خذوه فغُلُّوه، ثم فى الخنكة أَوْدِعُوه! (2-2)
إبراهيم عوض
ولم يكن العرب بارعين فى استعمال السهم براعة الكاوبوى فى استعمال المسدس حتى ليصيب به من يريد أيًّا كان وضع خصمه أثناء التنشين، وأيا كانت سرعة حركته، وأيا كانت عبقريته فى الرمى والتصويب. ببساطة لأنهم لم يكونوا يعرفون بكش رامبو وحركاته السينمائية النصف كُمّ التى انكشفت فى أفغانستان والعراق، وستنتهى بمشيئته تعالى بالهزيمة الداحرة الفاقرة! أما السواتر التى ظن الأفاكان الفرنسيان أنهما سيُسْكِتان بها المسلمين إلى الأبد فها هو ذا ما قاله الواقدى بشأنها على لسان راوى القصة: "وكانوا يجعلون التراب مما يلي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وكانوا يسطرون الحجارة مما يليهم كأنها حبال التمر، وكانت الحجارة من أعظم سلاحهم يرمونهم بها". أى أنهم كانوا حريصين على أن يُبْقُوا الأتربة فى جهتهم كى يتترَّس وراءها النبى وأصحابه عند اللزوم، فيما كانوا يرمون المشركين بالحجارة التى كانوا يحضرونها من جبل سلع وراءهم، والتى يصفها الراوى بأنها كانت أعظم أسلحتهم، وأضيف أنا أنها كانت المثال الذى نسج على منواله أبطال الانتفاضة الحجرية فى أرض فلسطين المباركة، أولئك الأبطال الذين لم يتحججوا كما يتحجج دائما خوالف الرؤساء والزعماء والقوادين المسلمين بقلة الإمكانات أو عدم ملاءمة الظروف للذَّوْد عن الديار رغم المليارات التى تنفق سنويا على السلاح والخبراء وتفاخُرهم بذلك، بينما الحقيقة المخزية أنه لا أحد فى الجيش فى كثير من الدول العربية يمكنه استخدام شىء من هذا السلاح. وبالمناسبة فقد كانت أم سلمة فى هذه الغزوة (وفى عدة غزوات أخرى أيضا) فى معيّة الرسول صلى الله عليه وسلم كما لاحظنا من النصوص السابقة، على حين كانت عائشة فى أحد الحصون مع سائر النساء والصغار كما جاء هنا وكما ورد فى سيرة ابن هشام مثلا: "قال ابن إسحاق: وحدثني أبو ليلى عبد الله بن سهل بن عبد الرحمن بن سهل الأنصاري، أخو بني حارثة : أن عائشة أم المؤمنين كانت في حصن بني حارثة يوم الخندق ، وكان من أحرز حصون المدينة "، وهو ما يكذّب أحمد صبحى منصور فى نفيه اصطحاب رسول الله أيًّا من زوجاته الأخريات معه أثناء الغزو، إذ كان منطقه المتهافت أن الشيعة هم الذين اخترعوا قصة اصطحاب النبى لعائشة كى يرتبوا عليها اتهامهم لها فى عِرْضها. فها هى ذى أم سلمة، التى لا تِرَاتِ للشيعة عندها، تصحب الرسول فى هذه الغزوة، وأى غزوة؟ غزوةٌ وَصَفَ القرآنُ المسلمين أثناءها بأن أبصارهم قد زاغت، وبلغت القلوب منهم الحناجر، وأنهم قد ظنوا بالله الظنون، وأنهم قد ابْتُلُوا وزُلْزِلُوا زلزالا شديدا، وهو ما يرد أبلغ رد على قول كويتبنا إنه لا يُعْقَل أن يصطحب الرسول إحدى زوجاته معه أثناء الغزو معرضا إياها للأخطار فى الوقت الذى تبقى فيه زوجات المسلمين فى المدينة آمنات مطمئنات، إذ من له المصلحة هذه المرة فى الزعم بأن الرسول قد اصطحب أم سلمة معه فى غزوة الخندق؟ وهذا لو جارينا الكويتب فى أن الشيعة قد أرادوا أن يلوِّثوا عِرْض عائشة فى رواية الإفك، وهو ما أثبتنا فى مقالنا عن كتابه التافه المريب: "القرآن، وكفى" أنه لا صحة له على الإطلاق، إذ هم يَسْمُون بالنبوة والرسالة أن تنالها أية شائبة من ناحية الأعراض، فهم لهذا لا يتهمون عائشة أو غيرها من زوجات النبى فى شرفها لأن هذا الاتهام سيمَسّ الرسول بالضرورة.
ويمكن من يشاء الاطلاعَ على الدراسات المكتوبة بالإنجليزية والفرنسية أن يراجع وصف معركة الخندق فى الفصل السابع عشر من كتاب وليام موير: "Life of Mohammad" (طبعة John Grant, Edinburgh, 1912، بدءًا من صفحة 306 فصاعدًا)، وكذلك الفصل الستين من كتاب أبو بكر سراج الدين (مارتن لنجز سابقا): "MUHAMMAD- His Life Based on the Earliest Sources"، إلى جانب كتاب "The Life of Muhammad" لمؤلفه A. H. Siddiqui (طبعة Millat Book Centre, New Delhi, 1993) بدءًا من صفحة 215 فصاعدًا، وفيه تفصيل للأمر كله حفرًا وتشوينًا للتراب والحجارة وحراسةً وتجسّسًا وعبورًا ومبارزةً...إلخ فى أسلوب عصرى. ومثله فى هذا التفصيل الدقيق الفصلُ التاسع والعشرون من كتاب Salim Ibn-i-Muhammad Raffi: "Muhammad the Beloved of Allah" (طبعة Kazi Publications, Lahore, 1998) بدءًا من صفحة 293 فصاعدًا. ولا أذكر أننى قد قابلت تشكيكا أى تشكيك فى واقعة الخندق وحَفْره عند أى من المستشرقين على تباين أديانهم واتجاهاتهم الفكرية والسياسية واختلاف أهوائهم وجنسياتهم وعلى طول ما قرأت لهم، وكثير منهم مشككون مداورون من الطراز الأول لا يتورعون عن محاولة إثارة ريبتك حتى فى حقيقة وجودك نفسه وأنت واقف أمامهم. بقيت كلمة حُشْتُها كل تلك المدة لم أعلن عنها، ولا أستطيع المضى فى كتمانها أطول من ذلك، ألا وهى أن مؤلف الكتاب الذى بين يدينا هو طبيب نفسى، والمظنون بالأطباء النفسانيين عند العامة أنهم غير أسوياء، والمسؤول عن هذا أفلامنا العربية التى تجتهد عادة فى تصويرهم مرضى يحتاجون، قبل المترددين عليهم، إلى العلاج مما يعانونه من انحرافات وعقد. ولعل آخر ممثل مصرى شاهدتُه يقوم بهذا الدور هو الأستاذ فؤاد خليل، الذى أضحكنى وأمتعنى كثيرا بأدائه المميز لهذا الدور، وإن كنت لا أستسيغ تمثيله أحيانا لما يكون فيه من افتعال ومبالغة. أريد أن أقول إن كلام الطبيب الفرنسى قد أثبت أن ما تقوله أفلامنا عن هذه الطائفة من الأطباء ليس خيالا ولا ادعاء كله، وأن هناك فعلا أطباء نفسانيين بحاجة إلى رعاية عقلية ونفسية، وصاحبنا مؤلف الكتاب المذكور واحد منهم، بل هو زعيمهم بكل تأكيد، إذ إن ما يقوله وما يقترحه إنما هو الجنون (الجنون الأزلى) بعينه، لا شفاه الله منه حتى يكون عبرة للمتوسِّمين!
