هذه السيرة البوية البشعة لمحمد أسد بك1 (3-3)
د. إبراهيم عوض

وكعادة مستشرقنا المتخبط نسمعه يقول فى موضع آخر إن الأمر بين الرسول والمسلمين فى المدينة كان أمر مساومة صريحة، إذ كانوا يشترطون عليه بمنتهى الوضوح والبجاحة الحصول على ما يريدون من الغنائم إذا أراد أن يخرجوا معه للقتال. فبالله لو كان الرسول ذلك الحاكم المستبد الذى يعتمد التنكيل منهجا فى سياسة رعيته أكان أحد منهم يجرؤ على أن يقف فى وجهه ويشترط مثل هذا الشرط؟ ثم إن أسد بك قد وصف حكومة الرسول بأنها ديمقراطية. ومثل ذلك فى التخبط وصفه فى أحد مواضع كتابه الدولة التى أسسها الرسول بأنها دولة اشتراكية (ص268)، وقوله فى موضع آخر إن المهاجرين والأنصار قد أضحَوْا بعد قليل يشكلون، برضا الرسول ومباركته، طبقة أرستقراطية طفيلية فارغة ذات وطأة شديدة على كاهل الخزانة العامة (ص270- 271). وإذا كان المهاجرون والأنصار، وهم كل سكان المدينة ما عدا اليهود الذين كانوا أقلية قليلة جدا، يشكلون طبقة أرستقراطية فهل يمكن أن تكون هناك طبقات أخرى غيرهم؟ بالطبع لا. ومعنى هذا أن الكاتب قد أعطى عقله إجازة من المنطق والحكمة.
وقد لجأ الكاتب إلى حيلة خبيثة للتعمية على عقول المسلمين ظنا منه أنه بهذا مستطيع أن يقنعهم بما قاله فى حق الرسول الأعظم. ألا وهى قوله إن الله قد أراد لنبيه، بوصفه بشرا، أن يقترف كل الخطايا التى يمكن أن يقع فيها البشر. والواقع أن هذه الفكرة قمينة أن تنسف النبوة نسفا لأن النبى إنما هو شخص يتفوق على سائر البشر بالمستوى السامق الذى تبلغه أخلاقه الطاهرة وسلوكه الزاكى وعقله الكبير. أما المؤلف الماكر فيريد منا أن نقتنع بعكس ذلك. ولو صح ما يقول فما الفرق حينئذ بين الرسل وأهل الإجرام؟
ذلك أن المجرمين إذا كانوا يقتلون أو يزنون أو يسرقون أو يغدرون أو يكذبون فالرسل أيضا يقتلون ويسرقون ويزنون ويغدرون ويكذبون مثلهم. وعلى هذا فالمسلم العادى الذى لا يقتل ولا يزنى ولا يسرق ولا يكذب ولا يغدر ولا يشرب الخمر، وكثيرٌ ما هؤلاء الذين يصدق عليهم من المسلمين ذلك، هو أسمى خلقا وأنقى سلوكا من الأنبياء. وعندئذ يحق لكل إنسان أن يسأل: وما فائدة إرسال الرسل إذن إذا كانوا هم أول من يخرج على ما ينادون به أو يعجزون عن تحقيقه؟ وعندئذ أيضا لا يكون لقوله تعالى: "اللهُ أَعْلمُ حيث يجعل رسالتَه"، وقوله سبحانه يخاطب نبيه موسى: "ولِتُصْنَع على عينى" أو قوله يصف نبيه محمدا: "وإنك لعلى خلق عظيم" أى معنى. فهل هذا معقول؟ أيكون الله قد قال ذلك كله كذبًا ومَيْنًا؟ أستغفر الله مما يرمى إليه هذا اليهودى الحقير!
