ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إلى رعد فاضل الشاعر طبعاً
يتحرّك الباب، لا يئزّ ولا يئنّ ولا يصطدم بجدار، لكنّه دائماً يكمل نصف قوسه، ويقف فيخيّل إليه أنّه داخل.. هكذا يظنّ وهو يخطو.. أداخل هو أم خارج ؟. لا فرق.. في أحيان معينة يتفقّد موقعه من الباب نصف الموارب لكنّ الوقت يكون قد فات. تذكّره الرائحة بغرفة بعيدة تتقشّر جدرانها وسقفها ينزّ، يسحب نفساً عميقاً من هواء الطفولة الرّطب الثقيل ويطلّ أيضاً على تلك الشريحة من السماء المحصورة بين طرفي شقّ في سقف.. تلك هي الّسماء رفيعة ومتعرّجة وعشوائية الشّكل.. لسنوات خلت حفرها المطر أخدوداً في منتصف السطح ولما حلّ الصيف عبر أبواه إلى النصف الذي يمسك به بيت الجيران بينما رقد هو على النصف المتشبّث بحائط مترنّح قليلاً، وذي بطون مندفعة إلى أمام تستعرض حملها الكاذب أمام الفناء.
لكنّه وحيد أيضاً.
يصومون ليدفعوا إليه بألعاب مختلفة وكنوز وتفاهات يكسّرها تباعاً ويطلب سواها.. من بين ردفي تلك السماء النحيلة كانت لعبه المختلفة، وحاجياته وكنوزه الحيّة تقفز إلى قاع الغرفة فيرنّ صوت اصطدام جثثها بالأرض، فيهرع إليها ويعيد إليها الحياة، ومرّة أخرى يأخذها لتنتحر، بينما هو يواصل كراهيته المطلقة لغرفة مشطورة بين السماء والأرض يخشى أن تسقط عليه فيلوذ بعيداً.. أداخل هو أم خارج ؟.
كانت هناك حافـّات حادّة لليل، ومتعرّجة، كذلك يحيط بها زغب من ضوء أصفر واهن يخفت ويشتدّ مع حركة رأسه تطلّ منها النجوم وتخرّ عبرها الشّهب وتمرّ بها مع القمر والشمس كأنّها موئل المجرّات تضاء، ولكن مثل عصا مسحورة لاصقة أمام عينيه وفجأة يختلط في أذنيه التّأوه والسّعال واللهاث والقفز ونحنحة السرير، وقفزة أخيرة لجسد ما قبل الصمت البليل ثم يأتي السكون المعتم بالنوم ويعلق بجفنيه.. وعندما يصبح الوقت صيفاً يمدّد جسده على السطح في موقع الأخدود ويضع صرّته في خطّ مرور السماء ثم يدفع بكلّ طرف من أطرافه إلى جهتي الكون بينما يحشر أنفه في فتحة المجرّة ويغمض عينيه مستسلماً للبرد في قبضة الفضاء، يصغي كذلك إلى ديك متشرّد يتسوّل في ذروة جهله للأوقات، يحس أنّ صياحه الدائم يتسبب بقلق، فيركض وراءه ليلقمه قطعاً من أوراق مدعوكة كتبت عليها الأوقات التي يأمر الديك بالصياح فيها يومياً حتى انحشى الديك تماماً بجداول وتعليمات يجهلها، وأقعى أخيراً على حافّة ساقية المياه العكرة التي تشطر المحلة إلى جانبين غير متكافئين يخيفه فيهما تكدّس أصدقائه الأطفال على إحدهما فيهرع وحيداً إلى الجهة الأخرى ليوازن ويمنع ميلان البيوت على البيوت.. كلما عبر الساقية وجد نفسه وحيداً وكذلك وُجِد في كلّ عبور.. كان يأمر كلّ شيء، والديه وأصدقاءه ولعبه وحيوانات الجيران الأليفة، يأمر ويقود ويُطاع إلى لبّ دلاله ليجلس على ضفة خطّ الشمس الأعرج في غرفته المشطورة إلى نور وظلّ، ويستمع إلى نصائح تبعد رجولته وطفولته معاً، ينمو ولا يكبر ويمر بفوران البلوغ دون أن يفطن كثيراً إليه وإلى الحفريات التي تشبّ على بشرته وشكله.. لكنه توقّف أخيراً زاحمته تلك الفتاة الأولى التي لا تمحى في حضن باب ثم زاحمته مرة أخرى في أبواب أخرى انفتحت وانغلقت