من ديواني الجديد: (ما لم تبُحْ بهِ مريمُ لأحدٍ / والذي أهديتهُ إلى روح والدة الأديب صبري يوسف الطاهرة: سيّدة عيسى الرّديف)
(في الصورة أسماء غريب أمام مقرّ الزاوية الناصرية أثناء زيارتها الحديثة إلى المغرب / نيسان 2016).
*
النّقطةُ يا سادتي طفلة صغيرة،
نشيطةٌ جدّا ومُفعمةٌ بالحيويّةِ والجاذبيّة
لكنّهَا أيضاً كثيرةُ الشّكوى والمللِ
نعم، يا سادتي
فالنقطةُ تمَلّ بسرعةٍ شديدة:
تملُّ مِنَ الشِّعْرِ ومن القافية،
مِن السّرْدِ ومِن السّجع،
منَ الكُتّابِ والشعراء،
منَ النُّقادِ والبحّاثة،
من الشُّرّاح والمُترجمينَ،
وتملّ مِنَ المهرجانات
والمعارضِ وحفلاتِ توقيع الكُتب
خلاصة القول يا صحبيَ الكرام:
النقطةُ تملُّ مِنْ كُلّ شيء ومنْ لا شيءٍ
وفي أحايينَ كثيرة تمَلّ حتّى مِنْ نفسها
لذا، وفي يوم من الأيّام،
وحينما استقرّتْ شمسُ مُنتصف الليل في عمق السماء
قرّرَتْ أمُّها أنْ تأخذها إلى مدينةِ الألعابِ
*
مشطتِ الأمُّ شَعْرَ النقطةِ الأسود الطّويلِ
وزيّنَتْ ضفيرتَها السّميكة بحمامةٍ من الذّهب الأبيضِ
وعنكبوتٍ منَ الزّمرد البابليّ الخالص
ثُمّ ألبَسَتْها فستاناً أخضر
طرّزَتْهُ لها مُنْذُ الأزلِ بالأزهارِ والفراشات
وكذا حذاءً أحمر برّاقا
اشترتْهُ لها قديماً مِنْ حانوتِ الصّبر والجَلَدِ
وخرجتَا معاً يداً في يدٍ، أمّاً وطفلةً
وحينمَا وصلتَا إلى مدينةِ الفرح واللّعبِ
صادفتهُما سيّدة عجوزٌ
قالت لهما إنّها قارئة كفّ وفنجان
وأصرّتْ على أن تقرأَ كفَّ النقطة ـ الطفلة
ويا لهول مارأتِ العجوزُ في الكفِّ الصغير:
كانت النقطةُ غادةً شديدةَ الحُسن والبهاءِ
ترقصُ بجسدٍ شبهَ عارٍ فوق موائد الجاهِ والسُّلطان.
*
بَكَتِ الأمُّ مِنْ نُبُوءَةِ عجُوزِ الشُّؤْمِ وقالتْ:
لنْ أسمحَ ما حييتُ لابنتِي أنْ تُصْبحَ راقصةً
سأدْخلُها مِنَ الغدِ إلى مَعْبَدِ الحرفِ
لكنّ النقطةَ ما إنْ دخلتِ المعبدَ
حتّى تَصارعَ بشأنِها أهلُ الحزامِ والعباءَة
وأيضاً صَحْبُ السّمكةِ والتّاج الشّوكيّ
وكذا أهلُ الكساءِ والعَمامَة؛
ذلكَ أنَّ كُلّ فريقٍ منهُمْ
كانَ يُريدُ أنْ تكبُرَ النُّقطةُ تحتَ عينيْه وناظريْهِ
يلقِّنُها العلومَ ويعلّمُهَا آدابَ الخلوة والتعبُّدِ
إلا أنّ النقطةَ فرّتْ منهُم جميعاً
وأغلقتْ على نفسِها في غرفةٍ
لا أحدَ كانَ يستطيعُ الوصولَ إليهَا أبداً
سوى حارسةِ المعبدِ
أجل، هيَ وحدَها هذه الحارسةُ
كانت تجلبُ الأكلَ للنقطة
وتسهرُ على كُلّ شؤونِها الصغيرة والكبيرة.
