موقع مزيف احذر الدخول فيه

موقع مزيف احذر الدخول

  

حين فعّل كتاب القصة القصيرة طاقتها في الجذب القرائي، وهي تستوعب التيارات والانقلابات والتحولات، أدرك هؤلاء الكتاب، أن التداخل الاجناسي بصيغه الغنائية (موقف الذات إزاء العالم) والملحمية (الموقف الجمعي إزاء العالم) والدرامية (الموقف التجادلي) أصبح ضرورة إبداعية (كتابة وقراءة) تعمل على مغايرة الاشتراطات الفنية في أي جنس أو نوع من الأجناس أو الأنواع القابلة للتحول ضمن الاحتمالات المفتوحة على هذا التحول. فحدث أن تداخل الشعر بالقص، والقص بالدراما، وكلاهما بالتشكيل، وغيرها من التداخلات.
ولأن مقاربتي ستكون بعيدة عن تتبع مثل هذا التداخل المتشابك والمعقد، وقريبة من التداخل بين القصة القصيرة والمسرحية تحديدا، فقد استأثرت هذه المقاربة أن تكون مجموعة (ما أتلفته الرفوف) للقاص والمسرحي بيات مرعي أنموذجا إجرائيا.
لم يعمد القاص بيات مرعي إلى مغايرة الميثاق التجنيسي المتعارف عليه (قصص قصيرة) ليضع موجها قرائيا بصيغة ( قصص ممسرحة ) فحسب، وإنما حشد كل الموازيات النصية الأخر في اتجاه هذه المغايرة. فوضع عنوانا فرعيا للعنوان التجنيسي الرئيس بصيغة توضيحية، لتؤكد قصديته في هذا الاتجاه، وجاء على الشكل التالي: (تحاول أن تقدم كيانها عروضا قصصية). ولكي تستمر هذه القصدية فاعلة، حاول اللعب بالتسميات الفرعية مرة أخرى، فجاء الإهداء بالصيغة ذاتها ( التذكرة الأولى , في العرض الكبير, لأنفاسك توأم الروح) ليحيلنا إلى المسرح، وكل ما يتعلق بأجواء العرض .وجاء المدخل بشكل مغاير تماما ليثبت لنا القاص إصراره على أن هذه النصوص القصصية هي مجموعة عروض، فكتب في ( استهلال يسبق العرض) كلاما واصفا القصص بـ(( أنها عروض... لرفوف أكثر تقوسا، لكنها ليست حدباء , فما زالت تحث خطاها كقطار من ريح في ظلمة الزمان والكتابة... تتستر على تشققات جدار بارد.. وراءها وهو يتلوى من طعنات تلك المسامير .
عروض ... رفوف..رفوف أنها تأبى أن تنكسر...)).
ولان القصة الممسرحة تنهض على شخصية محورية ( غالبا ما يكون راويا ممسرحا) أو شخصيتين، فهي تقدم اشتغالها السردي (عرضا) أو (خطابا معروضا) ويبدو أن القاص أخذ تسمية (العرض) بدلا من (القصة) تبعا لذلك. وعلى هذا الأساس جاءت الموجهات القرائية الفرعية وهي تسبق عنوانات القصص بشكل متسلسل من (العرض الأول) إلى (العرض السادس عشر) وقد تطابقت هذه العروض مع عدد القصص المنشورة في المجموعة، إذ أن كل قصة تمثل عرضا خاصا بها.
