من كتاب الشيخ مرسى إلى جامعة أكسفورد
إبراهيم عوض
وكنا فى الوقت المذكور نستذكر على سطح بيت محمود نحلة بين أكداس القش والحطب، كما فى كل بيوت القرية آنذاك، استعدادا لامتحان السنة الثالثة الإعدادية بالمعهد الدينى بطنطا، وكان اليوم يوم الثلاثاء الذى يسبق يوم الامتحان بثلاثة أيام لا غير، فوجدت ذلك الصندوق هناك، فأخذتُ بفضول صبى صغير أفتش فى محتوياته، فخرجت يدى بكتاب منزوع الصفحات الأولى والأخيرة، فأمسكته أنظر فيه فشدنى، فتركت الاستذكار وانهمكت فى مطالعة الكتاب لا أستطيع أن أحول عنه عينى إلى أن انتهيت من صفحاته المتاحة عند المغرب تقريبا، مضيعا هكذا يوما كاملا دون استذكار، تاركا الامتحان لربٍّ اسمه الكريم كما نقول فى قريتنا تعبيرا عن الثقة فى الله والتوكل عليه. ولم يخيب الرب الكريم ظنى. أما بقية حكايتى مع "غادة كربلاء" فهى أننى ظللت متشوقا لمعرفة مصير أبطالها، إلى أن كنت بعد ذلك بأكثر من عام فى دكاننا ذات ضحى، فرأيت شابا مارا أمامى فى الشارع كان معنا فى الكُتَّاب، هو الأخ أحمد الصعيدى، وكنت أحبه لظرفه وهدوء طبعه، وكان قد ترك الكُتَّاب منذ وقت طويل واشتغل حلاقا كأبيه وإخوته، فأبصرت فى يده كتابا دفعنى فضولى القاتل إلى سؤاله عنه، إذ كان من الواضح أنه رواية من روايات الهلال، فإذا به "غادة كربلاء". ترى ماذا كان ذلك الشاب يفعل به؟ بل أَنَّى له به أصلا؟ لا أدرى. لكنى أدرى أننى استعرته منه وأكملت قراءة الرواية بعد أكثر من عام. ما رأيك أيها القارئ فى هذه الفوضى الشاملة التى كنا نتحرك بها فى دنيا المطالعة؟ لكن لا تنس من فضلك أن الغزَّالة تَغْزِل برجل حمار! ولا تنس قبل ذلك ما قاله رسولنا الكريم من أن "التدبير نصف المعيشة". ومن الكتب التى قرأتها فى بيت صديق الصبا محمود نحلة أو استعرتها منه عدد من سلسلة "المكتبة الخضراء"، ومنها قصة "البجعات السبع"، التى تألمت وأنا أقرؤها بسبب ما وقع على بطلاتها الطيبات من سحر غشوم ظالم.
وأذكر هنا أننى كنت مفتونا بروايات جرجى زيدان عن تاريخ الإسلام وأصدّق ما يرد فيها من وقائع تصديقا مطلقا غير دار أن الرجل، كما لاحظ نقاده، كان يدس السم فى العسل. وبلغ من تأثرى الشامل بما تقوله رواياته أننى مثلا، حين فرغت من رواية "العباسة أخت الرشيد"، وكانت تدور حول تزوج العباسة سرا بأحد البرامكة وإنجابها منه ولدين دون علم أخيها الخليفة، الذى ما إن عرف بالأمر حتى قتل الزوج والطفلين جميعا، قد كتبت على ظهر إحدى الصور الداخلية بالرواية كلاما غاية فى القسوة فى حق الرشيد وَسَمْتُه فيها بالتوحش وانعدام الإنسانية. ثم انصرمت الأعوام، وتخصصت فى النقد الأدبى، وفى القصصى منه بالذات، فكتبت فى الرسالة التى حصلت بها على درجة الدكتورية من أكسفورد أنتقد صنيع زيدان وأفند مزاعمه الكاذبة فى أن رواياته هذه لا تختلف فى شىء عن كتب التاريخ الموثوقة سوى أنها تحتوى على قصة غرامية لا دخل لها فى أحداث القصة ولا فى صور شخصياتها، مبينا أن ما يقوله لا يمكن أن يكون صحيحا لا نظريا ولا واقعيا.
