراً على الذّهَابِ إليه
لكنّ أمّي قالتْ لِي:
إنّ البحرَ هُوَ مَنْ أصبحَ يزورُ والدي
قلتُ لهَا: كيفَ؟
قالتْ: اسألي نخلةَ الشِّعْرِ
فعندهَا ستجدينَ الجَوابَ
عنْ كُلّ أسئلتك وأسئلتي
حَوْلَ البحْرِ والرّضيعةِ والضّفيرَة
*
رَحَلَتْ والدتي
وبقِي أبِي
وبقيتْ أيضاً نخلةُ الشّعر
التي قالتْ لي ذاتَ ليلة:
إنني أنا البحرُ الذي كان يوماً مَا
يذهبُ إليهِ والدي
وأنَا البحرُ الذي أصبحَ
يزورُ والدِي
كيْ يقبِّلَ رأسهُ ويديهِ كلّ يوم
ويقول لهُ:
شكراً لأنّكَ جعلت منّي بحراً
ونخلةَ شِعْرٍ.
(من ديواني: 99 قصيدة عنكَ، دار الفرات للثقافة والإعلام، العراق، 2015.)

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 35 مشاهدة