أما الإشارات التي وردت في نهاية الكتاب فقد عنونها بـ(مكملات عرض) وقد اشتملت على تعريفات لأعلام أسطورية، أو مفردات شعبية موصلية، أو أمكنة موصلية، ولم يتوخى القاص من هذه التعريفات توضيح ما هو ملتبس على المتلقي فحسب، وإنما أراد التأكيد على أن الكتابة النصية التي سبقت هذه المكملات، ما زالت تراوغ، وتتداخل بقوة مع نوع كتابي مغاير هو المسرحية. وبعد تقديمه العروض التي ذكرناها آنفا يقدم لنا القاص (مشهدين) منفصلين عن كتاباته، ومتصلين في آن واحد، (المشهد الأول) رسالة من القاص محمد خضير تدور حول رأيه بقصص كان قد بعث بها القاص إليه عام 1999، مؤكدا على المغايرة والإفلات من مغريات تقانية حددها في القصص الجديدة التي يكتبها الشباب، إذ ((تعاني نقصا فضيعا في التركيب والبناء، وفقرا في معالجة الفكرة، وميلا إلى الترميز والتجريد، يكتنف كل ذلك استعمال هش للغة وهيام شديد بزخارفها الشاعرية)) حسب ما جاء في الرسالة. أما(المشهد الثاني) فهو رأي للقاص أنور عبد العزيز يتضمن تأكيده على مغادرة المألوف، والتنقيب بـ((أناة واعية عن فنتازيات الأجواء المحلية الغرائبية)) فالقصص التي يكتبها بيات مرعي في رأي القاص أنور ((تظل مكتوبة ليست لأي قارئ، فقط القارئ الواعي حياتيا، وثقافيا، والمستوعب لجذوة كلماته، وعباراته، وتلاوين حواراته غير المتكلفة ، والمعبرة ـ رغم فنازياتها ـ عن توهج حركة الشخوص ظاهرا، وفي العمق الروحي المبرر لأسباب اختيارهم واكتشافاتهم( كثيمات ) تستحق التناول من قاص متمكن من فنه)).
بعد هذا الاستطراد في الموازيات النصية ( العنوان التجنيسي، العنوانات الفرعية، الإهداء، الاستهلال، العروض، مكملات العرض، الرسالة، الرأي الانطباعي) تنهض أمامنا أسئلة عديدة ونحن نحاول الولوج إلى مغاليقها، من هذه الأسئلة، ما الذي حققه القاص بيات مرعي في هذه التسميات المغايرة ؟ وماذا يتغير في الفعل القرائي فيما لو أرجعنا العنوان التجنيسي إلى (قصص قصيرة) ؟ أو رفعنا الموجهات القرائية الفرعية (العرض الأول، العرض الثاني ....وهكذا حتى آخر عرض) عن المتون ووضعنا بدلا منها ( القصة الأولى، القصة الثانية... وهكذا حتى آخر قصة) ؟ هل ستتغير المجموعة القصصية من حيث نوعها أو الجنس الذي تنتمي إليه ؟ أم تبقى محافظة على اشتراطاتها الفنية على الرغم من المغايرة التي حدثت بوساطة التداخل الاجناسي؟
لا نستطيع الجواب بنعم أو لا دون مقاربة الإشترطات الفنية لبنيتي القص والمسرح التي عمل القاص على تواجدهما في قصص المجموعة. فإذا كانت الثوابت النوعية في القصة القصيرة تركز على الشخصية والحدث والزمان والمكان، فان ما يقابل هذه الثوابت في المسرحية سوف تتركز في الحوار والشخصية والمشهد، وتعد أهم الاشتراطات الفنية في العمل المسرحي. وعند اختبار آليات القصص الممسرحة في مجموعة (ما أتلفته الرفوف) فإننا سنقف بالتأكيد عند مجموعة من العناصر والتقانات التي تشترك في الكتابة القصصية/المسرحية، والتي تساعدنا في إنتاج الدلالة ومنها العنوان والاستهلال السردي، والشخوص، والحوار، والفضاء الزمكاني.
وقبل مقاربة العناصر والتقانات المشتركة نؤكد على معلومة قارة في الخطاب النقدي الحديث وهي:أن القصة القصيرة قد وظفت تقانتي التكثيف المستعارة من الشعر، والحوار المستعارة من المسرح في بنيتها المغايرة أو التقليدية. ويرى احد كتابها المعروفين (يوسف إدريس) أن العلاقة بين القصة القصيرة والمسرح تتمثل في الشعر، فالقصة تحتاج إلى عقلانية أكثر من المسرح؛ لذلك يمكن أن ترى كاتب قصة قصيرة ولكنه دون التأليف المسرحي، ولكن من المؤكد أن ترى كاتبا مسرحيا يكتب قصة قصيرة، وهذا يرجع إلى لغة الشعر التي تتجلى في المسرح، ومن هنا فالمسرح يؤثر في القصة؛ لأنه ينمي الحاسة الدرامية (1 ) . وهذا يعني أن إمكانية مسرحة القص، تمنح القصص أفقا قرائيا مغايرا منذ اللحظة الأولى في الكتابة، وذلك لهيمنة (المعالجة المسرحية) على ذهنية المؤلف وهو يشترط الحوار عنصرا فاعلا في حركية النص/ القص، والوصول إلى المغايرة التي تعتمد على العناصر السردية في أصولها. وهذا ما أكده القاص في هذه المجموعة.