وعادت الأكثر ظلاماً منها إلى وراء بينما بقي يسترق النّظر والسّمع إلى دويّ رحيلها الحادّ نحو قريتها، قطعت ثلاثين كيلو متراً لتبتعد وتنساه متشعبة برائحة المياه المعدنية اللصيقة بحواسّها، مياه مشفى الأمراض الجلدية والأوهام والاعتقادات الأميّة والعادات والخرافات المتمكنة ووصفات الحلاقين القدامى والأطباء الشعبين الجوّالين وباعة التوابل ومرتادي التكيات حيث تَبقّ المياه من الرّمال المغلية أمام عيون الغاطسين بأورامهم وعاهاتهم وبثورهم تحت الشمس، الذين ينتظرون زوال العلل والآلام بنفاد صبر وتوجع، وأمامهم أطفال ونساء يسحبون علكاً أسود ينبع من عيون الكبريت مختلطاً بالرّمل، يسحبون ويقطعون ويعلكون مستمتعين بطقطقة حبات الرّمل بين أسنانهم.. هناك توارت عنه بعد أن تخلّت عن شهادة المعهد واكتفت بزوج يغيب عن البيت باستمرار واضعاً كرشه وراء مقود حافلة على الطريقة الخارجية.. آه أيتها الحافات المتلوية.. سوف يتعالون عليه واحداً وراء الآخر في غلوائهم لأنه أقدم على الغلق الوحيد لباب وراءه ثم عاد إلى الحافلات..... يا لتلك الأضواء التي ترشّ الشوارع وتطلي الإسفلت وتجرح الليالي، عاد وآوى أعداءه المقرّبين تباعاً، وتأمّلهم وهم يتحوّلون إلى كتّاب عرائض ومراسلين ومسلكيين في تلك الدّوامة الرهيبة التي تبتلع التقارير والأخبار والإفادات الشخصية والفتن والوشايات وتطاردهم بلعنتها الشريطية والموجعة فيتسممون ببخار عارهم بين الأمراض المستعصية والنّوبات والورطات الثقيلة والإقالات المتلاحقة.. تخبو أنوارهم ونجومهم وتبعث بلا أمل بينما هو يتطهّر بهدوء.. يصعدون وينزلون على سلالم مدهونة بشحم إليات الخِراف، يأمرون ويأتمرون.. أولئك ظنّوا أنّهم أصدقاؤه وأعداؤه معاً بصبره وصمته وهو يركض إلى الخفارات والمعارك والهجومات والوظائف وسهر الكتابة الشخصية.. مزاج لا يروق إلاّ هكذا.. أصدقاء وأعداء ينزعهم.. ومثل الثياب يتمسّكون بالحاملات
في حيّز دولابه العتيق.. ذلك هو مأوى الشّنق.. فيا لجمال الأربطة.
تنقّل من حرب إلى أخرى، بينما هم يتعرّضون إلى ضربات الشمس ويبلعون الحبّات المسكّنة لكلّ شيء، الآلام والمهمات والواجبات وأحياناً الثكنات التي تتداركها ألسنتهم ليل نهار ينام في مواضع حصنتها يداه وأيدي أصدقاء من شتّى المدن، بينما هم يسهرون في حدائق ويتحوّلون شيئاً.. فشيئاً إلى تماثيل تالفة تستهوي المبتدئين وتخطب أمامهم متباهية ببريق خبرات زائلة، عجائز يلوكون أمجاداً.. لا يحزن منهم لكنّه يحزن ليل نهار من فتاة أولى غادرته إلى المنشأ القرويّ لتعاشر عليلين يغمرون أمراضهم ومخاوفهم في المياه وأوحال الكبريت المشعولة، تخرج يوماً إلى مصحّ شعبيّ في الهواء الطلق تستقبل وافدين وتودّع خائبين، ترى بريق الأمل بين الصباح والمساء بين في عيون متعلقة بماء سحريّ عكر تتعرّف على مرضى بجلود متقرّحة وسيقان وارمة ومفاصل ملتهبة ووجهوه محببة ونساء عاقرات وأخرى في النفاس طقّت حناجرهن من صياح ولادات عسيرة وهن هناك ليكسرن البيض ويلطّخن الهواء به.. يفرغ من ذلك كلّه مع الغروب فيرعبها تذكّره سوف يظلّ هناك ولن ينغلق الباب وينفتح، يتلكأ في العودة وتجهش بلازمة ندمها اليومية.......