أما قول المعلق إنه لغريب حقا أن أحدا لم يفكر فى أمر الخندق بتاتا على ما فيه من مخالفة للمنطق تبعث على الدهشة، وإن هذا يبين لنا إلى أى مدًى استطاع الإسلام التلاعب بالعقول عن طريق التقنيات الخاصة بذلك جميعها دون استثناء: بدءًا مما يسمَّى بــغسل المخ، ومرورًا بالتزام مبدإ السمع والطاعة والخضوع لتأثير العواطف الجمعية وتجنب مسائل بعينها لا ينبغى الخوض فيها واستغلال الجنس، وانتهاءً بتعطيل عمل العقل...إلخ، وإنه، رغم حرصه على أن يظل مفتوح العينين حتى لا يخدعه خادع، قد انطلى عليه ما يُسَمَّى: "برهان السلطة"، إذ ظن أنه ما دامت هناك كتب تتحدث عن محمد فمعنى هذا أن محمدا كان موجودا حقيقة، مع أن هناك كتبا كثيرة عن تنتان، ومع ذلك فإن تنتان لم يكن له فى يوم من الأيام وجود. والواقع أنه لا يسعنى إلا الاتفاق معه فى أن وجود كتب أو حكايات عن فلان لا يعنى بالضرورة أن هذا الفلان موجود أو كان موجودا، إلا أن هذا لا يعنى أيضا أن نشك فى وجود فلان ذاك شكًّا آليًّا رغم وجود كتب ودراسات تتحدث عنه، وبخاصة إذا لم تكن هناك بواعث للشكوك غير مجرد العناد والرغبة فى المخالفة، فما بالنا لو توفرت الدواعى على القول بأن ما ترويه تلك الكتب والدراسات قد وقع فعلا؟ إذ ما الداعى لأن يخترع المسلمون قصة الخندق؟ إنها لتدل على أنهم كانوا مضطربين خائفين يتوقعون الشر من كل اتجاه، وغير قادرين على مواجهة المشركين، ومن ثم فقد احتمَوْا خلف ذلك الخندق، واستحقوا سخرية الكفار واستخفافهم بهم! كما أن الرواية تعزو التفكير فى هذه الوسيلة إلى رجل فارسى (الفارسى الوحيد بينهم) لا إلى رجل عربى، وهو ما يضيف على كاهلهم عبئا نفسيا مؤلما إلى العبء السابق. لقد كان بإمكانهم، ما دام الأمر أمر اختراع وتزييف، أن يقولوا إن الملائكة قد حاربت فى صف المسلمين وإنها... وإنها...، لكنهم لم يلجأوا إلى مثل هذا على قربه من منطق الاختراع والتزييف واتساقه معه! أما تصوير المسلمين فى عصر النبى ومن بعده إلى يومنا هذا بصورة من لا يفكر ولا يعقل ولا يستخدم حاسته النقدية فهو يدل على خَطَلٍ فى تفكير المعلق والمؤلف وغباء غليظ وجهل مدقع لديهما، لماذا؟ لأن المسلمين لم يتركوا شاردة ولا واردة فى دينهم سواء تعلق بالعقائد أو بالتشريع أو بالتاريخ إلا ومحّصوه ووضعوه على مائدة البحث والجدال فى حرية تامة. ومن له أى اتصال بالفكر الإسلامى يعرف مصداق ما أقول، فمن الواضح إذن أن الرجلين جاهلان جهلا عجيبا لا يليق بمن يتصدى لمناقشة مثل هذه الموضوعات. ولقد كان الصحابة يناقشون الرسول فى كل أمرتقريبا، وكان هو من ناحيته يشجعهم على ذلك ويطلب منهم المشورة فى أحيان كثيرة مؤكدا لهم أن المجتهد مأجور حتى لو أخطأ، كما كان يُفْهِمهم أنه فى نهاية المطاف ليس أكثر من بشر لا يعرف الغيب ولا يدرى ما الله فاعل به ولا بهم، وأنه ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة! أفبعد كل هذا يقال إن الإسلام قد مارس على المسلمين طوال العصور تقنية غسل المخ وما أشبه؟ الواقع أن هذا هو ما فعلته النصرانية خلال تاريخها الطويل، إلى أن جاء العصر الحديث وطفق الأوربيون يفكرون ويستخدمون عقولهم الزَّنِخَة التى كانت قد أَسِنَتْ بفعل ضغوط الكنيسة وما تمارسه من إرهاب عقلى عليهم، فكانت العاقبة أنهم تركوا النصرانية لمناهضتها أحكام العقل والمنطق والعلم، فظن كاتبنا ومعلّقه أن بمستطاعهما رمى الإسلام والمسلمين بداء النصرانية والنصارى ثم الانسلال عقب هذا دون أن يصيبهما أى تبعة! ألا إن هذا لوهم كبير! ذلك أن دخول "الخَمّام"، يا "خَبِيبى" أنت وهو (بالخاء على طريقة الخواجات)، ليس كخروجه!