العنوان
لا نريد تتبعا تاريخيا لمجمل ما كتب عن العنوان( تعريفا، وظائف، مكونات)، لسببين :
الأول: سيتوسع البحث كثيرا، إذ أن العناوين لوحدها تحتاج إلى مقاربة خاصة.
ثانيا: لأن ما نبتغيه هو اختيارنا له بوصفه أداة إجرائية في رصد المتغيرات النصية في مجموعة(ما أتلفته الرفوف)، بوصفها ((ممارسة إبداعية لا تحقق صفتها إلا بالتمرد على الالزامات والاكراهات وانتهاك حرمة كل الأعراف وكسر أية قواعد)) (2 ) وتكلمنا منذ البداية عن العنوان التجنيسي المغاير(قصص ممسرحة) وكيفية إصرار القاص على إثبات قصديته من هذه التسمية بوساطة موازيات نصية أخر أسهمت في تأكيد مسعاه.
أما العناوين الفرعية التي أطلق عليها (العروض) فهي تتكون من ستة عشر عنوانا، وجاءت متسلسلة كما يلي (مهبط الأراجيح، مدافن النهر، ما أتلفته الرفوف، جنازات الظل، جمرات ، خيوط، تلّة الحلم، محنة الجسر، الحي الحديدي، خيول جامحة، مدينة أخرى، قرين الوقت، رقصة الأزاميل، عويل محارب ترجل، زرزور شرقي، همس المعاطف) وقد عنون القاص المجموعة بأحد العناوين الفرعية، مما يعطي دلالة على قوة التنافذ بين العناوين الفرعية والعنوان الرئيس.
إن الحذف يوحي بما يعززه هذا التركيب من تشويق يبثه في نفس المتلقي، وهو حذف من شأنه أن ينبئ عن حدث غائب أو بنية غائبة يكشفها الحاضر، فإذا ما حاولنا أن نستحضر البنية الغائبة، وأكملنا النقص بقوة الفكر والخيال، كانت البنية في العرض الأول ( مهبط الأراجيح) هكذا (هنا مهبط الأراجيح) أو ( جميلة مهبط الأراجيح) أو ( تعالوا إلى مهبط الأراجيح) وغيرها من الاحتمالات المفتوحة، وهكذا بقية (العروض) ولا نريد التفصيل فيها . وعلى هذا الأساس يكون المتلقي بنية فاعلة، تعمل في موقف المفكر المكمل لبنية النص، إذ أن الكاتب المتفرد ، الذي يسعى إلى تأشيرة الدخول في عالم الإبداع، لا يرضى لمتلقيه أن يتلقى النص بخمول وسلبية، وإنما يبتغي من المتلقي أن يكون في أفضل حالات الامتلاك للوعي، وان يكون قادرا على البناء، وتوسيع أفق فضاء النص مما يثري النص وهذه مسألة من شأنها أن تجعل المتلقي يستحضر ثقافته إلى فضاء النص الواسع الرحب، فالقاص يريد من المتلقي أن يصنع عالما بنفسه، لا أن يصنع له الآخرون هذا العالم .
الاستهلال السردي
وقد تجلى اهتمام القاص بيات مرعي بتفاصيل الخطاب الاستهلالي في نوعين هما:
1- جملة قصيرة : وتعد ومضة سردية للدخول إلى عالم الخطاب القصصي واستشرافه، وقد تجلت في قصتين من قصصه هما: (جنازات الظل) وجاءت الجملة الاستهلالية فيها كما يلي (شيء من النوم ...شيء من الحلم في ذلك الجسد الأسير في سرير الليلة الماضية) و(زرزور شرقي) وجاءت الجملة الاستهلالية فيها كما يلي(تهاجر الزازير دوما لتغسل أجنحتها في الظلام).
2- جملة طويلة : ولكي لا تفقد قيمتها المعنوية نظرا لطولها فإنها تحمل مفاجأة غير متوقعة للمتلقي تتمثل في الانزياح الأسلوبي، وقد جاءت في القصص الأخرى.
