موقع مزيف احذر الدخول فيه

موقع مزيف احذر الدخول

في المدن الكبرى، المعاصرة، يسقط الإنسان كحبة قمح قذفتها رحى الزحام والصراع من أجل البقاء، والسباق المحموم من أجل إيجاد موطئ قدم على مسرح حياة، ما أكثر اللاعبين عليه، وما أشق لفت النظر إلى ما يجري على خشبته! في مثل هذه المدن الحجرية القاتلة تستأصل العلاقات الحميمة من الصدور لكأنها مصل لا تحتاج إليه الروح البشرية، ونرى الفرق الهائل بين ما ينزع إليه الإنسان من صداقة وحب ومؤازرة و.. وبين واقع يشبه الأنفاق الفردية.. كل يجري في خط مستقيم.. بعيد لا يسمع فيه نبض الآخر، ولا يرى مصيره، لكأن الفرق بين حاجة الإنسان وواقعه، يساوي الفرق الزمني الهائل بين إنسان الكهوف الذي عاش بالفطرة، وغريزة التجمع والترابط وبين إنسان القرن العشرين، إنسان مدن ناطحات السحاب الشاهقة التي يتقدم فيها روحياً حتى ليبدو بلا قامة وحجم!‏

صورة هذه المدينة تغيب تماماً من خلفية الأحداث التي يرصدها الكاتب الأرمني، “وليم سارويان” في روايته “أهواك يا أمي” رغم أن مدينة الأحداث هي مدينة نيويورك بالذات! نيويورك أكبر مدن العالم وأكثرها امتلاء بناطحات السحاب والتناقضات!‏

-ممثلة هي بطلة الرواية! إذن ينتظر القارئ عالماً حافلاً بالإثارة، والتناقضات النفسية الحادة.. لأن بلوغ الشهرة والمجد في بعض المهن يكلف غالياً جداً! لكن الإثارة تغيب، ينساب بديلاً عنها عالم إنساني شفاف، ويجري كل شيء خلاف ما يتوقعه القارئ لحظة يفتتح الروائي أحداثه بالحوار التالي:‏

“خرجت ماما الحبيبة من الحمام، وقد سترت ما يجب أن تستره امرأة ناضجة في مثل سنها.. ثم سألت: ما الوقت الآن؟‏

-إنها الثامنة!‏

-الثامنة إلا عشر دقائق!‏

-إنها الثامنة تماماً..‏

-اعتماداً على أي ساعة؟‏

-إنها الثامنة في ساعات العالم كلها! لقد تأخرت.. ولكن.. هل سبق لك أن التزمت بموعد دقيق طوال حياتك؟‏

-نعم، كنت هنا في الوقت المحدد لدى وصولك.. وها أنت الآن هنا يكفينا ذلك!”‏

هذا الحوار يدور بين الأم الممثلة، الشابة، المغمورة وطفلتها ذات تسعة الأعوام! هما دون أسماء علم! الأم عبر صفحات الرواية كلها اسمها: ماما الحبيبة، والطفلة اسمها حسب مزاج الأم: جرادة، ضفدعة، أو زهرة.. أو نجمة.. وهما وحيدتان في قلب كاليفورنيا!‏

تعيشان وحيدتين بعد أن انفصلت الأم عن الزوج فسافر ليعيش في باريس مع ابنه الأصغر والوحيد بيتر.!! تقرر الأم السفر إلى نيويورك لتحظى بفرصة للتمثيل على المسرح.. وهناك يعجب المخرج بالطفلة ويطلبها لدور رئيس في مسرحية سماها مؤلفها “الكرة المرتدة” ومن هنا تستأثر الطفلة “النجمة” بأحداث الرواية لا بأحداث المسرحية المفترضة “الكرة المرتدة” فقط، وتصبح روح الثقة المفتقدة في شخصية الأم، والمرآة الصافية لمحيطها كله خاصة لـ”غلاديس” صديقة الأم المليونيرة، المضطربة الشخصية، المتسلطة.. المترددة..‏