(( أصبحَ مرموقاً وأمسيتُ نكرة )).
وكالعادة تأخّر في الشّفاء فيا علل ويا صداقات مسمومة.. يا فتيات لتأتي كلّ واحدة منكنّ مثل طلقة طائشة إلى هذا الهدف الأعزل، فهو يدنو ببراءة ويتعلّم ببطء ويقاوم متزوّداً بتمارين ورياضيات، مصاباً بانحراف أذنه الوسطى وقصر نظره وداء الشّقيقة وصبر الترشيق الأزليّ وانزلاق الفقرات.. فمرحى أيها الغيظ.. إذا تنفس يزداد بدانة أفلا يكفي هذا ؟!.
يا فتياتُ لتتعلّق كلّ واحدة منكنّ بهذا الحنان الآسن وهذه الأنانية الخرساء من أجل مرور الوقت فقط، فلا غالب في هذه الفسحة ولا مغلوب لكنه يضع الشريط في الجهاز وينظر إلى الماضي الذي يتدرّب على العري.. هكذا فقط يحضّر أرواح الممثلين والممثلات في متعة صمّاء تنقل إليه حمى تبادل الأشرطة التي يدحسها في أجهزة تتّسخ وتتعطّل وتتلكّأ أزرارها وتخذله عروضها، أجهزة يعرف مفاتيحها وأخرى يجهلها، ويصادق الهواة حاملي الأشرطة. أهو يفعل ذلك أم صديقه الوحيد النحيف أكبر مُحضّري الأرواح، العالِمُ بمصادر وبطون الأشرطة، بينما أولئك يبحثون عنه في متون الشّطحات وهوامش الكتب وشروحات المتزمتين والانشقاقات والملل، يسوقون الأمثلة وينشطون أو ينشطرون فيما يذكرهم دائماً بخروج عبد الرحمن الذي نعتوه بالداخل؟.
(أداخل هو أم خارج ؟).
أولئك باستمرار اتفقوا ومنحوا لجامهم إلى أحدهم، لم تغيّرهم عشرات الرحلات ومئات المدن والمناخات والطقوس والمهارات، دمجوا مهنهم وحِرفهم اليدويّة بمهاراتهم الخابية وخوابيهم وخوائهم في حبل غليظ على السّلم الموسيقيّ المرتفع، هو صوت الذي وكّلوه يسوط بعطالة صاحبه وسلطان أكاذيبه المترعة ونشوة أمانيه ووعوده المعلّقة في رقبة مزاجه والوعود المعطاة له سرّاً من ملائكة جانحة ذات مصالح تشعل بها الفتن بين الأصدقاء، وأيضاً طبخات الليل الموجّهة إلى أصدقاء يندرون وينقرضون بانخطاف مذهل، يتوالدون ويموتون بسرعة العصافير المهتاجة.. لا التجارب ولا النّجاحات ولا حتى الاخفاقات استطاعت أن تهادنهم، حسّاد كلّ المهن والحرف الذين يكرهونه في الليل ويتوسّلون إليه في النهار، يزرعون في طريقه مطربي زفّاتٍ بحناجر ريفية أصابها الصّدأ في قوة الغناء الجماعيّ وباعة مواش وأغنام ومختصين بالعلوم الصّماء، وعوراً ومعتوهين وهواة ومتقاعدين.... كلّهم أصدقاؤه وأبناء نشأته الأولى ومحبّاته، رافقوه من المهد إلى اللحد وهم يدقّون طبول الحرب......