ويتبقى زعمه أن علم الآثار يفسر لنا السرّ فى حظر الذهاب على غير المسلمين إلى مكة والمدينة، إذ لا بد أن يكون زوار تينك المدينتين، حسبما يَدَّعِى، عميانا لا يبصرون ولا يفكرون، أَىْ مسلمين مقتنعين بما يقال لهم، وألا يكون عندهم وقت للتفكير إذا ذهبوا إلى هناك، ومن ثم كان لا بد من أن تُفْرَض عليهم شعائر معقدة يؤدونها ثم يعودون على الفور من حيث أَتَوْا دون أن تكون لديهم فرصة لإعمال العقل أو لزيارة الأماكن المحيطة، وهو ما نشاهده فى نفس الظروف عند الأمم الأخرى. وهذا الكلام يؤكد فعلا أن حالة الرجل هى حالة ميؤوسة، لأن معنى كلامه أن المسلمين لو كانوا يعرفون أن بإمكانهم البقاء فى مكة والمدينة بعد أداء الشعائر الحِجّيّة لكانوا قد استعدوا للأمر بإحضار الفؤوس والمكاتل، وهات يا فَحْت عقب انتهاء الشعائر بحثا عن سر شويبس الذى دوّخ المرحوم حسن عابدين (H. A.. هل تذكرونه؟). يا أخى القارئ، هؤلاء ناس تافهون، (أو كما نقول فى العامية: "ناس هايفة") مثل كولين باول، الذى كان يقف فى المؤتمرات الدولية أيام الإعداد لضرب العراق واحتلاله، وهو يتراقص ولا يستقر على قدميه بسبب طوله الذى يجعله كالنخلة المتمايلة، ويظل يردد سخافات وتنطعات لا يضارعها فى السخف والتنطع إلا شخصيته السخيفه المتنطعة هو ورئيسه بوش دون أن يشعر بالخجل، فكنت والله أشعر أنا بالخجل نيابة عنه وأتذكر قول الرسول فى عُيَيْنَة بن حِصْن، إذ وصفه بـــ"الأحمق المطاع"، وأهتف فى داخلى: أين أنت يا رسول الله وأين أصحابك لتؤدبوا هؤلاء الأوباش كما أدبتم هرقل وكسرى؟ فإن أمتنا، حكاما ومحكومين، قد أَضْحَتْ كما كشف الله عن عينك الحجاب فقلت إنها ستكون غثاء كغثاء السيل، وإن الأمم (حتى هندوراس ورواندا والصومال وبنجلاديش (الصومال وبنجلاديش المسلمتين؟ إى والله الصومال وبنجلاديش المسلمتين!) وغيرها من الدول سواقط القيد التى لا يعرف أحد أنها موجودة على الخريطة) سوف تتكأكأ عليها فى حرب الخليج فتنهش لحمها وتمصمص عظامها وهى ميتة الشعور فاقدة الكرامة، وكأنها لا حس ولا خبر، فباءت بلعنة التاريخ والمؤرخين أجمعين! وطائفة كبيرة من بناتها كُلّ هَمّهنّ أن يكنّ مغنيات فى التلفاز والفيديو كليب يتراقصن ملتصقات بالجدران يحككن أردافهن فيها ويُعَرّين سُرَرَهن ويتلوَّيْنَ كالقطط الشبقة، هؤلاء البنات اللاتى أظل أنا وأمثالى نعلمهن فى الجامعة شيئا نافعا فلا نصل معهن إلى حل وكأنهن، كما أقول لهن دائما، قد ركَّبْن فى جبهاتهن صدّادات فولاذية لمنع العلم من الدخول إلى أمخاخهن، أما هنا فى هذا العهر القارح (وهذا ما يَفْرِسنى ويحرق أعصابى، وهنّ ولا كأنهن هنا) فكلهن يا أخى ذكاء وعبقرية وإبداع! خيبة والله العظيم! ثم يظن المصلحون الطيبون أن الشعب سيقف معهم يناصرهم على ما يَدْعُون إليه! فى المشمش يا حبيبى أنت وهو ("حبيبى" هذه المرة بالحاء لا بالخاء لأنى لا أكلّم خواجات)!
وهذا كله لو كان المسلمون جميعا يرجعون دائما إلى بلادهم عقب الحج، إذ الواقع أن كثيرا من المسلمين كانوا يتحركون بطول العالم الإسلامى وعرضه خلال تاريخهم الطويل، ولم يكونوا يعرفون الحدود المصطنعة ولا جوازات السفر التى نعرفها الآن، ولم يكن هناك بترول يجعل أهله يخافون أن يشاركهم فيه غيرهم من فقراء المسلمين (بينى وبينكم: معهم حق!)، وكان كثير منهم يذهب لبلاد الحرمين ويستقر هناك فترة قد تطول، وقد تقصر، وقد تستمر إلى الأبد، وهذا معروف للجميع، فدَعُونا من الجاهلَيْن الفرنسيَّيْن وما يسوِّله لهما جهلهما من خزعبلات سوف يشويهما الله بسببها يوم القيامة ويسوِّيهما على الجنبين حتى ينضجا، وأنتم تعرفون ماذا سيحدث لهما بعد ذلك! ولنترك هذا كله ونأتى إلى الحاضر، أليست السعودية فيها أكبر جالية عربية وإسلامية الآن من الأيدى العاملة والعقول الخبيرة بسبب كِبَر مساحتها وكثرة سكانها؟ أتراهم يعصبون عيون هؤلاء العمال والخبراء كلما مروا بالكعبة ومسجد النبى والمناطق المحيطة؟ أتراهم يأخذون عليهم فى عقود العمل شرطا بألا يحضروا معهم معاول وجواريف وقُفَفًا وغُلْقَانًا حتى لا يُسَهّوهم بالليل وهم نائمون وينكتوا طرقات المدينة لكشف سر شويبس الذى أرهق حسن عابدين أيما إرهاق ثم مات دون أن يصل من ورائه إلى طائل؟ رحمة الله عليك يا حسن يا عابدين! الآن فقط عرفت لماذا كان يمثل دور رجل سعودى فى إعلانات شويبس ويلفظ حرف "الظاء" فى كلمة "عظيم" كما يفعل السعوديون فيفخّمه ويخرج لسانه، ولا أدرى يخرجه لمن! لقد لمحالرجل بعبقريته ما قاله صاحبانا الفرنسيان بعده بعدّة عقود. هكذا ينبغى أن يكون الاستبصار والشفافية الروحية، وإلا فلا! مَرّة من نفسنا نتفوق فيها على الأوربيين فى مسألة عقلية كهذه! فالحمد لله، الذى أحيانى حتى رأيت هذا اليوم وشاهدت بعينى تفوقنا عليهم! وأستطيع الآن من ثم أن أموت وأنا قرير العين. عن إذنكم إذن أموت وأَخْلُص! لا لا، لا تأخذوا الكلام حرفيا! ليس الآن بالضبط، بل بعد أن أنتهى من هذا الكلام الفارغ الذى أكتبه هنا والذى لا معنى له ولا تأثير من ورائه فى أى أحد، اللهم إلا الناس الطيبين الذين لا يتجاوزون عدد أصابع اليدين والذين يراسلوننى من هنا وهناك مباركين ما أقول، فأردد فيما بينى وبين نفسى كلما وصلتنى منهم رسالة على المشباك: مساكين مثلى، كان الله فى عونهم وعونى! وطبعا بعد أن أكون قد انتهيت من هذا الكلام الفارغ ستكونون قد نسيتم استئذانى إياكم أن أموت، ولن تكون هناك مشكلة! ألا يقولون فى الأمثال: "كلام، وابن عَمّه حديث"؟ فهذا من هذا!