بين الأم وابنتها خيوط مشتركة لا تحصى: الصراحة المطلقة، الصدق، البراءة حب الآخرين، الارتباط الوثيق لكل واحدة منهما بالأخرى.. وحب الحياة البسيط العميق! لكن في الطفلة شيء يضيء.. ربما كان النضارة، وربما كان قلة التجربة بحيث لا نراها معتكرة القلب أو الروح، أو المزاج، وهي تعيش طموحات أمها وإخفاقاتها وأحزانها وقلقها الدائم للوصول.. وتذكرها بنعومة فائقة بذلك الرجل الذي يعيش بعيداً مع الشقيق الصغير.. وتطالب في لحظات القتامة والبؤس النفسي باتصال هاتفي أو بدعوة إلى مجيئه.. الطفلة التي اتسع عمرها لربيع تاسع فقط تنسرب في شقوق النسيج الاجتماعي الصلد الذي لا يخرق، وتدخل كقطرة الندى بين التويجة والمدقة.. وتستقر هناك!! تقيم مثلاً علاقة صداقة نادرة مع ممثلة مسرحية شهيرة (نزيلة في الفندق) وتثمر تلك الصداقة ثماراً طيبة.. إذ أن السيدة “غراتشو” الممثلة تدربها على التمثيل وتحتضن موهبتها وتقود خطاها خطوة، خطوة.. ثم ترمم انهيار علاقة أمها بصديقتها المليونيرة “غلاديس” حين يدب شقاق بين الاثنتين بسبب التمايز النفسي بينهما لا المادي فحسب.. ثم تعيش ظروف العمل الفني القاسية.. احتمالات النجاح والفشل! أمزجة النقاد التي تنساق، يا للعجب، لرأي الجمهور ولا توجهه! وتجعل الأب في النهاية، في جملة الرواية الأخيرة يطير من باريس ويحط رحاله في نيويورك، في غرفة الطفلة الغافية بعد أول عرض ناجح للمسرحية!‏

يستخدم “سارويان” عيون الطفلة ليعرض لنا العالم كما يراه هو، فالطفلة ليست سوى ابتداع يعرض من خلاله رؤيته للعالم ويكمل ما قدمه في رواية “الملهاة الإنسانية”، يصوغ قوانين الوجود والحياة على طريقته وربما شابه في ذلك الأديب الروسي “الكسندر غرين” الذي ينتزع من الوردة أوراقها الملونة، المعطرة، ويرمي بأشواكها وساقها وجذورها الغاطسة في الطين، وكان رغم سواد الواقع وإظلامه ووحوله يتوق إلى شواطئ تتألق رمالها، وصخورها وبحار تزهو بأشرعتها وبحارتها، إلى رحيل كرحيل الأغنية عبر التلال والسهوب، إلى أجراس لا يخفق رنينها ترن وترن.. وترن فتبعث في أركان الأرض البذور الكامنة، وتهز الأغصان الذابلة، فينهض من براعمها الخفية الربيع الأخضر الغائب.. لذلك كتب من الجمال وحده! وعن السعادة وحدها! لكن “سارويان” لم يختر الجمال وحده، والسعادة المفترضة وحدها ليكتب عنها، بل كان يغوص في مصاعب الحياة فلا يراها كما ألفنا أن نرى فمدن اللهاث وراء المال والشهرة وإثبات الوجود تبدو مدناً رحيمة: “.. كنا نقضم اللوز والصنوبر ونحن نسير في الشارع السابع، وكلما رمينا بالقشور تهافت طائر أو طائران من الحمام الذي يقيم في شوارع نيويورك.. بدت لي الطيور أشبه بأفواج الناس المسرعة وسط الزحام، متيقظة، متوثبة، مشغولة بالنظر فيما حولها!” وتبدو كذلك مدناً لا تغيب الطبيعة الجميلة عنها والطبيعة هي سيد الحب الأعظم: “… كنا نحاذي الحديقة الكبرى في الشارع الخامس. قالت لي ماما: أتشمين هذه الرائحة؟‏

-أية رائحة؟‏

-رائحة الأشجار والأعشاب في الحديقة المركزية الكبرى يا ضفدعتي.. تأملي العصافير والسناجب.. أنا أعشق هذه الحديقة!‏