يا للحرب.
هو، وهم في هذا الطّوق اللذيذ منذ آلاف السنين تصنعهم وتفكّر بهم سلالات وأنساب وعوائل (( أفلا نحبّ بعضنا؟ )).
هذه الجغرافية القديمة لهم معاً على الرُّقم والرّقوق والبرديات والألواح وكذلك في نشاط الآثاريين وتكهناتهم وقراءات الأشعة السينية والأجهزة والشاشات والليزر وفصيلة الدّم وفراسة أصحاب أوقات الفراغ الطويل الذين يسحبون عجيزاتهم مع انحسار الظلّ.. ما قبل العلوم وما بعدها سيان.
إنتقلت إليهم بذرة باذنجان مرّة وفات الأوان.
يا فتياتُ.. أحبّكن دفعة واحدة بهذه البدانة العزلاء التي يتدحرج بها تحت وابل من حرّ مصاباً بالتهاب يحكّه في أعلى الفخذين.. هو الواقف دريئة بين ليلكن ونهاره يسأل صديقه الوحيد: ما النساء ؟ ولا يصغي إليه، يتهرأ كلّ شيء في تجوالهما.. الشوارع والكراسي والحانات والدوائر والمقاهي والبيوت وحافات النهر القديمة الباقية مثل علامات على شفة دون أن ينقطع نثيث الكلام الذي يتمرّن بينهما، الكلام الذي لا يقود إلى جمادات وثلاجات وغرف مؤونة ومخازن وخزنات وخزّانات، بل الكلام فحسب هذه البلاغة النشطة العالقة بين أسنان الرؤيا. سوف يقضّي قيلولة في ظلّ رائحة الشاي الذي تعدّه إحداكن نكايةً بأخرى تلوب في الطابق العلويّ ((مكيدة أم دهاء فقط !)) وسوف يتعرّف على ثالثة من لحم كتفيها المكوّرين. هذا هو النشاط الذي يتربّى عليه طوال ساعات الدوام.
تحرس الحديقة العامة أمامه كلاب سائبة مسعورة وجرباء تعودت على مروره ذهاباً واياباً.. لقاءات ومكالمات ودلال وعبارات وجيزة سوف يحبّ إحداكنّ عبر تمثيلية نظاراتها الشمسية ونضارة قوامها العانس في ظلّ خطوبات غاربة: ((ما النساء؟)) يسأل ولا يصغي. لكنه يخرج من وجه إلى وجه بعينين حمراوين من حساسية زائدة عن محيطه، ثم يتذكّر الحافلات والأنطقة التي تلهث لتمسك بأعناق بناطيله التي تدمى في الكرّ والفرّ والبقاء وحيداً بشكل محيّر بين فكّين للحياة والموت، ذلك هو متحفه سوف يقوده عند الخروج منه نصف أميّ كامل الفطرة إلى إحداكنّ ليتوسط لكنّه يتورّط.. حتى الآن (أقول) سوف تأتي الهدايا بإحداكن إليه لتعبث بعرشكنّ معه، سوف تقوده إلى عزلة مراهقتها التي عثرت على دمية ثم تتقدم منه نحوه (أمقبلة هي أمّ مدبرة؟) وفيها الفوضى الحرّة التي لا تطالب بشيء يبحث معها عن مأوى طوال أسابيع تتشمّس فيها القُبلات عن شفاههما وكذلك رائحة اغتسالها بعرقه تجفّفها وتستعرضها وتختال بها بين اللقاءات حيث يكونان وحيدين في هذه الضّلالة التي لا تُضاهى بما يشبه الجمال الذي لا ينقصه شيء، مجرد جمال أخرس عبرت منه إليه بسحر الطّلاسم المكتوبة المعلّقة بين لثغة الابتدائية وتردّد الهواية. هذا هو خطّ العناق الحاليّ بين وركي هذه الخلوة فقط، سوف يردّد النصائح الممزقّة ويدهن النصوص العصيّة لجعل بلعها ميسوراً لأنّه هنا يأخذ قيلولاته كلّها.. فيا للفرح !!.