موقع مزيف احذر الدخول فيه

موقع مزيف احذر الدخول

قرعت تلك المطرقة الخشبيّة على الطّاولة المهيبة الّتي يجلس وراءها رجالٌ مهيبون، فأيقظتني من السّيل الهادر لجحيم الذّاكرة.
مَن الّذي أتى بي إلى هذا المكان الّذي لم أتمنَّ يوماً واحداً أن أدخله؟
هذا الصّباح عندما تعالى صوت آذان الفجر في القرية كنت أودّ أن أفتح النّافذة، لكنّ البرد كان قارساً جدّاً.. سمعت طرقاً خفيفاً على الباب، إنّها والدة زوجي.
-استيقظي يا هدى علينا أن ننطلق مع الحافلة الأولى..
قلت في سرّي: "كم هي رحلةٌ شاقّةٌ ومتعبةٌ"!
نعم الصّوت يردّد الصّدى في داخلي لكنّه لا يجرؤ أن يمدّد نفسه على ذرّات الهواء، فعيون والدة زوجي في انتظار أن تزجرني، إنّها امرأةٌ قويّةٌ صارمةٌ لا أستطيع معارضتها. نظرت إلى الصّغير النّائم بوداعةٍ على السّرير الدّافىء، وأشفقت عليه من البرد في هذه الرّحلة القسريّة وقلت (في سرّي أيضاً هذه المرّة لذات السّبب): أمومتها تحرمها نوم اللّيالي، وتريد أن تئد أمومتي وإشفاقي على طفلي.
وضعت طفلي هذا منذ أربعة أسابيع، لكنّ زوجي لم يره بعد، فقد اعتُقل منذ عدّة أشهرٍ في إحدى حواكير القرية.
كانت الرّحلةُ طويلةً امتدّت منذ ما بعد الفجر بقليلٍ وحتّى السّاعة العاشرة صباحاً، مع أنّ القرية لا تبعد عن المدينة كثيراً لكنّ التّوقّف في رتلٍ طويلٍ من السّيّارات للتّفتيش الأمنيّ استغرق وقتاً طويلاً.
كان الطّفل ينام في وداعةٍ في جوّ الباص المزدحم بأنفاس الرّكّاب، أمّا أنا فكنت أغالب النّعاس، فالنّوم في الحافلة ليس محموداً، وكنت أتبادل الابتسامات الصّامتة مع شابّةٍ تحمل كتباً ورداءً أبيض، شعرت بالتّصاغر أمامها، فرحلتها لطلب العلم والارتقاء أمّا رحلتي فكانت لغرضٍ معاكسٍ تماماً. ابتسمت لي مرّتين أو ثلاثاً بطريقةٍ ودودةٍ وبادلتها بالمثل، لكنّني عقدت العزم أنّني عندما أعود للقرية لن أحاول مصادقتها أو زيارتها مع أنّها تسكن في نفس الحارة الّتي أسكنها مع أهل زوجي.
كان هناك رجلٌ يقف في الممرّ، ويتمسّك بقطعةٍ جلديّةٍ متدليّةٍ من سقف الباص كما لو أنّها مشنقةٌ، وهو يتفرّس في وجهي. عرفت هذا الرّجل، إنّه صاحب الدّكّان الوحيد في القرية الّذي يقرض النّاس حاجياتهم إلى أجلٍ متوافقٍ مع المواسم أو قبض الرّواتب لقاء فائدةٍ معلومةٍ. انتقل من التّفرّس إلى الابتسامة وهو يمسّد شاربيه.
لم أكن لألوم أحداً على طمعه في أنوثتي فمن يقع عليه اللّوم هو زوجي..
كان فلّاحاً متفانياً يعرف مواقيت البذار والحصاد، ويحرص على نظافة حقله من الأعشاب الضّارّة، كان يحدّثني في الأمسيات عن الحقل وأمنياته، كم كانت فرحته عظيمةً عندما سيّج الحقل بسورٍ معدنيٍّ ودهنه بلونٍ أخضر، إلى أن أتى يوماً وأسرع نحو المغسلة ليتوضّأ، فرحت وباركته وحذوت حذوه، فقد قرأت في مجلّةٍ دينيّةٍ عثرت عليها في بيت والدي أنّ المشاركة في العبادة تخلق نوعاً من الألفة والتّواصل الأسريّ، لكنّ تواصلنا الأسريّ انقطع عند تلك اللّحظة، حيث بات ساهماً شارداً يفكّر فيما لا أعرف، وكأنّه في عوالم لم أكن لأدرك فحواها يوماً.