-وأنا كذلك!‏

أما إيقاع الحياة اليومية الجنوني فيعكسه “سارويان” بشكل آخر.. يصف مطعماً للخدمة الذاتية في وسط نيويورك: “.. مطعم الخدمة الذاتية في الشارع السابع والخمسين، مطعم ممتاز، ولكن من الصعب علينا أن نتسلل من خلال الباب الدوار.. فعندما يتاح من المجال سرعان ما يعبر أمامك أحدهم ويدفع الباب.. كنا ننتظر أنا وماما الحبيبة لكن دون أمل كبير في الدخول.. وبينما نحن على هذه الحال إذا برجل يرتدي ثياب العمل، يوقف الباب ويبعد الناس بذراعه القوية…”.‏

الباب الدوار الذي يبتلع البشر، ويلفظهم دون انقطاع يجد من يوقفه لحظة.. يجد من يقهر مما نعته بإدخال طفلة وأمها، لكن حالما تدخلان يبدأ الباب يدور بسرعة متزايدة.. ويروح كل الناس يدخلون وهم يتدافعون بما يشبه ما يحدث في السيرك حيث تدور العجلات دون توقف.. هذه اللحظة التي يصفها الكاتب في مطعم الخدمة الذاتية مفتاح كل مواقفه في الحياة، فدائماً هناك، من، وما يساعدنا ويدفعنا إلى المسير.. وحين تتتالى موجات الواقع العنيفة يكون أمامها ما يخفف لطماتها “… كان لا بد لنا من أن نجد طاولة شاغرة لشخصين.. الطاولات كلها كانت لأربعة، وما كان بوسعنا أن نجد مقعدين على طاولة واحدة حينذاك قررت ماما أن تجلسني وحدي إلى طاولة وراحت لتجلس إلى طاولة أخرى غير بعيدة عني.. وهكذا لم نجلس معاً، لكن كنا متجاورتين.. كان الحساء طيباً جداً، لكن الضوضاء كانت شديدة فكأنني لست في معرض تناول العشاء بل كأنني ألعب لعبة كبيرة أجهل قواعدها!”.‏

الطلاق خيط آخر تعتمده الرواية.. وهو بدوره يتفرد في مظهره، فالأم الممثلة ترتبط بعلاقة قسرية مع الأب الموسيقي الذي اختاره الابن ليعيش معه: “-يا ماما، ما وجه الصعوبة في أن تكون المرأة امرأة حقة؟ نعم يا ضفدعتي.. ما أصعب ذلك! أنا صاحبة تجربة في هذا المضمار، ولذا أحس بالخوف فأنا لم أكن زوجة ناجحة، ولو طلب إلى النقاد أن يتناولوني لحطموني تحطيماً على ما أظن! ولكانوا محقين في ذلك.‏

-لماذا؟ ماذا فعلت كي تستحقي ذلك؟‏

-كل ما فعلته أنني لا أولي اهتمامي إلا الأمور التي تعنيني وتخصني..‏

-وأبي؟‏

-آه، لو طلب إلى النقاد أن يحكموا عليه لحطموه كذلك.. في كل مسرحية بل في كل مجال عمل، على كل امرئ أن يلعب دوره، وأنا لم أتقن دوري، وأبوك لم يتقن دوره كذلك، فالمشكلة على هذا ما زالت معلقة!‏

-وبماذا أساء أبي؟‏

-من يدري؟ ربما كل الإساءة.. ألا اعلمي أن الزواج ليس مسرحية ذات فصول ثلاثة..‏

-ما هو إذن؟‏

-إنه مسرحية ذات ثلاثة ملايين من الفصول فإذا بدأت فليس لها نهاية إلا إذا كان موت أو طلاق، وما دمت أخاف الموت فقد اخترت الطلاق خاتمة لمسرحيتنا!”.‏

لقد تم الطلاق إذن حين فشل كلا الزوجين في لعب دوره كزوج، ومع ذلك بقيت أسلاك الهاتف تهتز بين باريس ونيويورك لبحث مشاكل تتعلق بالطفلين، ومعاناة الصغيرة انحصرت في شوقها لأبيها وإحساسها بالفراغ العاطفي الذي لا يعوضه عادة واحد من الأبوين بمفرده! تجيب الصغيرة ممثلة المسرح الشهيرة “غرانشو” حين تسألها هل جربت التمثيل:‏

“… أحياناً أتقمص شخصيات مختلفة لأصناف شتى من الناس بل أتلبس شخصية بعض الأشياء كذلك..‏