لكن لا بد أن نعرف أن الكاتب، حين قال فى حق الرسول ما قال، كان فى ذهنه ما يمتلئ به العهد القديم من حكايات عن الأنبياء تشيب لهولها الولدان من بشاعة الجرائم التى يقول مؤلفو العهد القديم إنهم عليهم السلام قد اقترفوها: فنوحٌ يظل يعبّ من الخمر حتى يسكر وينطرح على الأرض عارى السوأة. وإبراهيم لا يجد حرجا فى أن يقدم زوجته للملك حين يشعر أنه يريدها لمتعته، وينصرف من حضرته فرحا بما حصل عليه من المواشى تعويضا عن "الهدية" التى تركها له ومضى. ولوط تسقيه ابنتاه خمرا ثم تنامان معه الواحدة بعد الأخرى وتحبلان منه. وداود يطّلع من فوق سطح قصره على امرأة قائده وهى تستحم فى فناء البيت المجاور، ثم يتآمر على قتل الزوج المسكين المتفانى فى طاعته وحماية دولته كى يخلو له وجه المرأة التى تزوجها بعد ذلك وأنجب منها سليمان. وسليمان لا يجد غضاضة فى أن تعبد زوجاتُه الوثنياتُ الأصنامَ فى بيته... إلى آخر هذه العفونات والنتانات التى نسبها هؤلاء الأفاكون إلى صفوة خلق الله بكل بجاحة ووقاحة، فجاء كاتبنا وأراد أن يزيد الطينَ بِلَّةً بل بِلَّاتٍ زاعما أن محمدا إذا كان قد سفك الدماء وغَدَرَ وأضاف إلى القرآن ما ليس منه فى مدح اللات والعزى ومناة وغلبته شهوته إلى النساء فهى تصرفات طبيعية جدا لأنه بشر، وما دام بشرا فلا بد أن يرتكب كل خطيئة يمكن أن يقترفها بشر. ترى بالله ماذا يتبقى إذن من النبوة؟ وكم تساوى حينئذ؟ إنها تصبح كحزمة الفُجْل أيام كانت العَشَرَةُ منها بقِرْش!
كذلك لم يَدَعْ أسد بك فرصة تمرّ دون أن يهتبلها ليشوه شخصيات الصحابة الكرام. وقد رأيناه يغمز مرتين على الأقل عَمْرَ بن العاص بأن أمه كانت عاهرة. لقد كانت أمه رضى الله عنه من سبابا الجاهلية وانتقلت من يد إلى يد حتى استقرت عند العاصى أبيه، وكانت تحترف الغناء كأمثالها من القيان فى ذلك الزمان. ولتكن أم عمرو بعد ذلك ما تكون فما الذى يضير عمرا فى هذا؟ أهو الذى صنعها وسواها وزين لها طريق الخطإ والانحراف؟ إن الفتى ليس هو الذى يقول: "كان أبى أو كانت أمى"، ولكن الفتى من يقول: "هأنذا". ولقد قالها عمرو فى مسمع التاريخ، فصغا التاريخ له منصتا بجمع انتباهه وملء وعيه وكيانه، وحفظ بطولاته وإنجازاته وفتحه البلاد وتدويخه إمبراطورية الرومان وامتلاكه درة تاجها أرض الكنانة، التى تدين له بتحررها من الاستعمار الرومانى ودخولها الإسلام الحنيف وتعرُّب لسانها. والغرب لا يستطيع أن ينسى لعمرو ما فعله بالإمبراطورية الرومانية، فلذلك يحاول النيل منه بلسان ذلك المستشرق وأمثاله بالإيماء إلى ما كانته أمه فى الجاهلية. وعجيب أن يلجأ أسد بك إلى هذا، وهو الغربى الذى تؤمن حضارته بالفردية وتعرف للشخص قيمته فى ذاته. كما أن الانحراف الجنسى لا يشكل عندهم أية مشكلة، فكل إنسان حر فيما يفعل بجسده، والجنس عندهم كالطعام والشراب والهواء، لا حرج فيه بأى حال من الأحوال. ولكن لا عجب فى الحقيقة، فكله فى سبيل الرغبة فى إهانة الإسلام ورجالاته يهون.