إن ما يهمنا تبعا للميثاق التجنيسي الذي وضعه (قصص ممسرحة) هو الخطاب الاستهلالي الذي يحيل إلى العرض المسرحي، وقد تجلت هذه الإحالة في غالبية القصص، ففي قصة (خيوط) على سبيل المثال لا الحصر، يستهل بيات قصته بوصف لمكان العرض المسرحي (( لم تعد الخرابة العتيقة وحجراتها إلا قصرا مذهلا لمجموعة كبيرة من الشحاذين المتسولين في كل مكان، على الرغم من زحمة مفردات القمامة التي امتلأت بها زوايا المكان المتهرئ كلها، صناديق، وعلب، وأكياس، وأشياء أخرى مختلفة، إنها محطة للمخلفات)) وحين نتأمل هذا المكان ونتقصى تعالقاته مع المتن أولا، ومع العنوان بعد قراءة النص ثانية، فليس كل العناوين باستطاعتها أن تحيل إلى المتن، نجد أن القاص قد وظف خبرته المسرحية في هذه القصة توظيفا دقيقا في عناصرها وتقاناتها، ولا عجب إذا عرفنا أن القاص بيات مرعي لا يعد من المتأثرين بالمسرح فحسب، وإنما مخرجا ومؤلفا مسرحيا تخرج في معهد وأكاديمية الفنون الجميلة، ودرّس مادة الإخراج المسرحي في معهد الفنون الجميلة ـ نينوى 1994-1998, كما درّس مادة التربية الفنية في كلية التربية المفتوحة/ نينوى , وقدمت العديد من المؤسسات الفنية الكثير من أعماله المسرحية والاستعراضية، بهذه الطاقة بوساطة التداخل والارتقاء.
أن قاصا لديه مثل هذه الطاقة المسرحية الفاعلة في المشهد المسرحي لا بد أن تتأثر خطاباته القصصية بالخطاب المسرحي، كتابة وتمثيلا.
ويوظف القاص أحيانا المصطلحات المسرحية في خطابه الاستهلالي ليشابه به العرض المسرحي،كما في قصة (تلة الحلم) إذ يقول: (أسدل الستار على نهار مشاكس منتفخ اضطرابا )). كما يستخدم الإضاءة كما في قصة (محنة الجسر) فيقول: ( حين امتلأت الزوايا بالليل وتجمع الأشباح دون ثرثرة ، كانت صفارة إنذار تمر على الحرس النائمين بين طيات البرد تدوي فتوقظ الليل مفزوعا )) وحيت نتأمل المكان جيدا نرى أن زوايا المسرح مظلمة بينما وسطه مضاء، وان زمن المسرحية التي سيتم عرضها هو الليل، ودليلنا على هذا الكلام الجملة التي تتبع هذا الاستهلال (عوت الكلاب مثل ثعالب جائعة). ونكتفي بهذه الإحالات بوصفها أنموذجا لقصص أخر لا يتسع البحث للتفصيل فيها كما قلنا سابقا.
الشخوص
أما الشخصية الممسرحة فهي تختلف بالتأكيد عن الشخصية القصصية النمطية، وذلك لأنها تعلم كليا بكل تفاصيل مكان وزمان الحدث، لذا نجد ((إصرار الكاتب في مثل هذا الاشتغال يدفعه إلى أن يبني القصة على شخصية واحدة، ويجعلها قريبة من فن الميلودراما المسرحي حيث يقف الممثل وحده في مواجهة الجمهور)). ( 3)
وعند تتبعنا لشخصوص القصص الممسرحة في مجموعة (ما تتلفه الرفوف) وجدناها (كلية العلم) في جميع القصص، وقد أتت بصيغة ضمير الغائب (هو) ما عدا قصتي (عويل محارب ترجل ) وقد جاءت بصيغة الـ(أنا) المخاطب أو المتكلم (( العويل اسم بديل ولأني لا املك البحر.. ولم أره إلا في مرآة زارها الندى كحلم قصير يغرق الصور والرغبات.. يرعبني ذلك العويل القادم .....))، و (همس المعاطف) وجاءت بصيغة الـ(نحن) المخاطبين أو المتكلمين ((كل كسرة الخبز هذه الآن ولا تخف ، إنما أزرارنا ميتة، وجيوبنا عميقة، وبطانتنا دافئة، وأوراقنا قد أكلها العث والجراد ..)). والشخوص التي وردت في المجموعة على نوعين: مختلفون: بحسب الموقف الذي تناوله القاص وحسب طبيعة الفكرة. ومنكرون: وتنكيرهم يشير إلى الكل الإنساني, وهم مرايا تعكس ما يعانيه الإنسان من ظلم وطغيان وقسوة. وقد نصب بعض النقاد على تقنية السارد المهيمن، بسبب حكرها في سرد الأحداث، ((مجموعة من التحفظات، أولها أن الحكاية تروى من وجهة نظر واحدة رغم اختلاف الرؤى للرواية الواحدة، وثانيها أنها تقيد عملية إبداع الحكي في شخص واحد مما يمنع مستويات السرد بالرغم من أن القصة القصيرة لا تحتمل كثيرا من تعدد المستويات السردية، بالنظر إلى إيجازها وتكثيفها، أما التحفظ الثالث فيكمن في أن السارد المهيمن يمكن أن يغفل تفصيلات قد تكون مهمة لرؤية الحدث من مختلف جوانبه أو من وجهة نظر مغايرة)) (4 ) وعلى الرغم من هذه التحفظات فان الشخصية الممسرحة لابد أن تهيمن في السرد، وقد وظفها القاص لصالح فنية القصة الممسرحة، فضلا عن تداخلها مع تقانتي المونولوج الداخلي والاسترجاع، مما عز وجودها وجعلها تهيمن بأفكارها وممارساتها.