والآن بعد أن نسيتم بكل تأكيد حكاية استئذانى إياكم أن أموت وأنا قرير العين، على عادتنا فى بلاد العرب والمسلمين، التى يُنْسَى فيها كل شىء بعد حين ولا ينتظر حتى ينتهى مثلى من مثل هذا الكلام الفارغ، نرجع مَرْجِعَنا إلى...إلى من؟ إلى الطبيب الفرنسى طبعا الذى يذكّرنى بالممثل فؤاد خليل فى دوره الممتع، وهل هناك غيره؟ فماذا قال فى رده على القارئ المجهول؟ قال، لا بارك الله له فى عقله "التَّرَلَّلَِى"، إن المدينة كانت تقع فى قلب الصحراء فى مكان ليس فيه ماء ولا زرع، وإن سكانها العشرين ألفًا (حسبما أحصاهم) لم يكن باستطاعتهم أن يحفروا خندقا يحيط بالبلد كله. ولا أدرى من أين له بأن المدينة المنورة ليس فيها زرع ولا ماء. لقد كانت حرفة سكانها الأساسية هى الزراعة لأنها تقع فى واد خصيب يتوفر له الماء، ولم تكن هى المدينة الوحيدة التى تتمتع بهذه الميزة فى جزيرة العرب، وإلا فكيف ننسى واحاتها الكثيرة، وهى تقع فى قلب الصحراء، ومع هذا كانت عامرة بالماء والزرع؟ بل كيف كان يعيش المكيون، الذين لم تكن مدينتهم فى واد خصيب كالمدينة؟ أتراهم كانوا لا يشربون ولا يغتسلون ولا يطبخون؟ إن الماء موجود، بقدرة الله، فى كل مكان على وجه العموم: سواء من الأنهار أو السيول أو الآبار أو العيون، ولولا هو ما قامت حياة، والجزيرة العربية رغم كل شىء كانت مسكونة بالأحياء والبشر، أم للمؤلف رأى آخر؟ أما العدد أفلم يأته قولنا فى مصر: "العدد فى الليمون"؟ إن المسلمين الآن مليار ونصف تقريبا، وعندهم من الإمكانات والثروات ما لم يكن أجدادهم الأوائل فى بلاد يَعْرُب يحلمون به ولا فى الخيال، لكنهم مع ذلك أعجز من العجز نفسه، حتى لتُضْرَب بهم الأمثال على المذلة والبلادة والتجرد من الإحساس والكرامة، فها هى ذى بلادهم تُغْزَى، ونساؤهم يٌغْتَصَبْن، ورجالهم الأحرار، وهم قلة شاذة بينهم، يساقون إلى السجون وأعواد المشانق، وهُمْ ولا هُمْ هنا، بل كأن الدنيا قد دانت لهم، فهم فى طبل وزمر ولهو (جاءهم لَهْوٌ يُلْهِيهم أكثر مما هم مَلْهِيّون!)، فيما كان هؤلاء الأجداد، رغم هُزَال عَدَدهم وبدائيتهم وتخلف ثقافتهم وفقرهم، ورغم أن أحدا لم يكن فى ذلك الوقت يسمع بهم أو يضعهم فى حساب، كانوا يفتحون البلاد المتناوحة، ويهدمون الإمبراطوريات النَّخِرة، ويؤسسون الحضارات المشرقة بأنوار العقل والإيمان، وكانوا يقولون الكلمة من هنا فتنصت الدنيا لهم فى الحال من هنا ولا تخالف عن أمرهم فى هَسّة، ولم يكن لهم من شىء يعتمدون عليه فى كل هذا الإنجاز المعجز إلا أنهم اتبعوا محمدا وآمنوا بالله وبالقرآن، وكانوا يثقون بربهم سبحانه وتعالى وبأنفسهم ثقة مطلقة، فانطلقوا على بركة الله وصنعوا كل هذا. ثم سواء بعد ذلك أكان لمحمد وجود تاريخى فعلا كما هو الواقع التاريخى الذى لا يمارى فيه إلا الجاهلون، ونزل عليه القرآن من السماء كما نؤمن نحن المسلمين، أم كان هو وقرآنه من صنع العرب فيما بعد كما يقول هذا المهووس بإحداث الزيطات والزمبليطات العِيَالِيّة! كم كان عدد العرب كلهم فى ذلك الحين رجالا وأولادا ونساء وبنات وشيوخا وعجائز لا المحاربين منهم فحسب؟ وماذا كانت أسلحتهم؟ ومن أين لهم بالموارد والإمكانات والخطط والقادة المتخرجين من الأكاديميات العسكرية والسياسية؟ يا أيها الطبيب النفسى ذا العقل الهَلَبُلِّى، أجبنى كيف استطاع هؤلاء المتخلفون القليلو العِدّة والعُدّة، بل الشَّحِيحوها، أن يبلغوا تلك الغايات الخرافية، وفى وقت قياسى لم يسبقهم إليه سابق ولم يلحقهم فيه لاحق، وأنا أقول لك عندها كيف استطاعوا حفر خندق بدائى يناسب ظروفهم وإمكاناتهم ليحميهم من جيش المشركين.
ولا تنس أيها القارئ الكريم أن الخندق لم يكن يحيط بالمدينة كلها كما يتوهم الطبيب الفرنسى، بل تم حفره فقط فى المواضع التى لم يكن فيها جبال ولا حصون ولا بيوت متشابكة ولا حَرّات (والحرات هى أودية الصخور البركانية المتصلة) حسبما قالت الروايات كلها التى وصلتنا، لأن الجبال والحصون والحرات والبيوت المتشابكة تقوم تلقائيا بدور الخندق فى العزل والصدّ. ومن الواضح أن الطبيب الفرنسى المتفكك العقل لا يعرف عن هذه الروايات شيئا، ثم هو رغم ذلك يجد عند نفسه الجرأة لاقتحام الكلام برعونة وغشم وجهل، غير عابئ بشىء ولا مالئ أحد عينيه! ماذا يمكن أن نقول لمثل هذا الصنف من البشر؟ إنه يظن أوربيته كافية لتأهيله للخوض فى كل حديث ولطرق كل موضوع دون أن يعقِّب عليه حسيب ولا رقيب! ويا هناه يا سعده الذى يراه وهو جالس إلى الحاسوب وقد وضع على أذنيه سماعتين، ونزل عليه من السقف لا أدرى ماذا من الآلات، وأحاط به من أمام ومن وراء ومن يمين ومن شمال كذا وكذا من الأشياء التى لم أحققها، وأخذ يتلفت تلفتات سينمائية ثقيلة الظل مثل ثقل ظل أحمد صبحى منصور بالضبط كحَذْوِكَ النَّعْل بالنَّعْل، فذكّرنى بالشاب الهولندى (الظريف لا الثقيل الظل) الذى رأيته فى سوق المشاة وسط البلد بأمستردام ذات يوم ربيعى جميل فى آخر سبعينات القرن الماضى، وكان يضرب على عدد من الآلات الموسيقية فى وقت واحد: فآلة فوق ظهره، وأخرى على بطنه، وثالثة فى قدمه، ورابعة فى فمه، وخامسة مربوطة فى الثالثة، وسادسة لا أذكر الآن أين كان يضعها، وسابعة لا أظنكم من الظلم بحيث تسألوننى بعد كل هاتيك السنين أين كان يضعها ولا كيف كان يعزف عليها، أما الثامنة والتاسعة والعاشرة فأرجوكم أن تتركونى ألتقط أنفاسى أوّلاً حتى أستطيع أن أقول لكم: إننى ما دمت لا أذكر السابعة، فمن الطبيعى ألا أعرف عما بعدها شيئا. ما كل هذه الزِّيطة والزَّمْبَلِيطة يا عم راكان؟ طيب: الولد الأمستردامى، وفَهِمْنا أنه كان يطلب لقمة عيشه من خلال ما يجود به عليه المارة من الجِلْدَرات الفَكّة، ولكنْ أنت ماذا تبغى من كل تلك "الهَلُمّة" التى تزحم بها أستوديوك؟ أما أنا فتفسيرى أنه يريد أن يقنع نفسه بأنه رجل مهم. ولكن هيهات هيهات! ولا تنسَوْا أن تَدْعُوا للأستاذ فؤاد خليل، فلولا الدور المبدع الذى مثّله ما استطعت أن أصل إلى هذا التفسير! بالمناسبة: طبيبنا المتفكك العقل ينكر أن تكون هناك مدينةٌ منوَّرةٌ فى ذلك الوقت، ويؤكد تبعا لمستشرق أحمق آخر (ويبدو أن اليوم هو يوم الحمقى والحماقة! نعوذ بالله من الحمق وأهله!) أن معركة الخندق قد دارت رحاها فى الشام بعد ذلك التاريخ بعدة عقود. لكنْ علىَّ أوّلاً (قبل أن أنسى كعادتى) أن أسوق للقارئ الكريم نص كلام الطبيب فى أصله الفرنسى:
"L'islamologue Alfred-Louis de Prémare (Les fondations de l'islam, Editions du Seuil) établit qu'une bataille s'est déroulée en 683 en Syrie, et non à Médine, ville qui n'existait pas au septième siècle, soit cinquante ans après la mort officielle de "Mahomet".