أما أم المؤمنين حفصة بنت الفاروق العظيم فقد عابها بأنها كانت قبيحة، ولذلك لم يجد عمر بين الصحابة من يريد الزواج منها لولا أن الرسول قد سارع فطلب يدها تطييبا لخاطره. والذى يقرأ هذا الكلام، وهو لا يعرف من الأمر شيئا، قد يصدق هذا الهماز اللماز، ويظن أن السيدة حفصة لم تتزوج حتى ذلك الحين. وهذا خطأ أبلق، فقد كانت رضى الله عنها متزوجة من قبل بخنيس بن حذافة، الذى توفى من جراحة أصابته فى أحد، وكانت سنها آنذاك عشرين عاما. وكانت، كما يقول جورجيو، جميلة وعالمة ومحبة للأدب والشعر وشديدة الحزن على زوجها رضى الله عنه. ولقد خطبها عثمان، لكن عمر رده كما جاء فى بعض الروايات، التى أوردها رفاعة الطهطاوى فى سيرته النبوية. فعندئذ تقدم النبى إلى الفاروق بأن يتزوجها هو، ويتزوج عثمان ابنته أم كلثوم. فهذه هى المسألة على حقيقتها. وحتى لو افترضنا أنها رضى الله عنها كانت قبيحة كما يزعم الكذاب فما ذنبها فى ذلك، وليست هى التى اختارت لنفسها أن تكون قبيحة؟ إن الجمال والقبح من الأمور المقدورة على الإنسان قدرا، ولا مدخل له فى ذلك ولا مؤونة عليه، فإنما يحاسَب أحدنا على ما يفعله أو يدعه بمطلق إرادته واختياره. فماذا نقول سوى أن الغرض مرض؟ لا شفى الله القلوب المريضة بالحقد من أدوائها. على أن هناك نقطة أخرى هامة ترد عليه تقولاته على الرسول صلى الله عليه وسلم، ألا وهى اعترافه أن الرسول قد تزوج حفصة جبرا لخاطر أبيها. وهو ما فعله عليه السلام، على نحو أو على آخر، مع عدد آخر من زوجاته. أى أن الرسول، أيها اليهودى الأفاك، لم يكن يتزوج من أجل فرط الشهوة والانشغال بالجنس، وكأنه عليه الصلاة والسلام لم تكن له شغلة ولا مشغلة إلا النساء، فليس ثمة دعوة ولا حكم ولا سياسة ولا حروب ولا قضاء ولا معيشة ولا عبادة ولا أبوة ولا صداقة.
أما دعواه باحتقار النبى عليه السلام لعمه العباس فأمر غير وارد البتة، فقد كان محمد من نبل النفس واحترام الكبير، فضلا عن أن يكون هذا الكبير هو عمه، بحيث لا يتصور أن يخطر هذا الشعور بنفسه نحو العباس، إذ ما الذى فعله العباس حتى ينطوى قلبه له على الاحتقار؟ إننا لم نسمع أنه صلى الله عليه وسلم قد احتقر عمه أبا لهب رغم كل ما صنعه أبو لهب وزوجته به وموته على الكفر، فكيف يحتقر عمه العباس، الذى آمن به ووقف معه ليلة العقبة الثانية، وكذلك يوم فتح مكة، وهما من أهم المناسبات فى حياته المباركة العظيمة؟ وكان العباس من القلائل الذين بَقُوا حوله عليه الصلاة والسلام حين تفرق عنه معظم الصحابة بسبب ما أخذهم من مباغتة هوازن، التى انصبت عليهم من فوق الجبال والتلال، وهم مطمئنون إلى أنهم لن يُغْلَبوا من قلة.
لقد كان النبى صلى الله عليه وسلم أكبر وأعظم وأنبل من أن يمر بقلبه الكبير الرحيم شعور الاحتقار تجاه أحد، فكيف يواتى أىَّ إنسان عنده مسكة من عقل القولُ بأنه كان يحتقر عمه  العباس لأنه تأخر فى دخول الإسلام، فضلا عن أن يكون أعظم الناس نصيبا من احتقاره كما قال المؤلف الحاقد المنحط فى موضع آخر من الكتاب؟ لقد كان الرسول يكاد يبخع نفسه حزنا وألما على من لا يصغون لدعوة الحق التى أتى بها بسبب حبه للبشر ورغبته الجارفة فى أن يجنبهم عذاب الجحيم. فهو إذن لا يعرف الاحتقار بل الإشفاق والعطف. وما بالنا بمن آمن كالعباس؟ ثم أليس الرسول هو القائل: "لَأَنْ يهدى الله بك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس"؟ فكيف، بعدما نجح فى هداية العباس إلى الإسلام، يحتقره؟ ولا ننس أن العباس كان عديل رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يزيدهما قرابة ويجعل الرحم التى تربطهما أوثق وأمتن.
