جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
.. انه حديث .. وقصة .. وعطر مهدور .. مفتوح على أبواب الحلم المقفول والجرح الموغل في أعماق الصدور ، هيئة وسحنة رسمت على محياها انفعالات شتى ، تارة وديعة آملة وأخرى شاحبة مرهقة ، لقد صادروا منها شفاه الربيع و حقول الغار وأحالوا صدرها مدافن للعصافير وعلقوا وردة حياتها على دالية الخطايا وذبحوا السنا في عينيها ونكسوا في أعماقها رايات الفرح إلى الأبد وكتبوا بالنار على هامش سيرتها العطرة ضجيج الدمع ، كم حلمت بترديد أغنيات الورود والرقص مع المطر و الحمامات البيضاء تهدل في خفقاتها، ازدحمت الوجوه المختلفة بذاكرتها ، تتغير على غفلة بتغير الظروف و تغير الأمكنة، وجوه تخرج من خلف العتمة ترقص على كل ما هو غير واقع وغير معقول ، وجوه قد لا تستطيع فهم طلاسمها ولن تجد لها الأجوبة الشافية ، وجوه من البشر اختلفوا معها لكنهم لا يعرفون حدودا لهذا الاختلاف ، يسيرون دائما عكس التيار ، وجوه سقطوا من حساباتها ، رفضت الركض و البريق و اللمعان ، أشياء كثيرة فقدت لمعانها لأنها في حقيقتها فارغة ، وجوه تخرج من حدود الممكن ، الأشياء صارت مقلوبة ، والقلوب أخذت شكل السكين و إحساس الحجر ، وقفت متحدية أمام برج إيفل بباريس والساحة تلف حولها ، كل ما حولها يلف و يلف ، وقعت على الأرض وتراءت أمامها صورا متتابعة تبدأ من لحظة ما التقت عيناهما وهي تركب الحافلة التي تقلها إلى مقر عملها بإدارة المطار ، ارتمت على أحدى المقاعد المقابلة له دون أن تكترث لعيون تسترق النظرات إليها بكل إعجاب ، رمقته هي في استدارة بسيطة ، كانت أنيقة فاتنة تحمل في كل كيانها مقومات الجمال الساحر ، جمال يحمل العفوية و البراءة ، نقي مثل نقاوة صباحها ، شذية مثل ورود لم تلمسها يد بشر ، فتحت صحيفتها فتمتمت قراءة لغة العصر الخاصة للوغى ، والمآتم تزدان بضوضاء جند الردى وركاب المنية يفتشون عن أمكنة مرقمة بين مقاعد الرحلة الفردوس ففيها تتساوى مجمل الأرقام رفعت عينيها ولمحت هذا الأجنبي وهو لا يزال يحدق فيها بنظرات أثارت تساؤلات عدة عندها ، نزلت و نزل معها في نفس المكان بالمطار ، ألقى عليها التحية بالفرنسية فردت عليه ثم عرفت أنه مهندس مبعوث في مهمة محددة ، كانت بداية تحمل كل المعاني الجميلة لكنها حذرته أن لا يكلمها داخل إطار العمل و مكان العمل ، سـر كبير تحمله بين جنباتها، هي تعرف أن الفترة متأزمة لا آذان صاغية ، صوت مدفون تحت ردم قاذورات الزمن الغادر ، من يسمع إليها دون ضحكات ساخرة ، أكملت دوام عملها واستقلت الحافلة في طريق عودتها وتجد الحرس بالسياط ينتظرونها ويأخذون منها ما تجنيه تحت فتوى عمل المرأة حرام.. يجب أن تتحجبي.. لا تخرجي .. تصرخ من كل أعماقها " لكن انأ البنت الوحيدة وسط رجال درست واجتهدت في عملي لأوفر القوت و الدواء لوالدي المريض ، ما الفائدة منكم انتم يا من تدعون الرجولة سوى التحريم وأنتم لا تفقهون في الدين شيئا .. اتركوا الفتاوى لأهل الدين ، منذ أن سقط والدي طريح الفراش من يعينه .. من يعالجه .. من يهتم بشؤون البيت داخله و خارجه وأنتم يوم خارج السجن وعشرة داخلة ، هذا هو الحرام بأم عينه ، المؤمن يبر بوالديه و يوفر حاجياته بالحلال ولا يتعدى على حقوق الناس ، امتلأت عيناها دموعا تتحدى بلطفها الضغط و كل طقوسه ، حنــان ذات 22 ربيعا بل هي تراه خريفا تذبل معه وسط رجال لا يعرفون إلا ألقاء التهم و التسلط وفرض الرأي بالقوة مع أنهم يعلمون أن الدين معاملة وحب وعطف ، لكن لمن تشتكي همها والهم واحد مكرر متشابه بين آلاف الفتيات المهضومة حقوقهن ، نفس السيناريو يتكرر يوميا ولكنها وجدت في هذا الأجنبي اللمسة التي تصنع الفرحة في نفسها تلقفها بسمات البراءة وقد أنطلق من محياه نغم الحياة الحلو .