D'après les légendes islamiques, j'ai calculé que Médine aurait compté vingt mille habitants, soit autant que Paris à la même époque... en plein désert, sans eau et sans agriculture. Creuser un fossé autour relève de la fantaisie".
لكن ما حكاية المدينة المنورة هذه؟ الواقع أن المدينة المنورة ليست هى وحدها التى يشكِّك فيها هذا المجنون، بل مكة والرسول ذاته والمعارك التى خاضتها القوات المسلمة فى ذلك العصر والمواقع التى دارت رحاها فيها أيضا، ولنستمع أولا إلى ما يقوله عن وفاة الرسول عليه السلام وتولى أبى بكر رضى الله عنه الخلافة من بعده:
"Mahomet a été déclaré mort en 632 suite à une tractation entre Abou Bakr et le calife Omar, sans concertation avec Ali, floué alors qu'il dirigeait une armée de la région qui est aujourd'hui l'Irak. Pourtant "Mahomet" donne des ordres en 634, 640, 651, 660, 683, 688, 725, 785, 830, 855".
فالرسول، حسب أوهام طبيبنا، قد توفى سنة 632م بعد اتفاق بين أبى بكر وعمر على تولى الأول حكم المسلمين، على حين كان على بن أبى طالب، طبقا لعلمه اللَّدُنّىّ، يقود الجيوش وقتها بعيدا فى العراق فلم يتم التنسيق معه بل تم خداعه. كما يسخر طبيبنا المتهوس من أن الرسول، رغم وفاته فى 632م، كان لا يزال يصدر الأوامر بعد ذلك لوقت طويل فى الأعوام 640،651، 660، 683، 688، 725، 785، 830، 855م! ترى من أين لكاتبنا كل هذه العبقرية التى لا مثيل لها؟ ما كنت أعرف أن ما يقوله بعض الناس من أن الفرق بين العبقرية والجنون شعرة هو رأى صحيح، حتى قرأتُ هذا الكلام فرأيتُ كيف أن عيار العبقرية قد يزيد حبتين فينقلب جنونا خالصا لا أمل فى الشفاء منه ولو أحضروا لصاحبه خيرة النطاسيين والمعالجين النفسانيين ومحضّرى العفاريت وكاتبى الأحجبة والمعزِّمين! بالله متى كان علىٌّ يقود الجيوش فى العراق عند وفاة النبى؟ وبأية أمارة كان هذا يا ترى؟ لقد كان، رضى الله عنه وكرَّم وجهه، آنذاك فى المدينة مشغولا بتغسيل النبى وتكفينه ودفنه مع غيره من أهله صلى الله عليه وسلم، ولم تكن هناك جيوش إسلامية فى أى مكان فى ذلك الحين، اللهم إلا جيش أسامة بن زيد، الذى كان قد تم تجهيزه للذهاب إلى حدود الشام، إلا أن موت النبى عليه الصلاة والسلام قد أوقفه إلى حين. وبالنسبة للعراق بالذات لم يحدث أن وطئه أى جيش مسلم، بل لم يحدث أى تفكير فى إرسال قوات إلى حدوده المشتركة مع جزيرة العرب فى عهد النبى قط. أما أنه عليه السلام كان يصدر أوامره إلى المسلمين إلى ما بعد وفاته بعد عقود فليقل لى القراء الكرام: كيف كان هذا؟ ومن يا ترى قاله سوى هذا المخبول؟ يقينا إن قائل هذا الكلام ليس له مكان يصلح له إلا الخانكة أو العباسية خَبْطَ لَزْقَ دون إبطاء أو تأخير، لا للمسارعة بتدارك حالته، فهى كما قلنا حالة ميؤوس منها، بل لحماية الناس من خطره، فلربما أقدم على عمل متهور يعرِّض الأمن العام للخطر (أو بتعبير الخفراء عندنا فى القرية: "الإِمْن" بكسر الهمزة، كَسَّر الله ضلوعه كلها ضلعا ضلعا حتى يهمد ويريحنا من هذه الدوشة الكذابة التى يزعجنا بها مثلما تزعجنا دوشة نباح الكلاب بالليل حين تكون فَاضِيَةً لا عمل لها!) فيعضّ طفلا من رجله أو يهارش كلبا ويدميه فينشب فيه الكلب الآخر مخالبه وتصير معركة كلابية حامية وتصبح مشكلة ونقول ساعتها: يا ليت الذى جرى ما كان! إننا هنا أمام سيرة شعبية خرافية كسيرة عنترة، التى تصوره وهو يحارب فارس والحبشة واليمن، ويقود الجيوش الإسلامية، ويقطع الفيافى والقفار إلى الممالك المختلفة متحدّيًا جبابرتها فى وجههم، ولسنا أمام كلام تاريخى متزن يخاطب العقل، وصاحبه من بجاسته وثخانة وجهه يريدنا أن نحفر طرقات المدينة كلها ونجعل عاليها واطئها حتى ينشرح صدره، ثم يتعطف علينا فى نهاية المطاف بالكفر المبين رغم ذلك كله، وبعد خراب بصرة والكوفة وبغداد والموصل والنجف وغيرها كما هو حادث الآن فى العراق على يد قوات "التحرير والإعمار" الأمريكية والبريطانية ومن والاها من أشاوسة حكام العرب والمسلمين الذين لن يكسّبهم ربنا أبدا لا هم ولا شعوبهم البليدة الذليلة التى تستزيد بل تستعذب إهاناتهم لها واستبدادهم بها وسجنهم وقتلهم إياها!