وإن للكلمة التى قالها عمر للعباس عشية فتح مكة دلالتها التى لا تخفى على أحد، إذ قال: والله لَإِسْلامُك يوم أسلمتَ كان أحبّ إلىَّ من إسلام الخطاب لو أسلم! ترى أكان عمر يقول هذا لو كان رسول الله يكن الاحتقار لعمه؟ كذلك ينبغى ألا ننسى أن العباس أيضا هو الذى حمل ابنتى رسول الله: فاطمة وأم كلثوم لدن هجرتهما إلى المدينة وأنه فرح فرحا عظيما حين بلغه انتصار الرسول فى خيبر وتزوُّجه من بنت زعيمهم حيى بن أخطب، فلبس أحسن ملابسه وتطيب وخرج لقريش، وأعلمها بذلك. ولقد كان الرسول يدعو إلى بر الأقارب واحترام الكبير وتبجيله، فكيف يخرج على هذا المبدإ الأخلاقى الكريم الذى أرساه بنفسه، وهو الذى لم يخالف فعله قوله فى يوم من الأيام؟
على أن أخطاء أسد بك لا تقف لدن هذا الحد بل وقع، أثناء حديثه عن الرسول وبلاد العرب، فى أخطاء جغرافية وتاريخية لا تليق رغم حرصه على إيهام القارئ أنه يعرف شبه الجزيرة العربية معرفة وثيقة. لقد جعل غار حراء بالطائف، وهذا مضحك جدا. ومثل ذلك قوله إن أطفال مكة كانوا يطاردون الرسول ويرمونه بالحجارة (ص95) رغم أن هذا إنما وقع بالطائف حين ذهب صلى الله عليه وسلم إليها يدعو أهلها إلى الإسلام بعدما ضاق صدره بعناد أهل مكة وصلابة رقابهم.
ومن أخطائه فى هذا المجال أيضا ادعاؤه أن الرسول هو الذى كَنَّى عمه عبد العزى بـ"أبى لهب" (ص79). يريد أن يقول إن القرآن (الذى هو من صنع محمد حسب إيماءاته الماكرة) هو مطلق هذه الكُنْيَة عليه حين قال إنه سيَصْلَى نارا ذات لهب. ووجه الخطإ هنا أن عمه كان يُكْنَى بهذا قبل البعثة المحمدية بوقت طويل، ولا علاقة لذلك البتة بدخوله النار ذات اللهب. ذلك أن سبب إطلاقها عليه هو شدة إشراق وجهه. فهى إذن كُنْيَة مدح لا ذم. وإذا كان الشىء بالشىء يذكر أحب أن أشير إلى أن د. محمود على مراد، فى الرسالة التى حصل بها على الدكتورية من باريس قبل عدة سنوات فى سيرة ابن إسحاق، قد زعم أن تسمية أبى لهب بهذه الكنية سببها حفره الأخدود للمسلمين وحرقهم باللهب فيه كما ذكرت ذلك سورة "البروج"، وهو ما رددت عليه فى كتابى: "إبطال القنبلة النووية الملقاة على السيرة النبوية"، الذى فندت فيه كل دعاواه المتهافتة فى السيرة النبوية. وما هذا إلا مثال واحد من تلك الدعاوى المفككة التى لا تصمد لُحَيْظَةً للنقد الجاد.