*
وكَبُرَتِ النقطةُ وأصبحتْ غاية في الوسامةِ والجمَال
وآيةً من آياتِ الوقار والجلال
لكنّ شيئاً عجيباً أصبحَ يحدُثُ في المعبد
ما إنْ تدقّ الساعةُ مُعلنةً مُنتصف الليل،
أصبحَ الجميعُ يسمعونَ أصواتاً عجيبة غريبةً
تصدُر مِنْ غُرفَةِ النُّقطة
أصواتاً حارَ في فهْمِ لُغَتِهَا
حتّى كبار كهَنة وفُقهَاء المعبد
إلى أنْ حلّتْ ليلةٌ حالكة السواد
رأتْ فيها حارسةُ المعبدِ دخاناً أبيضَ كثيفاً
يخرجُ منْ غرفةِ النقطة
فصرخت تطلبُ العون منْ كلّ ساكني المعبد
الذين هبّوا فوراً ليُنقذوا النقطةَ مِمَّا هيَ فيه
لكنْ عبثاً فالغرفةُ كانتْ مستعصية الفتح على الجميع
ولا أحد كانَ يستطيع أن يرى ما يحدثُ بداخلهَا
إلاّ حارسة المعبدِ لآنّها لمْ تكنْ سوى تلكَ السيدة العجوز
التي التقتْها النقطةُ ذاتَ ربيع في مدينة الألعاب،
فالنقطةُ أوِ الغادةُ الفاتنةُ آسرةُ القلوبِ ومُحيّرةُ العقولِ
كانتْ كمَا روَتْ فيما بعدُ السيّدةُ العرّافة
ترقصُ كلَّ ليلةٍ فوقَ مائدةٍ
يجلسُ حولها الملوكُ والرؤساءُ
والسفراءُ والوزراءُ ووجهاءُ القومِ
في كُلِّ رُكنٍ من أرجاءِ المعمورة
وكانوا كلّهم مشدودينَ إلى أردافهَا البديعة
وهي تتحرَّكُ متماوجةً ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشّمالِ
وتضربُ بقدميْها السّاحرتيْن أقداحَ الخمر
وأطباقَ التّين والرّمان والزيتونِ
وهُمْ أمَامَهَا يبتلعونَ ريقَ الشّبق والشّهوة والجُوع والنّهم.
*
ضحكَ كهنةُ المعبدِ وشيوخُه منْ كلام العرّافة
وغادرُوا المكان وكلّ واحدٍ يحلمُ بالنقطة
ويتمنّى أنْ تأتي للرّقص ليلاً فوق سريرهِ
ولوْ لمرّةٍ واحدةٍ في العُمر
إلاّ رجلاً واحداً بقيَ مُتسمّراً في مكانهِ
يبْكِي بحُرقة شديدةٍ أمامَ غرفة النقطة
والعجوزُ العرافةُ تقولُ له:
ما من فائدة يا سيّدي، أنا أيضا بكيتُ كثيراً،
وحاولتُ قبلكَ ألف مرّة ومرّةٍ أن أخلّصها ممَّا هيَ فيهِ
لكنّهَا فتاةٌ شديدةُ العِنادِ ولا تفتحُ بابَهَا لأحدٍ،
ويبدُو أنّهُ قَدْ حُكمَ عليهَا بالرّقص ليلاً إلى الأبدِ.
*
مسحَ الرجلُ دموعَ الدّمِ مِنْ عينيْهِ
وما إنْ لمسَ بأصابعهِ البابَ حتّى فُتِحَ
هكذا ببساطةٍ ودون أدنى مجهود
ذلك أنّ الرجُلَ كانَ العارفَ الوحيدَ
صاحبَ القلبِ الكامل في كلّ ذاك المَعْبَدِ
ووحدهُ كان يعرفُ قصةَ النقطة منَ الألف إلى الياء
لذا، فإنه ما إن دخلَ غرفتهَا
حتّى بادرَ سريعاً إلى سَتْرِ جَسَدِهَا بكسائهِ البُنّي
وطردَ المُلوكَ والسلاطينَ
وأوقفَ الأصواتَ التي كانتِ النقطةُ ترقصُ على إيقاعها
لأنّها لَمْ تكُنْ سوى أزيز الطائرات
وصخب الصّواريخ وضجيج القنابلِ
وقرقعاتِ القذائف والمدفعيّات،
ثُمّ فتحَ نوافدَ الغرفةِ كيْ تخرجَ منهَا
روائحُ دخانِ البارود الكريهِ
وغازاتِ النابلم والكبريت المُروّعة.
*
أجل، هُوَ وحده هذا العارفُ استطاعَ أنْ يفعلَ كُلّ هذا
لأنّهُ وحدهُ كانَ يعرفُ
لماذا كانتِ النّقطةُ تتحولُ إلى راقصةٍ كُلّ ليلةٍ،
راقصةٍ شرقيّة تروي بجسدِهَا
حكايات الحمامةِ التي كُسِرَ جناحُها
وجُزّتْ رقبتُها مِنَ الوريدِ إلى الوريدِ
وحكايات الأسدِ الذي سُجِنَ والنَّمِرِ الذي أعْدِمَ
والأطفال الذين غَرقُوا في بحارِ الغدرِ والفشل الذّريع
والنساءِ اللائي بيعتْ أعراضُهُنّ في أسواق النّخاسة والعبيد،
هُو وحدَهُ هذا العارفُ السومري
كان يعرفُ ما معنى أنْ تكونَ راقصاً
في زمنِ الأشلاء المنثورة
والأجسادِ المبقورة والرؤوس المقطوعة:
أيْ في زمنِ الرّقْص الشرقيّ،
وهذه القصة أيضا كانت من تلك الحكايات
التي لم تبُح بها مريم بعدُ لأحد
سوى لآسية؛ الرضيعةَ الصغيرة
التي رُزقت بها النقطة بعد سنة مرّت على زواجها
من حبيب قلبها وقرة عينها، العارف السومري
صاحب الجبين الوضاء والقلب الأخضر.