نور الصباح النقي يبزغ من أعلى الجبال الشامخة ، نسمة بأشجانها و حكاياتها مرة في قمم الجبال وأخرى على صفحات البحر الذي يزيد بلدتها جمالا و رونقا ، تقصد البحر كل يوم تحاكيه وتبحر معه بعين دامعة، تسترجع ذكريات الماضي الحنون و الصبا الولهان حيث اليرقات الجميلة و النسمات الحلوة تداعب القلب فترسم فيه وشما لا يمحى ، رددت "آه من الغربة و مراراتها ، كيف يترك هذه الرمال العفراء التي تمددنا عليها طويلا ؟ كيف ينسى أنفاسنا التي التحمت مع الأمواج اللازوردية فتكونت سيمفونية ساحرة وقطعة كونية أبدعتها الطبيعة و نحن الاثنان ؟ "رفعت عينيها إلى قمة الجبل ، شعورا بالغربة يجتاحها ، يحرمها من النوم، من أن تغمض عينيها ، نظرها الهارب عن كل ما يوقظ الذاكرة ـ صارت حياتها مثل الشجرة بجذع مكشوط لحاؤه وفروعها النافرة في غير انتظام ، هي تعلم أنه لن يعود ثانية لحياة ودعها ، تحاول مع نفسها ترميم ما رماه وراءه من تعب و أفكار وساعات فرح ، الغربة تأخذه منها بدون رحمة ، قصدها للعمل تاركا عروسا لم يمض على زفافها شهر تكابد المتاعب ، كتبت له الكثير من الرسائل ، لم يستجب لندائها ، البيت صار باردا ، فراشها أشواك تلدغ جسدها المغري ، يافعة جمالها ريفي يحمل العذرية في كل تقاسيمه ، انزوت في مكان ظليل تفكر "خمس سنوات مبتورة من عمري ، لا أولاد لي منه ينسوني همي ، ولا أهل يواسوني " ليس لها إلا هذا البحر تغوص فيه بكل الألوان و الأحلام و الموسيقى ، إنها بين الوعي و اللاوعي " ألست أنا حورية الأرض البرية كما كنت تناديني وتعشق إكليل الجبل الذي يداعب قدماي وكنت ترتوي من المياه التي أحضرها من العين في رأس الجبل ، ألا أذكرك بالثلوج التي تغلق أبواب البيت ، هل إلى هذه الدرجة انقطع حبل الوصال فانسرح الخاطر في هواء غير هوائي ، أعلم أنك وجدت حياة أخرى ، أخبرني الكثيرون ممن يعرفوك في الغربة أنك وجدت حياة مع امرأة أخرى و أنجبت لك أطفالا .. وأنا ألم تفكر بي، رأيت صورك من أعز صديق لك عرفته في حياتك، لم تفكر حتى أن تعطيني حريتي ، إذن لا ذكريات وراء الحدود ، رسمت النهاية و سأبدأ حياتي من جديد تقاطعت دروبها مع من تحب ، وصارت موحشة ، التقته في الدروب الصعبة ، وبحثت عنه في المدى ،كان حضارتها التي لا تشبه باقي الحضارات وطريقا لا نهاية له ، ضائعة بين المدى و المدى شاردة في متاهات حالكة مخلفة و راءها حيرة و حرائق، أسئلة عميقة على وجهها ، الحلم وهم و الحقيقة واقع، كانا بحق أنانيا ، لكن ستفكر في نفسها مع من يفكر فيها وستسافر له وهناك وأمامه ستعلن بداية حياة جديدة ، حورية تعلم أن ياسين أعز صديق لزوجها وتعلم منذ خيانة زوجها أنه أحبها أكثر لوفائها والتزاماها بمبادئها الطاهرة ، ثم لم يلبث أن صارحها بأنه يحبها ، في البداية رفضت حبه ، لكنها تعبت من الانتظار، قررت أن تواجه الحقيقة بنفسها ، تعبت من ظلم القدر وعبث المجهول وزيف الضحكات ، لمن تبوح خفاياها و أسرارها الحميمية المهددة بالانقراض و التلاشي ، وبعد تفكير طويل صارت التذاكر الزرقاء بيدها اليمنى ، غدا على الساعة العاشرة تصعد سلالم الطائرة باتجاه فرنسا هناك سيكون في انتظارها صديق زوجها ياسين ، نزلت مطار باريس وهي تستمع لمكبرات الصوت تأتيها بلغة رخيمة " الرجاء من المسافرين تخليص إجراءات الدخول فورا " بالنسبة لها كانت تسمع طلاسم و ألغاز لا تقدر على فك رموزها المعقدة ، قابلت كل هذا بابتسامة على وجهها البريء ، كان ياسين هو من أنقذها من الموقف ، قضت أياما معه وسط عائلته ، وجاء اليوم الذي عزمت فيه على مقابلة زوجها تريدها الأخيرة وطلبت من ياسين ترتيب اللقاء، تحدد الموعد على مائدة العشاء بحضور زوجته الفرنسية و ولديه ، قابلته بقشعريرة وكأنها فصول مسرحية معادة، لقد تغير كل شيء أيضا بالنسبة له ، أخيرا ستخرج من الوحل الذي عاشت فيه طويلا ، هي ما تزال أنثى تحمل كل العشق في صدرها ومن حقها أن تداعب الورود من جديد وتغازلها بمختلف أنواع الغزل المعروف و غير المعروف لأنها من دونه وجدت حبها الجديد ، كانت عينا زوجها محدقتين فيها طويلا ، كان فاقدا لتوازنه و إحساسه بالوجود ، ولج في تيه صمت كبير، يداه على وجه تمزقت ملامحه ، إنها رائحة الوطن تحملها معها ، دموعه نقشت على خديه طريقا لا عودة منه ، نظراته تنطق بحسرته على غفلته بعدما انغمس مع الفاتنات في الحياة الجميلة الساحرة وتركها هي للزمن ينهش لحمها لم يبق له معها سوى الذكرى بحروف بالية ليس لها معنى ، لم يزح بصره عنها ، نفس القوام والشعر و الملامح التي تعكس جمال بلدته و قريته ، حملت عيناها رسالتها لقد أمات فيها المشاعر وأمست في عداد الموتى ، قالتها بصوت واثق أن يعطيها حريتها ، فهم حينها كل شيء، إن ياسين سيكون زوجها ، سيكون لها ما تبقى من الفصول ، لقد تأكد انه حبها، لقد شاهد قسماتها الصادقة ولمس نبض قلبها لقد عزمت أن تصنع لياسين لونا لحياته ليس له وجود يفوق لون الورود المتلهفة للحب ، لون يعبر عن عشق لم يذكر في أي كتاب ، لقد أدرك إن خيانته لها صنعت منها امرأة ناضجة تعرف كيف تحب و تعشق ، كيف يسطع جمالها ، عيناها مليئتان بالمعاني ولسانها يفصح عن الأماني ، إنها لم تعد تتكأ على حب يقتل ولا على لحظات العشق الهارب منها لأنها ستبدأ حياة بعيدة عنه ، إنها لن تسترده لأنه ضاع من حياتها وصار بابا للنسيان ، وقفت منتصبة تعطي حكما استجمعت من أجله كل قوة المواجهة " لقد حكمت على نفسك بالنسيان إذن أعطيني حريتي لأبدأ حياتي من جديد "
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