ومن الواضح أيضا أن الكاتب ينكر أن يكون إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام قد ذهبا إلى مكة أو بنيا الكعبة هناك، إذ يعقب قائلا إن هذا هو ما تقوله الأساطير القديمة (ص39) مع أن الذى قال ذلك هو القرآن الكريم، الذى من المفترض أنه يؤمن به ما دام قد تسمى باسم إسلامى هو اسم النبى عليه السلام، وكان عليه أن يتبناه لا أن يهاجمه ويتهمه بالخرافة. ثم لو كان هذا صحيحا فلماذا لم يعترض عليه اليهود فى المدينة ويجادلوه، وهم أهل جدال وحجاج ولا يقف أمامهم أحد كما يقول الكاتب؟ وقد لاحظت كذلك أنه كثيرا ما يشير إلى بلاد العرب على أنها أراضى إستبس (ص54، 56، 66، 95، 139، 160، 247). والذى أعرفه أن عروضها الشمالية الملاصقة للشام هى وحدها التى قد تصنف هذا التصنيف الجغرافى، أما سائرها فصحراء جافة قاحلة.
 وثمة خطأ من نوع آخر وقع فيه كثيرا، ألا وهو كتابة أسماء الأعلام العربية خطأً: فسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل يكتب: سعيد بن عمر بن زيد. وعبد العزى: عبد العرسى. وأبو الحكم بن هشام: أبو الحكم بن هاشم. ومناة: مناخ. وحليمة: حلينة. ومعاذ: موناس. ومناف: مراف. وخديجة: هديجة. وقصى: قريسى. والأرقم: أرثم. وسورة "الضحى": أبضحى. وغير ذلك كثير.
ومن طيشه وخُرْقه ودَسّ أنفه فيما لا يحسنه فتواه بأن الصلاة تسقط أحيانا عن المسلم، وذلك عندما يسافر الشخص أو يعيش فى بلاد أجنبية، واتخاذه ذلك دليلا على واقعية الإسلام (ص135). وهذا كلام طائش، فالمسافر إنما يجوز له قصر الصلاة الرباعية وجمع الظهر والعصر معا فى وقت أى منهما، ومثلهما المغرب والعشاء. أما سقوط الصلاة تماما عن المسلم فكلام لا يتفوه به مسلم بل ولا كافر أيضا. وبالمثل نراه، حين يعدد فئات المستحقين للزكاة، لا يذكر سوى الفقراء والمساكين والرقاب والغارمين، مضيفا إليهم المسافرين والأجانب المقيمين فى المدينة (ص87). وبطبيعة الحال فإن هذه الفئة الأخيرة ليست هى بالضبط فئة أبناء السبيل. كما أنه أسقط المؤلفة قلوبهم والقائمين على جمع الزكاة وتوزيعها على مستحقيها، وكذلك بند الإنفاق فى سبيل الله.
ولا يقلّ عن هذه الأخطاء شناعة ما تورط فيه من ترجمة بعض الآيات القرآنية، إذ لاحظت أنه أحيانا ما يخلط الحديث بالآية، أو يعمل توليفة من عدة آيات قرآنية متتابعة أو يسقط جزءا من النص الذى يترجمه أو يبتعد عن معناه. ومثال واحد يغنى عن أمثلة، وهذا هو: "أتريد أن تتسلق طريق الإيمان المنحدر؟ إذن فعليك بالسجناء وطعام ذوى المسغبة، وكن رحيما معينا. ويل للرجال الذين لا يخرجون الزكاة والمتصدقين الذين يؤذون سرا من يأخذون عطاياهم. ويل للذين يخرجون المال ويوزعون الصدقات رياء وسمعة. مثلهم كمثل صفوان لا ينبت عليه شىء" (ص86). وواضح أن هذه السطور تحاول ترحمة الآيات التالية من سورة "البلد" و"الماعون" و"البقرة": "فلا اقتحم العقبة* وما أدراك ما العقبة؟ * فَكُّ رقبة * أو إطعام فى يومٍ ذى مسغبة"، "فويل للمصلين ... * الذين هم يراؤون *ويمنعون الماعون"، "لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذى ينفق ماله رئاءَ الناس ... فمثله كمثل صفوانٍ عليه تراب فأصابه وابل فتركه صَلْدًا لا يقدرون على شىء مما كسبوا". ومن الجلى الذى لا يحتاج تعليقا المدى الرهيب الذى وصل إليه عبث الكاتب بنصوص القرآن وخطؤه فى ترجمتها.