لقد سعى القاص في تصوير الشخصية المحورية من الداخل إلى توظيف تيار الوعي وإطلاق العنان أمام أفكارها ومشاعرها، وهمومها التي تتدفق من الأعماق، ممتزجة بالحوار تارة وبالإحداث تارة أخرى وذلك لكشف الصراع داخل هذه الشخصية والهواجس التي تنتابها. وقد تجلت الشخصية المحورية في غالبية القصص، وهي تمارس الصراع بين الواقع والحلم، صراع ابدي وعلاقة جدلية غالبا ما تنتهي دائما بانتصار الواقع لأنه هو الأقوى، وهذا ما يدفع الشخوص في نهاية كل قصة إلى أن تعيش الأكذوبة وتصدقها، كما في قصة ما (أتلفته الرفوف) أو تذهب ضحية لهذا التصديق، كما قي قصة (مدافن النهر).
وعلى الرغم من أن القاص بيات ينطلق في تجاربه القصصية من الواقع المعيش، فتكون شخوصه واقعية، إلا انه يأبى أن تكون مفردات القصة واقعية تماما، ولا يهمه أن تكون موضوعاتها قد حدثت في الواقع، وإنما المهم عنده الشخوص التي تدفع المتلقي إلى التفكير والتأمل، كما في قصة ( الحي الحديدي) التي أهداها إلى الفنان صبحي صبري ((في عينيه عتب الوسادة ، وأشياء مزدحمة من السهر، يرتسم على جبينه عنوان ما، نحو أمل غامض يبحث عن سبيكة آشورية ، وبكل جرأة وثبات ترى الخواتم البابلية في كفيه المتعبتين ذلك الآتي من معبد العناد، من طريق خلا من ضوضاء المدارس، على فرشة الصمت يلقيها لمجلس حكومة العقل متى يظفر بالحقيقة)).
إن الخيوط التي ينسج منها بيات قصصه تنتهي إلى رسم يوتيبيا سرية لمدينته، فتبدأ بنيانها من أجواء الهامشيين، والتعاطف مع النماذج الإنسانية البسيطة، التي تعاني قسوة الحياة وضغطها المتواصل، وهو يختار مواقفه تبعا لفهمه الخاص لوظيفة القصة في حياتنا المعاصرة، وتوافقها مع اشتغالاته الفنية. ويتأسس هذا الاختيار ويتطور في مستويين : قريب ويكون في متناول القارئ العادي، وبعيد يحفز المتلقي النموذجي في فك شفراته وفهم دلالاته الموضوعية والفنية.
الحوار
ولا يخفى على احد ما للحوار من أهمية تعبيرية في القصة أو المسرحية، سواء أكان الحوار خارجيا ( ديالوجا) أو داخليا ( مونولوجا) فهو يعمل على :
أولا: السير بالعقدة، أي تقدمها أو تدرُّجها أو تسلسلها.
ثانيا: الكشف عن الشخصيات.