-مثلاً؟‏

-حينما أرى نجمة تلمع أقول لنفسي أنا نجمة!‏

-وماذا تفعلين؟‏

-أقول لنفسي، إنني هنا، وفي الأعالي، في نفس الوقت.. إنني ألمع كنجمة!‏

-ولهذا يدعوك أبوك يا نجمتي؟‏

-لا.. لم أخبره أبداً أنني أمثل دور النجمة.. كل ما في الأمر أنه لقبني ذات يوم بهذا اللقب..‏

-حسن جداً، ولماذا تدعوك أمك يا ضفدعتي؟‏

-لأنني أهوى الضفادع.. ألتقطها وأداعبها..”.‏

وعلى الهاتف تقول الأم: “.. لقد اتصلت بك كي تطلب منك السماح لها بأن تمثل دوراً في مسرحية، لكنها نسيت ذلك..‏

ثم تجيب عن أسئلة كثيرة تخص التمثيلية طرحها الأب عليها.. وفيما بعد تناولها السماعة لتطلب منه ذلك بنفسها! ويقول الأب اطلبي من أمك أن تبعث لي بنسخة من التمثيلية بالطائرة، سوف أقرؤها وأبرق لها بشأنها!‏

-طيب يا بابا، متى ستعود إلى البيت؟‏

-أشعر أنني مرتاح هنا، لكن ثقي بأنني أشتاق إليك دائماً، ثم همس بصوت رقيق: وأنا كذلك مشتاق جداً لأمك، ولكن أرجوك، لا تبلغيها ذلك!‏

الطلاق الذي يدمر ويجرف في طريقه كل جميل ربط بين إنسانين في الماضي.. بدا هنا أقل سوءاً وإيلاماً وتحطيماً للمثل الإنسانية.. وإذا كان أسلوب الكاتب في قراءة الواقع رحيماً، مترفقاً، فيه قدر عظيم من غض البصر عن نتائج التناقضات المريرة فإنه يضعنا أمام إشارة استفهام حول تحليل شخصيات الرواية، إذ يفترض أن الصراع ينشأ ويشتد حين تتباين الأهواء وتختلف، وتصطدم المصالح وتحتد، لكن الصراع هنا يكون صراعاً في الذات نفسها، الذات التي تزن قدراتها وتعرفها جيداً، لكنها تطمح إلى شيء عظيم، كبير.. قد تكفيه تلك القدرات للوصول إلا أن معوقات الواقع تعوقه قليلاً عن الاندفاع كما نرى في بناء شخصية الأم التي ترفض الاعتراف بعمرها ربما لأنها تشعر في الأعماق أن الزمن يخون طموحاتنا، إذا تخطى محطات معينة:‏

-تعرفين حق المعرفة أنني لم أتجاوز الثانية والعشرين- ذلك يعني أنني لم أولد بعد.. لطالما ذكرت لي أنك كنت في الرابعة والعشرين حين ولدتني..‏

-هذا صحيح، لكن ما قلته لك كذبة فادحة! ثم لقد رأيت كثيراً من النساء في سن الثالثة والثلاثين، فهل أبدو مثلهن؟”.‏

هذه الأم تطير من كاليفورنيا إلى نيويورك وراء أحلامها. وتعيش حزناً جارحاً حين يطلب المخرج ابنتها للتمثيل، ثم يعدل كاتب النص الشاب نصه بحيث يستوعب الأم التي يغفل سارويان إعطاء حكم قيمة لمواهبها وقدراتها التمثيلية. وحين يفشل العرض في بداياته تصاب باكتئاب شديد وتلقي باللوم على نفسها. “.. كانت تقف جامدة أمام المرآة وتنظر إلى نفسها قائلة: لقد أسأت التمثيل..‏

-لا تهتمي لذلك يا ماما الحبيبة فأنا وكل الممثلين لم نحسن الأداء كذلك..‏

-إنني لا أصلح لشيء، ولن أنجح في أية مسرحية أخرى.‏

-وأنا أيضاً.‏

-هذا هو قدري..‏

-ما رأيك أن نرحل إلى باريس؟‏

-أعتقد أنني لن أكون ممثلة كبيرة وكفى.. لن أكون أبداً مشهورة ويعلم الله مع ذلك أنني بذلت ما في وسعي.. لقد جهدت نهاراً وليلاً ولم أعش إلا لهذه المسرحية ولدوري على مدى ستة أسابيع.. وماذا جنيت؟ لم أجن إلا سخرية الجمهور!”.‏