كعادتها ركبت الحافلة في طريقها إلى العمل و كان هو معها يختلس النظرات نحوها هياما و إعجابا ولكن شخصا آخر حال دون استمراره في إرسال نظراته العاشقة ، لقد تعمد الوقوف بشكل يعيق تبادل النظرات بينهما ، هي لا تعرفه كما لا تعرف أنه صديق أخوتها الذي طلبها منهم عروسا له بشروط تضييقية أراد فرضها فرضا ، كانت الفتاة في عيون عشاقها مثل نرجسة في عيون آذار متألقة ، متحررة الأشرعة على ضفاف زرقاء رفقة العصافير تبتعد عن شواطئ الأنانية وتحلق في أمنية نورسة تشم ضفائر النسيم وتعتق بعبير أصابع الربيع ،به صارت فراشة تتصدر مراكب الضوء تضيء كل التفاصيل في شخصيتها ، من دونه حياتها هشة بلا لون ولا ذاكرة ولا عمق ولا معنى ،انها تقف على خارطة الزمن المقلوبة ، أخيرا تفتحت شهيتها للحياة لترتاح في أجوائه فتحـي بخور أعراس الياسمين كأنها أميرة يشدها الى جزر الأسطورة ، الماء يتدفق من النبع فيسري في شرايينها المتعبة ، أنه لؤلؤ الحكمة التي جمعتها به في شرنقة الروح تحلق معه في صفائها ويغردا سويا ما حفره الحب على جدران القلب ، أحبها بكل كيانه ، أحب طبعها ، معاملتها ، شخصيتها ، ومنها عشق وأحب دينها ، تضاريس وجهه تعكس تضاريس وجهها البريء المبطن برائحة حقول الشوق وعزف الجداول ، انها الضوء في فسحة المرايا ، ضوء يراه يحط في كل زاوية من غرفته ، ضوء على التسريحة ، على الستائر ، ضوء في جفون الأباجورة الناعسة ، ضوء في استحضارها ، في أحاديثه المهمة ، وفي يوم ممطر عرض عليها أن يلتقيا خارج العمل ، وافقته بعدما خيم السكون بينهما مدة ، لم يركبا الحافلة هذه المرة ، كان الأفق يتأرجح بين صحو وغيم .. رذاذ المطر يعطي الفضاء شكلا استثنائيا .. فرحة صامتة على محياها الجميل ، لأول مرة تلامس هذا الشعور الغريب .. ببسمة ساحرة قالت له الحياة جميلة ، و ألجمل أن نعيشها مع إننا نختلف في الجنسية والديانة ، لا تهم الأسماء و الأماكن .. اختلطت الضحكة بالدمعة وأحست أنها لامست شغاف القلب ، أدرك من كلامها أن مستواها يتجاوز سنها ، وأن عقلها مكتمل بالتفكير ، وبينما التمست هي بحر الصمت كانت عيناه ترسل المعاني : انك تملكين الحب ، تستطعمين الحياة الجميلة لأنك محبة و محبوبة ، انك المتيمة بالجمال ، وجه صبوح بحيويتها ، نظر إليها مليا وقد تناثرت على محياها الخصلات الهاربة من الدياجي ، والبتلات الوردية ، وحطت العصافير على وجنتيها وبرعمت زهور الأمل في ثغر قد غادرته الضحكات ، نشوة الفرح منحتها الحب الكبير وأعطت الجو بعض الانتعاش وعطره الباريسي يعبق المكان عبر شريط الطريق الممتد بهمسات وضحكات محترمة ، اكتسحت وجهها حمرة ساخنة ، وهي في طريق عودتها إلى البيت بعد احلي يوم قضته في حياتها ، وجدتهم أمامها ينتظرونها في المحطة ليبدأ التحقيق و الشتم .. والضرب ، أحرقوا ملابسها و أشياءها وألبسوها جلبابا أسودا فرضا عليها ، كان صعب أن يتفهم رئيسها في العمل وعلى مضض هذا الأمر الذي أثار كذلك قلقا كبيرا لدى من أحبته ، ابتعدت عنه حتى لا تجر عليه مشاكلها ، بحث عنها و سأل ، ولكنها آثرت أن تبق المتخفية وراء نقابها و جلبابها حيث لا يعرف لها هوية .