ولكن لا مناص رغم ذلك من القول بأن المؤلف قد أشاد كثيرا بجمال الأسلوب القرآنى وإعجازه. وإليك، أيها القارئ، بعض ما قاله فى هذا الصدد: "يا للإبداع الأدبى والجمالى الذى انبثقت عنه شفاه ذلك الرجل الذى لم يَنْظِم قبل ذلك ولا بيتا من الشعر. ومن وجهة النظر الخارجية هذه وحدها لا يزال القرآن يمثِّل حتى اليوم أعلى نقطة يمكن الارتقاء إليها فى لسان العرب. وبالنسبة للعرب جميعا مثلما هو الحال بالنسبة لمحمد فإن الجمال الشعرى الساحر للقرآن هو البرهان الجلىّ على مصدره الإلهى" (ص83). وقد أورد فى هذا الصدد قصة لم أسمع بها من قبل، إذ يقول إن شعراء قريش فى الفترة المكية قد تجمعوا فى فناء الكعبة محاولين نظم شعر يضارعه فى جمال القرآن ردا على تحديه لهم، لكن أشدهم ضراوة قد أقروا على أنفسهم بألا شىء مما نظموه يستطيع مساماة القرآن. وكان هذا العجز سببا فى دخول كثير منهم الإسلام (ص98- 99).
ويقتضينى الإنصاف كذلك أن أُشِيد ببراعة ذلك المستشرق فى كثير من المواضيع فى تجسيد أحداث السيرة النبوية ومواقفها تجسيدا يتنفس ويُذْهِل. لقد قرأت السيرة النبوية لدى مؤلفين مسلمين من عرب وغير عرب ولدى عدد من المستشرقين والمبشرين بالإنجليزية والفرنسية، لكنى لم أجد عند أى منهم هذه المقدرة الفنية العجيبة حتى لقد كنت أشعر أنى فى حضرة المصطفى أشاهده بعينى وأسمعه بأذنى وأنى لو أردت لمددت يدى وتشرفت بلسمه. إلا أن المؤلف للأسف قد استغل هذه الموهبة فى الإساءة لشخصه صلى الله عليه وسلم ولدينه. منه لله!
بقيت نقطة أخيرة فى هذه الدراسة العجلى: لقد سلف القول بأن الكاتب قد انطلق ظاهريا فى كتابه هذا من أنه شخص مسلم، فضلا عن أنه قد اصطنع اسما إسلاميا. صحيح أن كلامه مملوء بالغمز واللمز واتخاذ المواقف الممالئة لليهود وما إلى ذلك مما فضحنا كثيرا منه فيما كتبناه آنفا. لكنى أريد أن أقف عند شىء آخر أَدَلَّ على حقيقة قلبه، ألا وهو فلتات اللسان أو بالحرى: فلتات القلم. من ذلك أنه كثيرا ما يقول: "نحن الأوربيين..." أو "نحن الغربيين..." على نحو لا يدع مجالا للشك فى أنه حريص على إقامة حاجز بينه وبين العرب والمسلمين (الذين يسميهم بـ"الشرقيين") لا يمكن تخطيه. ولو كان مسلما حقا ما فعل هذا ولعد نفسه رغم أوربيته واحدا منا. بل إنه ليحقر الشرقيين ويجعل بلادهم مهد المكر والمؤامرات والكذب والخيانة والاغتيال بالسموم (ص12- 13، 17، 20، 33). ومن هذا الوادى وصفه للتاريخ الميلادى بأنه "تقويمنا"، أى تقويم الغربيين من يهود ونصارى (ص32). وعند كلامه عن إبراهيم عليه السلام نجده يسميه: "le Patriarche: البطريارك" (ص38). وهى تسمية كتابية لا إسلامية، إذ هو عندنا نبى رسول لا بطريارك. وبالمثل يعتمد رواية العهد القديم لدن كلامه عن إبراهيم وإسحاق وهاجر وإسماعيل(ص15)... وهكذا. إن فلتات اللسان والقلم لمن الأهمية بمكان. ومن الواضح أنه يبغض الإسلام