ورغم أن سارويان يلغي هنا الصورة المعروفة عن “كواليس” الشهرة والفن والتمثيل فإنه يترك العنان لقلق الفنان وتذبذبه الشديد بين قاع اليأس وقمة الإحساس بالمجد.. وهي حالة إنسانية لا يمكن إلغاؤها.. ورغم الرقة البالغة التي تتعامل فيها مع صغيرتها فإنها تبدو لبوة شرسة مع صديقتها “غلاديس” حين تعكر الأخيرة صفوها وتشوش عزلتها “.. في بعض المواقف تصبح ماما أشد الناس فظاظة. ويسخطني أن أقول لنفسي هذه ليست أمي.. إن أمي لا تفوه بمثل هذا الكلام.. إنها امرأة أخرى، وما أنا إلا لقيطة تبنتني هذه المرأة الغريبة عني.. لا أريد أبداً رؤيتها.. أريد أن أسترد أمي الحقيقية..”..‏

أما الطبيب “سبرانغ”، وهو شخصية ثانوية، فيغطي انطباعاً رائعاً ما دام يمثل الكمال في هذه المهنة، وهو ما لم نره أبداً في رواية أخرى “لعلنا نذكر صورة الأطباء في رائعة تولستوي (لحن كروتيزر)” “سبرانغ” يداوي الطفلة حين تعاني من هدير مستمر في أذنيها بعد رحلتها في الطائرة الايرلندية من كاليفورنيا إلى نيويورك، ويرفض تناول أجره! وحين تصر الأم على منحه دولاراً، ما يلبث أن يشتري به دمية ويرسلها هدية إلى الصغيرة التي تغدو أفضل حالاً بعد أن تنفذ أمها وصية “سبرانغ” وتغني لها وهي تعانقها في السرير.. والطبيب يعود لزيارة الطفلة المقيمة في فندق “بيير” في الطابق الحادي والعشرين، وتكون مناسبة جديدة لتبادل حوار إنساني حار، يقول “سبرانغ”:‏

-كيف حال الأب والابن؟ أتمنى أن يكونا في حال حسنة..‏

-لم يكتبا لنا أبداً ما يقلق! يبدو من رسائلهما من باريس أنهما يستمتعان بالحياة، وهذا ما يسعدني!‏

-في باريس؟ لماذا هما هناك؟‏

-زوجي- مؤلف موسيقي، وقد ارتأى أن يستمتع بالحياة في باريس زمناً ما..‏

-مؤلف موسيقي؟ هل بوسع المرء أن يعيش من مهنة تأليف الموسيقى؟.‏

-إذا كان الأمر يتعلق بزوجي فنعم، إنه يعمل بجد وهو يحب عمله ويحرص على تحصيل المال من كده.. إنه لا يؤمن أن الفن زهرة فضة في عالم تسيره الآلات ويسيطر عليه المال.. وهو ذو شخصية بالغة القوة فيتشاجر مع كل من يلتقي من الناس.. لقد سمعته مرة يفخر بعدم احتفاظه بأي صديق فهو يفضل أن يكون له أعداء!! تتدخل الطفلة قائلة: كلا. ليس هذا بصحيح إن أبي يعرف كثيراً من الناس، لكنه مشغول إلى حد كبير عن أن يكون له أصدقاء، وهو ليس له أي عدو في هذا العالم لأنه مشغول عن أن يكون له أعداء!! ويقول “سبرانغ”: أرى فيكم أسرة، لطيفة، محببة مع كل ذلك! الأب والابن في باريس، والأم والبنت في نيويورك، لكن هذا الوضع قد يسوء ويستفحل.. أليس كذلك؟”.‏