أطال لحيته واشترى لباساً غريباً، ثوباً قصيراً وتحته بنطالٌ، كان يصرّ أن يقول عنه "سروال"، فاللّفظة "بنطال" كما أخبرني كانت غير عربيّة، وصار يلبس طاقيّةً مزركشةً بشكلٍ غريبٍ ، لم تكن لأيدي نساء بلدي أن تصنع مثلها، كما كحّل عينيه بكحلٍ عربيٍّ فملأهما قسوةً وحدّةً.
بتُّ لا أعرفه..
دخل يوماً إليّ وهو يحمل بندقيّةً ويقول أنّه أصبح قائداً لكتيبةٍ ما، كنت أشمّ في دخوله رائحة الموت، كانت تفوح منه لعنات الجثث الّتي كوّمها مع رفاقه فيما يسمّيها غزواتٍ مباركةً.
طاردته الكوابيس بشكلٍ مستمرٍّ، فكان يصحو ويقول أنّ هناك يدين تطاردانه من قلب الظّلمة، ثمّ ينشقّ الجدار عن وجوه ضحاياه.
لطالما تضرّع وهو يؤدّي صلاته: كيف أقتل؟ وكيف أطهّر نفسي؟ وكيف تأمرني وتعاقبني؟
لم أره في اللّيلة الّتي قُبض عليه فيها، سمعت صوت الرّصاص آتياً من الحقول، وفي الصّباح أخبرتني أمّه أنّ المعركة انتهت، وبدأتْ في صبّ جام لعناتها وسبابها على من أخذوه ومن لا يقيمون وزناً لقلب الأمّ وقدسيّته!
كنت أرجو في تلك اللّيلة أن يُقبَض عليه حيّاً بدلاً من أن يعود إليّ جثّةً نتنةً، أو لا يعود أبداً.
دخلتُ إلى المحكمة في العاشرة تقريباً، ثمّ اقتربت والدة زوجي من رجلٍ كان يحمل القهوة والشّاي على صينيّةٍ وسألته عن موعد المحاكمة.
- في الثّانية عشرة يأتون بهم يا أمّي.
جلسنا على مقاعد انتظارٍ طويلةٍ أعِدّت لهذا الغرض، وكان هناك كثيرون مثلنا تملأ عيونهم نظرات الانكسار والحزن واللّاجدوى.
كلٌّ منهم يرقب أحداً، لكنّهم جميعاً يوقنون أن لا جدوى من هذا الانتظار..
أتوا في لباس السّجن المخطّط بالرّماديّ والأسود، وكانوا جميعاً مصفّدين بسلاسل في أقدامهم ويمشون ببطءٍ لئلّا يقعوا فوق بعضهم البعض.
رأيته بينهم.. كان حليق الرّأس والذّقن، نحيلاً بشكلٍ كبيرٍ، أشحت بوجهي عنه، فلم أحتمل أن أراه ذليلاً هكذا.
كدت أتوسّل لوالدته أن تدعني أنتظر خارجاً، فقد شعرت بأنّني لا أعرف هذا الرّجل، ليس فيه شيءٌ ممّن أحببت.. لكنّني خشيت أن تزجرني وهي الّتي لا تتورّع عن هذا حتّى أمام النّاس.
كانت الجلسة مخصّصةً للنّطق بالحكم، وكنت أعلم في قرارة نفسي بأنّه يستحقّ الشّنق، لكنّ جانباً في داخلي كان يخشى أن أصبح أمّاً وحيدةً، فأنا أخاف مسؤوليّة التّربية ووصمة العار الّتي ستلحق بابنه حين يقول النّاس عنه: "هذا ولد الإرهابيّ".
لم أسمع قائمة الأحكام الّتي حصل عليها من سبقه في التّرتيب والتّهمة، ولم أسمع الأحكام الّتي ترتّبت على من تلوه، وكان صوت القاضي يسبح في أذني مجرّداً من كلّ المؤثّرات الّتي تحيط به..
- المتّهم رقم 17 يحكم عليه بالإعدام شنقاً.
كأنّني أستقلّ تلك الدّوّامة الّتي يلهو بها الأطفال في العيد، لتضمحلّ الموجودات وتصبح بلونٍ متمازجٍ لا لون له، وتختلط الأصوات لتبدو كأنّها آتيةٌ من فضاءٍ بعيدٍ.
وضعت الطّفل على المقعد المجاور ووقفت صائحةً:
- أحسنت سيّدي القاضي..
دقّ القاضي على طاولته بمطرقته الخشبيّة، وأمر بإخراجي من قاعة المحاكمة وأنا أصيح:
"عاش الوطن.. أحسنت سيّدي القاضي".

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 87 مشاهدة
نشرت فى 22 إبريل 2016 بواسطة dsdsdsfffssff