ثالثا: ينبغي أن تُوافق أجزاء الحوار المشهد التمثيلي أو السياق القصصي أو الروائي أو المسرحي الذي تُقَدَّم فيه(5 ) فـ((مواقف المجد والعظمة تتطلّب جملاً قوية قصيرة، ومواقف الغرام تقتضي جملاً غنائيّة متدفّقة سلسة، فيها الفيض العاطفي والإحساس بالحب والجمال. والمواقف الفلسفية تستلزم جملاً رزينة متزنة، ذات صبغة منطقية ... بحيث يتعدّى مضمون الجمل إلى مضمون الكلمات والمقاطع أيضا))(6 )
وتنطبق هذه الوظائف الثلاث على الحوارات التي وردت في القصص الممسرحة. فحوار الحاج محمود في قصة (مهبط الاراجيح) مع نفسه : كل شيء قسمة . ثم تموت جملته في مقبرة الصمت، وتلجم لسانه ليترك سؤالا مخنوقا: أين الزائرون القدامى للباب....؟ يسير بالحدث وينميه نحو الذروة، ويكشف عن شخصيته ، فضلا عن توافقها مع السياق الذي وردت فيه، وهكذا بقية الحوارات المكثفة التي أفصحت وأشّرت إلى الواقع الذي تعيش فيه. ويقينا أن القاص بيات أدرك أن الحوارات لا يتحكم بها القاص بقدر ما تتحكم بها الشخوص . وما يهمنا في القصص الممسرحة نقطة في غاية الاهمية وهي ان بعض الحوارات وردت وكان الكومبارس يرددها كما في قصة(خيوط) حين يردد المجنون : ((هل نبني الملكة؟ نعم نبنيها)) أو الحوار الذي يردده العجايا وهم يهتفون خلف المجنون: ((سعيد المجنون - سعيد المجنون.
( صاح عاليا) - أيها الساقطون
سابني المملكة، نعم نبنيها من رحم هذا المكان)) ولا تحتاج هذه المسألة إلى توضيح أكثر، فالحوارات التي وردت اغلبها من هذا النمط المكثف .
الفضاء الزمكاني
وعنى به القاص اعتناء خاصا ، وتجلى ذلك في المشهد القصصي / المسرحي، الذي يتم
تحديد تشكيله بالمكان. ولأن المشهد في القص يتسم بـ(التأملية/ الوصف) وفي المسرح بـ(الحيوية/ السرد) ( 7) فان المنفعة المتبادلة بينهما ستعمل على دفع المغايرة باتجاه (عملية المسرحة) ( 8) أو (العنصر المسرحي) ( 9) . ويعتمد في القصة الممسرحة، على تنضيد وحدات المكان سواء أكانت ثابتة كما في المسرح ( مغلقة ،محددة ) أو كانت متحركة كما في القص ( مفتوحة, مطلقة ) وغالبا ما تتم حركية المكان بين هاتين البنيتين بوساطة شخصيتين تعملان على منح القصة ميزة التمسرح .
في العرض الأول ((مهبط الأراجيح)) على سبيل المثال لا الحصر، لعبت وحدة الفضاء تطورا جماليا ودلاليا بواسطة التمظهر، والتعالق الزمكاني. إذ من الصعوبة الفصل بين الزمان والمكان في هذه القصة التي شكل (( باب جديد)) مكان الألفة فيها، بوصفه مركزا للتكثيف الخيالي. فهو بالنسبة للراوي العليم ـ هنا تحديدا ـ مثل البيت القديم الذي يعيش لحظاته بوساطة الإدراج والصناديق والخزائن التي يسميها باشلار ((بيت الأشياء)) وقد عاش الراوي العليم حارة باب جديد بكل تفاصيلها ((حكايات شفافة موزعة على اكف أطفاله)) و ((ألسنة عجائزه المتكئات في أزقته الضيقة على مشهد المارة من ضيوف الأبواب المجاورة)) و ((أزقة الباب المتنافسة في ضيقها وارتفاعاتها أو انكساراتها)) و((نوافذ زقاق تلة البدن المرتفعة)) و ((الرجال، والنساء، وسوق بيع اللحوم، وعربات الخضروات، ومركز شرطة البلدة، ودكاكين (اللبانة) والفاكهة، والكرزات، ومقهى الصنف، وعربة تحسين أبو العدس، ومعول، و(كواريك الفعلة) والحاج توفيق الكبابجي، ودلشاد الخباز، و حمدية أم اللبن، ويونس الجايجي، وشيخ المسجد، وجامع العمرية, ببح العربنجي ...الخ)) وتفاصيل أخر تراءت أمامه وهو يتسائل:
((أين الزائرون القدامى للباب ؟)) سؤال مخنوق خلفه السارد على لسان الحاج محمود، بعد أن تعالقت الكثير من الصور في ذاكرته، و((تزاحمت الأواصر والخواطر في احد جيوب ذاكرة الحاج، ولم يعد من يداري تنهدات تحسره لتلك الأيام التائهة في أنفاق الزمن)) .