كل الشخصيات تحمل بعداً واحداً تقريباً. ليس لسذاجة الكاتب ولا لقصور رؤيته، بل لالتزامه بأسلوبه الخاص في رؤية وتحليل وتسويغ العالم، إلا شخصية “غلاديس ديباري” التي تتمرد على كاتبها وتشكل شخصية روائية نموذجية، ممتلئة بزخم التناقضات، والمشاعر الحادة والسلوك العنيف، وهي مهما تشتت تلتئم حول محور التسلط وردود الأفعال الحادة! تأتي “غلاديس” الميونيرة لزيارة صديقتها الأم فتبدي امتعاضها من نزول الصديقة في غرفة متواضعة في أعلى طابق من الفندق. تقول الأم: “أنا أعرفك منذ طفولتي، لقد توفر لك المال طوال حياتك، ولم يكن لديك ما تفعلينه سوى تبديد هذا المال، ولم يتح لك الزواج لتحاولي بناء حياتك.. ولم تعرفي الطلاق لأنك لم تتزوجي. لم تجربي أن تكوني أماً صالحة لولدين بعد أن تشتت شمل أسرتك.. أنا أغبطك على ما تملكين لكن اعلمي أن في نيتي أن أعيش على هواي وحيث يروق لي أن أعيش!.‏

تتجه غلاديس نحو طبيبها تبكي وتصرخ: لماذا تقف جامداً، ساكناً، فاغر الفم؟ ألست طبيباً؟ إذن قس درجة حرارتها.. ألا ترى أن هذه المرأة قد هدها المرض؟ نعم إنها مريضة، مريضة! أحاط الطبيب “غلاديس” بذراعيه وقال: اهدئي يا بطتي! وانتزعت “غلاديس” نفسها من ذراعيه وصرخت: أنا لست بطتك أيها الطبيب التاعس، أيها اللاهث وراء المال! أيها المنافق.. أنا أعرفك يا زير النساء.. أيها المقطب الكئيب أيها المخادع الذي لا يطاق”..‏

هذا الطبيب يصبح زوج “غلاديس” بعد فترة قصيرة.. وتحتفل بالزواج منه بحفل كبير، قصر على دعوة صديقتها إليه.. وحين تمر بضعة أيام تسأل الطفلة أمها عمن كان يتحدث إليها على الهاتف فتقول:‏

-“تشاجرت مع زوجها وقد ضربها وهي تريد استدعاء الشرطة.. إنها تخشى زواجها من رجل مجنون.. ويبدو أنه يهددها بالقتل فهي لا تريد البقاء في المنزل معه.. بل تريد المبيت عندنا.. لكنني أجبتها أن هذا محال!”.‏

“غلاديس” لا تختار إلا الحلول الحمقاء التي تظن أنها تضع بها النهايات الأفضل، ولا تلبث أن تتراجع عنها بمنتهى البساطة، وبما تمليه اللحظة المتفجرة بالانفعال.. تقول لصديقتها: “.. أتريدين الصراحة؟‏

لا أريد أن أنضج ولا أرغب في ذلك.. وهذا ما يجعلني أقرب إلى الجنون فأنا لا أرغب في الخداع والتمثيل المتقن، ولا أريد أن أكون زوجة صالحة وأما لأطفال.. أنا أكره كل ذلك.. لكن ما الذي أستطيع فعله غير هذا؟ أنا محاصرة.. وهذا أمر محزن حقاً.. تمر فيَّ لحظات أتمنى فيها لو أخرق الأرض بقدمي، وأصرخ وأرمي بما تحت يدي في وجه الناس.. ولكني لا أستطيع.. لم أعد قادرة على الاستمرار، وهذا ما يمرضني أما أشد ما نضجر ونسأم أنا وهوبار، عندما أحاول أن أكون رقيقة ذكية هذا أمر فظيع.. لقد رغبت دائماً في أن أشارك الحياة، لكنني أرى أنه لا دور لي في هذا المجال…”..‏

هكذا تقدم “غلاديس” تحليلاً صريحاً لنفسها، كما تفعل كل الشخصيات الصادقة الواضحة التي ظاهرها هو باطنها لا تعرف المداورة ولا التقنع أو الازدواجية..‏

هكذا نرى السيدة “غرانشو” الممثلة المتقاعدة التي لا تبخل بخبرتها على من يريد.. وهكذا نرى “هوبار” طبيب “غلاديس” وزوجها فيما بعد، وهكذا يبدو السيد “مايك كاتشيه” المخرج، و”أليمرسون” المؤلف المسرحي..‏

أسلوب “سارويان” الروائي هو الحوار، ولكن ليس المسرحي لأن المكان والحركة لا يأخذان منه اهتماماً مركزاً وخاصاً.. إنه حوار الحياة، تبادل الحكي والآراء، أسلوب التفاهم وإيجاد الصيغ المشتركة بين الشخصيات، والتعبير الأمثل عن الموقف الشخصي..‏