إنها نقطة و الرجوع إلى السطر ، طفح كيلها لما تقدم صديق أخوتها لخطبتها ، وافقوا دون الرجوع إلى رأيها ، تركت بحكمهم عملها ، وكأنه الموت البطيء يتسلل إلى جسدها اليافع ، إنها المعاني الهشة ، تضع يديها على نبض بعض الأفكار المقدسة و الدموع تحرق شموع رؤاها ، اغتالوا حلمها ، حاصروا دموعها ، أين حبيبها يقرأ قصيدة أحزانها ؟ تتأمل الموقف بعينين ذابلتين باهتتين غارقة في بحر همومها ، أي صدر يحضن كتاب ذكرياتها ، أنها دنيا الاستفهام تمزقت فيها أوراق قاموس التنهيدات الساخرة ، لم يعد للذكريات و للقلوب الحائرة و الخطوات المنهارة سبيلا غير لغة الهزيمة ، تبتسم في يأس ، لا جديد ، نفس الأكاذيب ، لا راهن و لا مستقبل ، الماضي يملك وجودها المنفي ، في الركن المظلم يتكرر المشهد ، حاولت مراوغة الألوان ، أوهمتها طفولتها المنكسرة أن ألأمر لا يتكرر في مساءات المدن التي اشتهتها بكل أفراحها لكن تعب المواسم و الشوارع الحزينة تسكن ذاتها وخطاها ، أحبته هو فقط فشكلت منه وطنا و انتماءا ، إحساس غامض ممزوج بجميع المتناقضات ، الواقع الرديء بلا هوية ، تفتش كل الملامح التي تسكنها ، تلتهب كزجاج مكسور تحت الشمس ، موعد عرسها اقترب ولا أحد يريد أن يسمعها أو يسمع عذاب قلبها ، وفي ليلة حزينة كحزنها تملكتها رجفة خائفة و هاجس سكن مخيلتها ، تعب الحياة لبس جسدها وحريق مهول بصدرها ، تكتم صوتها وصرخاتها ، تهجر مباهج ألوانها ، ارتدت جلبابها الأسود ونقابها وخرجت إلى باحة المنزل وعلقت حبلا بشجرة تيـن هرمة اعتادت والدتها أن تتوضأ تحتها ، شدت الحبل حول عنقها وتدلت .. ومعها كسرت صرخة مدوية سكون الليل . إنها أمها التي هالها ما رأت وقت خروجها للوضوء لأداء صلاة العشاء ، فأسرع الجيران لفك الحبل ونقلوها بسرعة البرق إلى المستشفى وهناك أخبرهم الطبيب أنها أعجوبة .. هي لا تزال تتنفس ولكن حالتها مزرية ، لم يمر وقت طويل حتى حضر أخوتها يتوعدونها شر الوعيد ، لم تهتم بالأمر وبما ستكون عاقبتها فهي في جميع الأحوال جثة هامدة ، في غفلة من الزمن رتبت أحدى صديقاتها موعدا لها مع الأجنبي في المستشفى وعلم قصتها ، أحبها أكثر لألمها وأحبرها أنه قد أشهر إسلامه وهي بعيدة عنه ، كانت كالملاك من خلالها اتضحت الأمور استطاع أن يفهم الدنيا على حقيقتها ، إنها في عينيه الأنثى التي تحتفظ بطابعها العربي الأصيل ، إنها ليست حبيبة عادية ، لم يتنكر منذ أن عرفها لنبض قلبه ، لقد أنارت عتمة أعماقه ، عرض عليها الزواج و الابتعاد بها عن هذا الجحيم ، ودون تردد أو انتظار رحبت والدتها به في ذات المستشفى و شجعتها على الإسراع والابتعاد من هنا ، ارتدت جلبابها الأسود و تخفت جيدا متجهة إلى المطار لكن هذه المرة ليست كعاملة فيه بل مسافرة مع شخص ليس أجنبي عنها بل زوجها يحمل بين ثنايا الروح دينها و حبها وعفويتها ،انتهت إجراءات الرحيل ومعها خلعت جلبابها و خلعت معه آلامها تاركة جحيما بلون الدم والجمر ، فيض من القلق يسكنها ، صمت بعضها إيقاع متواصل من الجزع كامتداد لعالم غيبي مجهول الأسباب ، ازدحمت في دهاليز الردى الماضي للتهيوء للسفر اعتاده البعض وغامر به البعض الآخر ، ويتجنبه آخرون ، طوابير الرحيل مبرمجة في سنين الخلق وأحداث اكتمال الرواية واقع ولا محال ، استوت في مقعدها تخفي نبرة متحشرجة كادت تلد عبرة ساخنة ، مسحت عينيها متظاهرة بسعال خفيف وراء كبرياء لكبح عاطفة ، كان ملاذها إطلاق العنان لذكريات تتصارع في دماغ كل راحل لا يملك من أحاسيس الغيب قيد أنملة ، ففي هامش حياتها ملحمة و روايات تتحرك جملة من الأحلام و التداعيات .. إنها تغادر وتفارق عمرا عاشته هنا ، والدها وأمها ما مصيرهما من بعدها ، إنهما حبها الأول ، فهل يتكفل الزمن بالتئام جرحها الغائر ، وتظل دروب المعشوقة طويلة و مرهفة ، تحدق في عقارب الساعة ، الوقت يمضي بطيئا جدا ليتها أخمدت ثورة غضبها ليتها نزعت شوكة من صفاء مزاجها ، ليتها شيدت أسس النسيان وعقمت جروح أنثى بوردة الأمل .. كيف ستغرب شمس لتشرق أخرى وهي تقابل أبجديات الوداع ، بعض العتمة تشوب و حدتها فتلوك عذابها في صمت فلا سبيل إلا الانسحاب ، تدلت رأسها وامتزج صوتها بضجيج أحلامها ، كانت تصرخ في داخلها ولكن أزيز محركات رفيقة أعلن أن فراشة السماء ستشرع أجنحتها لتعانق نور الشمس تستنطق الهواء ، وسرعان ما رحبت السماء بأزيزها المألوف ، غابت حنان في دوامة التفكير وعندما صحت من غيبوبتها كانت إحدى يديها تتحسس رقبتها آثار الجروح و الندوب والأخرى بين يدين رحيمتين ، وبصوت هادئ يصل مسامعها من يبلغها بأنها حامل وأن بعض التعب و القلق أدخلاها غيبوبة لم تكن متوقعة ، سحب زوجها يدها من حول رقبتها وهو يعدها لو كان المولود ذكرا سيسميه محمدا ولو بنتا سيسميها آمنــة ، تناثرت من ثغرها الكرزي ترسم لوحة من الجمال الشاعري ، وعاد التألق لعينيها وهي تحضن وجهه بين يديها ،أحست لحظتها أنه يراقصها كالكروان وأنه منحها بحق حياة ثانية تشعر فيها معه بالنماء .. بالدهشة.. بالابتهاج .. بالتوهج و بالاشتهاء .
ـــــــــــــــــــــــــــــــ