وهذا الرجل يترك حقائق التاريخ ويذهب فيفترض أشياء لا يمكن أن تكون صحيحة أبدا ثم يبنى فوقها ما يريد الوصول إليه من نتائج يرى أن من شأنها التشكيك فى تلك الحقائق التاريخية. فعلى سبيل المثال فمكة عنده كانت، فيما يبدو ("فيما يبدو": لا حظ!) حيًّا من أحياء دمشق، لكن لماذا؟ الجواب، حسبما يقول، هو أن كلمة "مكة" تعنى بالآرامية: "مدينة منخفضة". ثم يمضى مؤكدا "أننا الآن قد أصبحنا نعرف أن المسلمين الأوائل، شأنهم شأن القَرَائين الأوائل (جمع "قرآن")، تم اختراعهم فى الشام، وليس فى جزيرة العرب"!:
" Le mot la mecque est araméen syrien, et signifie ville basse, désignant probablement un quartier de Damas. On sait maintenant que les premiersmusulmans, comme les premiers corans, et la vie de Mahomet, furent inventés en Syrie, et non en Arabie...La Mecque n'existait pas, car on n'a jamais vu des milliers d'habitants s'installer dans un désert aride sans eau ni cultures".
خلاص: لقد أبرم سيادته التاريخ إبراما وأصدر فرماناته بأن مكة ليست من مدن جزيرة العرب بل من مدن الشام! ولا يستطيع المتضرر أن يلجأ إلى أى قضاء بعد هذا القضاء المبرم الذى قضاه صاحبنا! فانظر بالله عليك أيها القارئ كيف يُكْتَب التاريخ، وكيف يريد بعض الناس أن يحكّموا أهواءهم المجنونة فى تغيير حقائقه، وكيف يريدوننا أن نتابعهم على هذا التنطع، وإلا كنا متخلفين! ناشدتكم الله يا قرائى الكرام، لو كانت مكة حيًّا من أحياء دمشق، فأين ذهب ذلك الحى؟ ولماذا سكت الدمشقيون عن هذا التزييف الجلف الذى لم يحدث مثله فى التاريخ، وبخاصة أنه يسلبهم الشرف المتمثل فى أن بلادهم هى مركز الإسلام ومصدره؟ وكيف صمت أحفاد القرشيين، والأمويون منهم بالذات، على ما قالته أقلام المؤرخين وكتب السيرة المزيفة عن أجدادهم وعن معاداتهم للدعوة الجديدة مما يشهّر بهم ويفضحهم فى كل أرجاء العالم؟ وأين ذهب الرومان الذين كانوا يحتلون بلاد الشام فلم ينبّهوا العالم إلى هذا التزييف الوقح الذى مارسه العرب والمسلمون، على الأقل من باب الانتقام والحرب المعنوية والدعائية بعد أن خسروا الحرب العسكرية والسياسية؟ ومعروف أن الشوام لم يسلموا كلهم، بل بقى منهم حتى الآن كثير من النصارى واليهود، فكيف يسكتون على مثل تلك الفعلة العجيبة، وهى فرصة لفضح القوم الذين فتحوا بلادهم وأَتَوْهم بدينٍ غير الدين الذى يعتنقونه، ولسان غير السان الذى كانوا يتكلمونه؟ ولماذا لم يتكلم ويصدع بالحقيقة واحد مثل ثيوفان الكاتب البيزنطى الذى أتى بعد عصر الرسول ببضعة عقود ليس إلا وأخذ على عاتقه محاربة الإسلام بدلا من نسبة الأكاذيب إلى الرسول الكريم وأصحابه على عادة المبشرين؟ ترى هل من الممكن أن يتم تزييف شىء مثل هذا ثم تسكت الدنيا كلها عنه فلا تتكلم ولا تعترض أو لا تبدى على الأقل شكًّا، إلى أن هلّ علينا الطبيب الفرنسى المأفون بعد أربعة عشر قرنا من الزمان فعدل الوضع المائل، اعتمادا على ماذا؟ اعتمادا على أوهام ما أنزل الله بها من سلطان! ثم ما دخل المعنى الذى يدعيه، صوابًا أو خطأً، لكلمة "مكة" فى الآرامية فى أن تكون تلك المدينة حيًّا فى دمشق لا مدينةً فى جزيرة العرب؟ إن كلامه يوحى بأن كلمة "مكة" ليست عربية، وهو سخف آخر من سخافات الرجل الذى من الواضح أنه لا يفقه شيئا بالمرة فى موضوعنا، بل ينقل من كتب بعض المستشرقين ما يوافق هواه دون عقل أو فهم! فالآرامية والسريانية والكلدانية والأشورية والعبرية والحبشية...كل هذه اللغات، مَثَلها مَثَل العربية، لغاتٌ ساميّة، بالضبط مثلما نقول إن الفرنسية والطليانية والإسبانية والبرتغالية هى لغات لاتينية، أىْ لغات تفرعت من اللغة الأم واستقلت بنفسها. وعلى هذا فالقول بأن هذه الكلمة الموجودة فى لساننا العربى أو تلك ليست عربية بل سريانية مثلا أو آرامية هو فى الواقع كلام يُقْصَد به التلبيس على القارئ العادىّ الذى لا يعرف شيئا عن الموضوع، إذ ليس هناك أى دليل على أن ذلك صحيح، فضلاً عن أنْ ليس هناك من معنًى لأن تُخْتَصّ العربية دون أخواتها الساميات بالأخذ عنهن بدلا من القول المنطقى العاقل بأنها تشتمل على هذه الألفاظ كما تشتمل عليها أخواتها. والغريب أن المستشرقين عادةً لا يفعلون العكس، فتراهم لا يقولون باستعارة اللغات السامية الأخرى شيئا من العربية. والسبب فى هذا وذاك هو الرغبة فى التحامل على العرب والمسلمين لا غير، وبخاصة إذا وضعنا فى الاعتبار أن بعض علماء الساميات يَرَوْن فى اللغةِ العربيةِ اللغةَ الساميّةَ الأُمَّ التى تفرعت منها الأكادية والحبشية والعبرية...إلخ! ومرة أخرى نقول: ترى ما دخل المعنى الذى يدّعيه، صوابًا أو خطأً، طبيبنا المضطرب الفكر لكلمة "مكة" فى الآرامية فى أن تكون تلك المدينة حيًّا فى دمشق لا مدينة من مدن جزيرة العرب؟ والعجيب أنه يرجع إنكاره وجود مكة إلى أنها تقع فى وادٍ جديب غير ذى ماء ولا زرع. أفنكذّب إذن أقاربنا ومعارفنا وكل المصريين والعرب والمسلمين وكل الكتّاب والرحالة من مسلمين وغير مسلمين ممن زاروا مكة قبل توظيف شطر من أموال النفط فى تحلية ماء البحر الأحمر لسكانها ولسائر أهل السعودية والخليج كله عموما، ونقول لهم: وإِنِنْ! مهما قلتم لنا عن مكة فليس لمكة وجود! لقد نسى المجنون أن زمزم كانت ولا تزال هناك طول الوقت يشرب الناس ويستمدون حاجاتهم الأخرى من مائها فتكفيهم هم وضيوف الرحمن بحمد الله. وهذا أمر قد شهد به المستشرقون الذين استطاعوا الاندساس بين الحجيج والتظاهر بأنهم مسلمون وكتبوا عن البلد الأمين. وحتى بعد أن توفر لها ماء البحر المحلَّى فلا تزال المنطقة المحيطة بها واديا غير ذى زرع. وما زال الناس كذلك يقطنونها ويحبون العيش فيها حتى الآن رغم شدة حرارتها، وسيظلون يفعلون ذلك إلى ما شاء الله. وعلى أى حال فليس العيش فيها بالصعوبة التى عليها الحياة فى مناطق الإسكيمو ولا بواحد على المليون منها، ومع ذلك فتلك المناطق تعجّ بالسكان ويحبها أهلها كما يحب أهل كل بلد بلدهم! إننى أشعر، وأنا أوضّح سخف فكر هذا الرجل ورقاعته، وكأننى أمام "عَبْعَاطِى البيروقراطى" يطالبنى بإثبات أننى أنا إبراهيم عوض الواقف حياله بشحمى ولحمى وعظمى وكظمى لا أزال حيا أُرْزَق ولم أمت! شىء يبدو فى منتهى السهولة، غير أنه مع "عَبْعَاطِى أفندى" صعبٌ مُرّ الصعوبة! لقد فات ذلك المخبول أن الأصل فى الأخبار عموما أنها صادقة ما لم يقم دليل على عكس ذلك أو يَحُكْ فى النفس شىء مما سمعتْه، فعندئذ يشك الإنسان فيما بلغه، وحقّ له أن يشك. فما الذى فى الخندق أو فى وجود مكة أو المدينة مما يبعث على الريبة؟ لقد كان أحرى بهذا المجنون أن يذهب فيقرأ أولا قبل أن يتهور كل هذا التهور ويقترح تلك الاقتراحات النيرونية المسعورة. ألم يبلغه ما قاله الشيخ الصوفى فاخر بن فاخر، رضى الله عنه وأرضاه، فى فلم "اللص والكلاب" لسعيد مهران: "توضَّأْ واقرأ"؟ يقصد قراءة المصحف. لكننا لا نطلب منه أن يتوضأ، وكذلك لا نطلب منه أن يقرأ المصحف، فمثله لن يطهر أبدا حتى لو اغتسل بكل ما فى البحر والنهر من ماء، ومن ثم لا يجوز له أن يمسك بالكتاب المجيد، إنما نطلب منه أن يقرأ التاريخ وألا يعتمد على تشويشات مخه، فما هكذا يؤخذ العلم يا سليل الحضارة الغربية والتنوير الفرنسى الذى يصدّعنا به الأفاكون الأفاقون من أبناء جلدتنا، خيَّبهم الله!
ولكنْ فلنترك هذا كله ونسأل: ما الذى يريد منا هذا الرجل أن نفعل بمكة (مكة التى فى جزيرة العرب، وليست مكة الشامية التى لا وجود لها إلا فى ذهنه المتفكك)؟ أننكتها هى أيضا، لا للبحث هذه المرة عن خندق، بل لنمحوها مَحْوًا كى يتسق الوضع الموجود على أرض الواقع مع أوهام طبيبنا المضطرب الفكر والعقل؟ ذلك أنه لا يصح أن يقع كلام أحد الأوربيين الأرض! لكنْ، يا أخى الكريم، نحن نعرف أن عبد الفتاح القصرى حين نظرت إليه زوجته الفارعة الضخمة شَزْرًا فى فلم نورماندى تُو وقالت له بصوتها الحيّانى المهدّد وقد كشفت ذراعيها المكتنزتين: "حنفى؟" قد تراجع فى الحال عن عنترياته وقال لها وهو يطامن من انتفاشته، ويخفض صوته، ويطأطئ رأسه، وعيناه المتخاصمتان الظريفتان تنظر كل منهما فى اتجاه: "خلاص! هذه المرة فقط تنزل كلمتى الأرض!"، أفيكون إذن كلام الطبيب الفرنسى أعزّ علينا وعلى التاريخ وحقائق التاريخ من كلام سى حنفى المصرى؟ فلينزل إذن كلام سى حنفى الفرنسى الأرض، بل ليُمْسَحْ به (وبصاحبه معه) الأرض، ولْيشرب هو ومن يتشدد له من البحر، بل من البحرين: الأبيض والأحمر على رأى عبد الناصر، ولكن دون نكسة ناصرية بمشيئة الله ("نكسة" لا هزيمة: خذوا بالكم!).
هل يمكن أن يتصور عاقل أنه لم تكن هناك فى بلاد العرب قبل الإسلام مدينة اسمها مكة، ثم نبتت هكذا نبتا عفاريتيا بعده، ثم لم يبد أحد دهشته (وبخاصة من سكانها الجدد الذين لم يكن لهم قبل ذلك وجود) من هذا التراث الغزير الهائل الذى يدور حولها شعرًا ونثرًا وتاريخًا ودينًا وأنسابًا والقائل بأنها طول عمرها كانت موجودة فى جزيرة العرب؟ أترى الذين أنشأوا تلك المدينة وأَتَوْا بالناس ووضعوهم فيها كما توضع البلاليص فى أماكنها دون أن يؤخذ لهم رأى قد ألزقوا لاصقًا على أفواههم إلى أن انطمست ذاكرتهم ولم يعودوا يعرفون شيئا عن أصلهم أو فصلهم ولا عن أصل مدينتهم أو فصلها، فعند ذلك رفعوا اللاصق وسمحوا لهم بالكلام؟ وهل فعلوا مثل ذلك مع سكان الأرض جميعا بما فيهم النصارى واليهود الذين كانوا يعيشون فى جزيرة العرب قبل الإسلام ثم تم إجلاؤهم عنها بعده؟ لماذا لم يفتح أحد من هؤلاء فمه فيفضح المستور ويكشف الزيف والتزييف؟ وماذا نقول فى بطليموس الجغرافى اليونانى القديم الذى تكلم عنها وسماها "مَكُرَبا: Macoraba" (كتاب وليم موير عن سيرة الرسول الذى سلف ذكره/ صxc، ومادة "Mecca" فى الطبعة الأولى من "The Encyclopaedia of Islam")؟ وماذا نصنع مع ما قاله هيرودوت عن اللات، إحدى الآلهة الوثنية التى كان لها صنم فى كعبة مكة قبل الإسلام (وليم موير/ صcii- ciii)؟ وهناك أيضا كتاب للمستشرق الهولندى دوزى يحاول أن يثبت فيه وجود بنى إسرائيل فى مكة (التى نعرفها) خلال عصورها الجاهلية عنوانه: "Die Israeliten zu Mekka"، كما كتب فى نفس الموضوع المستشرق البلجيكى لامنس كتابا عنوانه: "Les Juives a la Mecque"، وهو ما يدل على أن وجود مكة هناك فى ذلك الحين لا يواجه أى شك فى نفس ذينك المستشرقين. بل إننا لم نسمع بأحد سواهما من المستشرقين أو غير المستشرقين ممن يؤبه بكلامهم أو لا يؤبه يقول إن مكة لم يكن لها فى إقليم الحجاز أثناء الجاهلية وجود! ثم لماذا يفعل العرب بعد الإسلام هذا كله؟ وهل يُتَصَوَّر أن يفكر الحكام العرب بعد الإسلام، وبعد أن أَضْحَوْا يسبحون فى بحور الغنى والترف، فى إنشاء مدينة مثل مكة فى قلب الجبال والصحراء حيث يشحّ الماء (على أساس أن زمزم غير موجودة بناء على فرضيته الرذيلة مثله) وحيث تنعدم الزراعة والصناعة؟ ثم كيف يَرْضَوْن بعد ذلك كله، وهم المسلمون، أن يُنْسَب لآبائهم زورا وبهتانا أنهم كانوا مشركين يعبدون الأصنام والأوثان وأنهم حاربوا القرآن والرسول الذى أتاهم به وحاولوا القضاء عليه وعلى دعوته، بل وصل الأمر بهم أن فكروا يوما فى قتله والتخلص منه غدرا وغيلة؟ ومن المجنون الذى سولت له نفسه بالانتقال إلى مثل تلك المدينة دون أن يكون هناك جاذب من أى نوع يَهْوِى بفؤاده إليها حتى ولا ذكريات الطفولة والصبا فيها وكونها موطن الأجداد؟ باختصار لا يوجد سبب واحد، كما رأينا، يجعلنا نصدق هذا الهراء الجنونى، فى الوقت الذى تتضافر كل الدواعى لرفضه والسخرية من عقل صاحبه. ومع هذا فلا يستغربنّ القراء، فالغربيون أصحاب باع طويل فى لَىّ الحقائق وإنكار ضوء الشمس فى عِزّ الظهر الأحمر، وما فِرْية الأسلحة النووية العراقية عنا ببعيدة، فقد دمروا بلدا كاملا وأبادوا من سكانه مئات الألوف بناءً على هذه الكذبة المجرمة دون أن يطرف لهم جفن، وما زالوا ماضين فى عملهم "التحريرى الإعمارى" بمساعدة الأراذل من حكام المسلمين وشعوبهم البليدة النتنة مثلهم على رأى المثل العربى: "وافَقَ شَنٌّ طَبَقَةَ". فماذا تكون كذبة سى حنفى الفرنسى عن مكة بالقياس إلى ما فعله الأمريكان والبريطان فى العراق؟
وبالمناسبة فقد وقعتُ على الفقرة التالية فى مادة "مكة" بالـــ"ويكيبيديا: الموسوعة الحرة" الموجودة على المشباك، وهى إذا صحت (ولا أظن إلا أنها صحيحة، وإلا لم يسمح بنشرها المشرفون على هذه الموسوعة العالمية) كانت كفيلة وحدها بنسف كل هذه الرقاعات، إذ لا يمكن أن تكون المواصفات الجغرافية التى يؤكد الكاتب أنه قد اكتشفها فى موقع تلك المدينة المكرمة على الخريطة قد أتت عن طريق المصادفة حين طَقّ فى أدمغة حكام المسلمين أن يبنوها بالمخالفة لكل الذرائع والأسباب حسبما وضّحنا، بل لا بد أن يكون ذلك من تدبير الخالق العليم منذ بدايتها الموغلة فى التاريخ. تقول الفقرة المذكورة: "الاكتشاف العلمي الجديد الذي كان يشغل العلماء والذي أعلن في يناير 1977 يقول: إن مكة المكرمة هي مركز اليابسة في العالم، وهذه الحقيقة الجديدة استغرقت سنوات عديدة من البحث العلمي للوصول إليها، واعتمدت على مجموعة من الجداول الرياضية المعقدة استعان فيها العلماء بالحاسب الآلي. ويروي العالم المصري الدكتور حسين كمال الدين قصة الاكتشاف الغريب فيذكر أنه بدأ البحث وكان هدفه مختلفا تماما، حيث كان يجري بحثا ليعد وسيلة تساعد كل شخص في أي مكان من العالم، على معرفة وتحديد مكان القبلة، لأنه شعر في رحلاته العديدة للخارج أن هذه هي مشكلة كل مسلم عندما يكون في مكان ليست فيه مساجد تحدد مكان القبلة، أو يكون في بلاد غريبة، كما يحدث لمئات الآلاف من طلاب البعثات في الخارج، لذلك فكر الدكتور حسين كمال الدين في عمل خريطة جديدة للكرة الأرضية لتحديد اتجاهات القبلة عليها وبعد أن وضع الخطوط الأولى في البحث التمهيدي لإعداد هذه الخريطة ورسم عليها القارات الخمس، ظهر له فجأة هذا الاكتشاف الذي أثار دهشته. فقد وجد العالم المصري أن موقع مكة المكرمة في وسط العالم. وأمسك بيده برجلا وضع طرفه على مدينة مكة، ومر بالطرف الآخر على أطراف جميع القارات فتأكد له أن اليابسة على سطح الكرة الأرضية موزعة حول مكة توزيعا منتظما. ووجد مكة في هذه الحالة هي مركز الأرض اليابسة. وأعد خريطة العالم القديم قبل اكتشاف أمريكا وأستراليا وكرر المحاولة، فإذا به يكتشف أن مكة هي أيضا مركز الأرض اليابسة، حتى بالنسبة للعالم القديم يوم بدأت الدعوة للإسلام. ويضيف العالم الدكتور حسين كمال الدين: لقد بدأت بحثي برسم خريطة تحسب أبعاد كل الأماكن على الأرض، عن مدينة مكة، ثم وصلت بين خطوط الطول المتساوية لأعرف كيف يكون إسقاط خطوط الطول وخطوط العرض بالنسبة لمدينة مكة، وبعد ذلك رسمت حدود القارات وباقي التفاصيل على هذه الشبكة من الخطوط، واحتاج الأمر إلى إجراء عدد من المحاولات والعمليات الرياضية المعقدة بالاستعانة بالحاسب الآلي لتحديد المسافات والانحرافات المطلوبة، وكذلك احتاج الأمر إلى برنامج للحاسب الآلي لرسم خطوط الطول وخطوط العرض لهذا لإسقاط الجديد. وبالصدفة وحدها اكتشفت أنني أستطيع أن أرسم دائرة يكون مركزها مدينة مكة وحدودها خارج القارات الأرضية الست، ويكون محيط هذه الدائرة يدور مع حدود القارات الخارجية. مكة إذن، بتقدير الله، هي قلب الأرض، وهي بعض ما عبر عنه العلم في اكتشاف العلماء بأنه مركز التجمع الإشعاعي للتجاذب المغناطيسي".
margin: 0cm 0cm 0.