فنادراً ما نلمح اهتماماً بالقرائن التي تدل على الشيء دلالة، وغالباً ما تفصح الشخصية عما يعتريها بالكلام والوصف، ومواجهة الآخر، وهو منذ افتتاح الرواية يبدأ الحوار.. وعند اختتامها ينهي بالحوار!.‏

تقول الصغيرة لأبيها الذي فاجأها بمجيئه من باريس:‏

-“هل أحببت المسرحية؟”.‏

-أحببتك أنت يا نجمتي الصغيرة في هذه المسرحية.‏

-وماما الحبيبة؟‏

-وأحببت ماما كذلك!‏

-هل ترى أنها مسرحية ناجحة؟‏

-إنها بدون شك حققت نجاحاً باهراً.. ويبدو أنك ستصبحين غنية وشهيرة.‏

-غنية وشهيرة؟ ألم تخبرك ماما الحبيبة بشيء؟‏

-وبماذا تخبرني؟‏

-لن أستمر في تمثيل المسرحية.. إنني راحلة إلى باريس معك ومع بيتر..‏

-هل أنت جادة؟‏

-أنا لا أمزح.. أعلم أنني سأكون رياضية لا ممثلة.‏

-فليكن يا نجمتي.. هيا.. عودي إلى النوم”.‏

افتتحت الأحداث بحوار بين الأم وابنتها واختتمت بحوار بين الطفلة وأبيها.. واكتملت بذلك الصورة التي أرادها الروائي، ونقول أرادها لأنه صنع فيها ما يحب! ونسأل هل كان خيالياً في جعل واقع الحياة المر لوحة شعرية شفافة؟ نجيب بلا لأنه اختار صورة من الواقع لكنه حذف منها القبح وأبقى على الجمال.. اختزل حياة القاع وتناول الذؤابات اللطيفة، الناعمة، فيما نحتاجه أحياناً في حياة مثقلة بالهموم والأوجاع والسواد.. ولعل في اختياراته للأطفال في أكثر رواياته تعميقاً للفلسفة التي يريد أن يشيعها والرسالة التي يحب أن يؤديها، فما زال لدى الأطفال قدرة على رؤية العالم في جوهره، وعكس صوره المضيئة النقية، رغم أن المنطق الناضج يخونه أحياناً ويغلب منطق شخصياته الصغيرة، فنحن نسعد في ارتقائنا لتلمس واكتشاف العالم مع الصغيرة التي توقظ فينا البراءة الغافية، لكننا نتوقف قليلاً حين يدور حوار من هذا المستوى بين الأم وابنتها:‏

“-أنا أعشق هذه الحديقة..‏

-وأنا كذلك.. لماذا تحبينها؟.‏

-لأنها في قلب نيويورك.‏

تسأل الطفلة: إذا كنت تحبين نيويورك فلماذا لا تقيمين فيها؟‏

-أنا أمقتها..‏

-آه يا ماما.. لا أريدك أن تتحدثي بهذا الأسلوب: تحبين وتبغضين معاً..‏

-لكنها الحقيقة يا جرادتي.. ولا تفسير لذلك! أتمنى لو كان العالم أفضل مما هو عليه..‏

-أفضل؟ كيف هو؟‏

-إنه غامض. مشوش، بائس!”‏

الطفلة هنا ترفض خلط المشاعر لأنها تميز بوضوح الحب والكره وتطلب من أمها الكف عن هذا الخلط..!‏

وفي مكان آخر يدور هذا الحوار:‏

“-إنني أشعر بالاشمئزاز من حياتي يا ضفدعتي وأظن أنني لست موهوبة بالتمثيل على المسرح كما تعلمين.‏

-كلا يا ماما.. أنت ممثلة كبيرة!‏

-قد أكون كذلك في نظرك!‏

-ولكنني متشددة في أحكامي، فلو لم تكوني ممثلة عظيمة ما استطعت أن تخدعيني ولكنت اكتشفت خداعك!”.‏

 

ونعثر في انسياب نهر الرواية، على جزر كثيرة كهذه تنم عن سوية رفيعة في التفكير وخلاصة من التجربة يستحيل على الطفل امتلاكها بسبب عمره لا أكثر.‏

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 95 مشاهدة
نشرت فى 22 إبريل 2016 بواسطة dsdsdsfffssff