ونبيه بغضا ملتهبا، وقد رجحت أنه يهودى اصطنع اسما إسلاميا ليكون للفتنة أشد إضراما، وغلف حبات السم بقشرة سكرية بدا فيها أنه يمدح الإسلام وتعاليمه فى بعض الأحيان لتتم الحبكة المسرحية. لكن لا يمكن أن يفلح أبدا من يكره رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخيرا فقد اتضح أن محمد أسد بك (وهناك من يقول إنه محمد أسعد) هو يهودى بولندى اسمه الأصلى ليڤ نوسيمباوْم، وُلِد عام 1905م، ومات عام 1941 أو 43 على خلاف فى ذلك، وأعلن تحوله إلى الإسلام فى شبابه. وله، إلى جانب كتابه الذى نحن صدده، "نيقولا الثانى، وسجين اللون القرمزى، واثنا عشر أسيرا قوقازيا، وعلىّ ونينو، والله أكبر". وهو ابن أميرة بولندية وتاجر يهودى كبير. وقد ظهر لنا فى المشباك، ونحن نبحث عن الرجل، شخص اسمه قربان سعيد بوصفه مؤلف أو مترجم رواية"على ونينو"، فأفضيت إلى صديقى د. لطفى جمعة الأستاذ بهندسة بنها، الذى كان يساعدنى فى التوصل إلى حقيقة محمد أسد بك مشكورا، بأن لدىّ اشتباها قويا فى أن يكون قربان سعيد هو نفسه محمد أسد بك متخفيا فى رداء قوقازى، فوعدنى أن يتابع البحث فى الموضوع، ليعود بعد يومين قائلا إن شكوكى فى محلها لأن هناك فعلا من يقول نفس ما قلت، وإن كان هناك أيضا كاتب يهودى يحاول التعمية على أن أسد بك وقربان سعيد شخص واحد. كما ذكر لى أنه وجد مقالا لكاتب يدعى: توم رايس يحاول أن يثبت أن رواية "على ونينو" ليست لأسد بك ولا لقربان سعيد، بل لبارونة نمساوية كانت عشيقة لهذا الأخير. وهذا كله مما يؤكد أن هناك سرا خطيرا وراء محمد أسد بك، الذى كان  يدعى أن النازيين يطاردونه فى كل مكان. ثم هل يعقل أن شخصا يتحول من اليهودية إلى الإسلام تحولا صادقا ثم يكتب مهاجما دينه الجديد ورسوله وصحابته مهما كانت الذريعة التى يستند إليها؟ لكن ما يحيرنى أن محمد أسد الآخر لم يفكر قط، فى حدود ما أعلم، أن يحذر المسلمين من محمد أسد بك ويخبرهم أنه ليس إياه رغم تشابه الأسماء!
والآن بعد أن انفضحت حقيقة محمد أسد بك لا نجد خيرا من الاستشهاد بقول الله سبحانه وتعالى فى كتابه الكريم يفضح أسلوب يهود فى الكيد للإسلام: "وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" (آل عمران/ 69- 72). فهو من الذين آمنوا بالذى أُنْزِل على محمد وجه النهار وكفر آخره ليشكك المسلمين فى دينهم قائلا لهم: لقد أردت الحق، ولكنى أخطأته، واتضح لى أن محمدا نبى كاذب وأن الإسلام دين إرهابى. فنيتى كانت سليمة وطيبة، لكن حقيقة الإسلام صدتنى وردتنى فتركتُه لما وجدته فيه من عيوب قاتلة. والطريف أنه، حسبما قرأت، قد أوصى بوضع المصحف تحت رأسه عند دفنه. وقد مات ودُفِن بإيطاليا فى قَبْرٍ رُسِمَتْ على شاهده صورة عمامة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 46 مشاهدة
نشرت فى 25 أغسطس 2016 بواسطة dribrahimawad

عدد زيارات الموقع

33,973