هذا السؤال شكل التوازي الدلالي لأفول كل ما يتعلق بحارة باب جديد، مع موت الحاج محمود . في هذا (المكان /المقهى) غادر ( الزمن / العمر) المتمثل في شخصيته. وعلى الرغم من أن عشرات المارة يتلون التحية عليه وهو متكئ في إحدى زوايا مقهى الباب، إلا انه لا يجيب ويبقى منتظرا من ينتبه إليه ميتاً. وقد وضع القاص شخصية ( الحاج محمود) وانهيارها أمام التقادم الزمني، معادلا موضوعيا، أمام حارة باب جديد، وما لحق بها من متغيرات حياتية أدت إلى انزواء أصوات معروفة في الباب (( انزوى صوت سيد (احمد بن الكفر) وسيد (إسماعيل الفحام) و( محمد حسين مرعي) بلبل الحدباء)).
وقد تجلى بوضوح التداخل الاجناسي الذي أخذ يؤشر باتجاه حقيقة اعتمدها السرد في هذه القصة، ألا وهي أن السارد العليم هنا كان ممسرحا، وقد تم عرضه في القصة كما لو كان على خشبة المسرح، ويمكننا ملاحظة تمظهر الكثير من التفاصيل التي شاطرها القاص مع الشخصية بكل سماتها ومبادئها الإنسانية.
إن فاعلية الفضاء الزمكاني في النص تتماثل مع فاعلية السارد واللغة وغيرها من آليات النص وتقاناته، وهو يقدم مفاتيح قرائية يصطحبها المتلقي لدخول عالم النص. فالفضاء الزمكاني من شأنه أن يؤدي أكثر من دور في حدود النص، فهو يمنح المتلقي بصورة تلقائية قدرا من مصداقية الحدث، وهي أقدم صورة من صور ارتقاء الحدث بالفضاء، واقترانه به وما زال السرد يستثير هذه العلاقة حتى الآن ولا بديل عنها لتوكيد مصداقية الحدث، كما يمنح هذا الفضاء المتلقي الوعي بعالم النص وما يدور فيه من أحداث وما يتحرك فيه من شخوص مما يجعل المتلقي في جدل دائم مع النص، فضلا عن طبع الشخوص بسماته وتوظيفه للكشف عنها فهو قوة تعبيرية تضاف إلى غيرها من القوى الفنية والتعبيرية للمكان .
في نهاية هذه المقاربة يجب التنويه إلى أن التوظيف الأسطوري والشعرية والمحلية وتقانات أخر قد تركناها لمقاربة قادمة إن شاء الله .
هوامش :
( ) حوار مع هؤلاء، عبدالرحمن أبو عوف، الهيئة المصرية لقصور الثقافة، 1999: 223.
(2) العنوان وسيموطيقيا العنوان الأدبي، محمد فكري الجزار: 64.
(3) تجليات الحداثة في القصة القصيرة، محمد قرانيا، مجلة الموقف الادبي ، اتحاد الكتاب العرب - دمشق، العدد 428، سنة 2006.
(4) تقنيات السرد في القصة الاماراتية القصيرة، د. ابراهيم علّان، مجلة الكاتب العربي، السنة الثانية والعشرون ، العدد 67-68، شتاء- ربيع 2005: 223.
(5) فن الكاتب المسرحي، روجر م. بسفيلد، ترجمة: دريني خشبة، القاهرة 1964م، :218.
(6) فن كتابة المسرحية، لاجوس إجري، ترجمة: دريني خشبة، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة د.ت. ، : 420.
(7) في نظرية الرواية، بحث في تقنيات السرد، عبد الملك مرتاض، سلسلة عالم المعرفة ـ الكويت 1989: 293.
(8) صنعة الرواية ، بيرسي لوبوك، ترجمة عبد الستار جواد، دار الرشيد ـ بغداد، 1981: 108.
(9) الصوت المنفرد،مقالات في القصة القصيرة، فرانك اوكونور، ترجمة محمد الربيعي، مراجعة محمد فتحي، دار الكاتب العربي: 1969:20.

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 129 مشاهدة
نشرت فى 17 إبريل 2016 بواسطة dsdsdsfffssff