أيضا من مصادر الحصول على الكتب فى تلك الأيام الفقيرة مكتبة الوحدة المجمعة، وكان يشرف عليها الأستاذ محمد صالح، رحمه الله، وهو جار لنا، ونعرفه جيدا، وكنت أتردد على بيتهم، بل كان يعطينا بعض الدروس الخصوصية قبيل وفاة والدى، الذى كان يجهزنى أنا وأخى لإرسالنا إلى طنطا: أنا إلى المدارس، وهو إلى الأزهر أيام كان الأستاذ صالح طالبا فى كلية دار العلوم. وأذكر من الكلمات التى تعلمتها ودخلت معجمى اللغوى أثناء تلقينا تلك الدروس الخصوصية كلمة "يُدْعَى" بمعنى "يُسَمَّى"، التى قرأتها فى موضوع من موضوعات القراءة عن ولد إنجليزى يدعى: جون. لقد كانت معرفتى بهذه الكلمة بمثابة فتح. وقد ظننتُ أن الأستاذ محمد صالح سيكون سهلا فى إعارتنا ما نشاء من الكتب، إذ لم نكن نعرف أن هناك لوائح وقوانين تنظم المسألة وتحدد عدد الكتب التى يجوز أن يستعيرها الشخص فى كل مرة. لكنه كان يخيب ظنى دائما بإصراره على أن أنتهى من الكتاب الذى أستعيره وأعيده أولا حتى يمكنه إمدادى بكتاب آخر. وهأنذا الآن أضحك وأنا أكتب هذا الكلام. لقد كنت أستغرب من تصرفه غير المفهوم لى فى ذلك الوقت، إذ ما الذى يضيره لو أعطانى المكتبة كلها دفعة واحدة؟ ولا حاجة على الإطلاق. لقد كنت أرى أنه يحبِّكها دون داع.
وقد تعرضت أنا أيضا لموقف مثل هذا حين كنت معارا إلى جامعة قطر منذ عدة سنوات، إذ كانت الطالبات يردن، ككل طلاب الخليج وطالباته، الحصول على الأَلِف، أى على تقدير "الامتياز" بأية طريقة. وكن يبدين استغرابهن لأننا لا نستجيب لرغبتهن فيقلن: ما الذى يضيركم فى أن تريحونا؟ فكنت أقول لهن ضاحكا: لو فعلنا ذلك لرفتتنا الجامعة وعُدْنا بفضيحة إلى بلادنا. إلا أن البنات البجحات الظريفات كن يقمن بهجوم مضاد قائلات إن الجامعة لن تفعل هذا أبدا. وما عليكم إلا أن تحققوا لنا ما نريد، ولسوف تَرَوْن أنه لن يحدث أى شىء. فكنت أقوم بدورى بهجوم مضاد على هذا الهجوم المضاد قائلا: طبعا بعد أن تكون بصرة قد خربت، فحصلتن أنتن على الألف، ورحنا نحن فى أبو نكلة. وأرجو، أيها القارئ العزيز، ألا تسألنى عن "أبو نكلة" هذا، فقد حفظتها هكذا بمعنى أننا سنروح فى داهية، والسلام.
المهم أننى قرأت من مكتبة الوحدة المجمعة بالقرية بعض مسرحيات محمود تيمور، وكتاب "هارون الرشيد" لأحمد أمين (طبعة كتاب الهلال الأخضر الذهبى)، وكتاب "دور القرآن فى بناء المجتمع" للشيخ محمود شلتوت، الذى أطلعنى فى تلك الفترة الباكرة من حياتى على الجانب الاجتماعى والحضارى من الإسلام، ذلك الذى لا يعرف عنه معظم المسلمين الآن إلا أنه صلاة وصيام ولحية وحجاب وتقصير جلباب، ودمتم، حتى إننى، حين أصدرت منذ نحو سنتين كتابى: "الحضارة الإسلامية- نصوص من القرآن والحديث ولمحات من التاريخ"، وألححت فيه على الجوانب الحضارية فى ديننا العظيم من علم وعمل وإتقان ولياقة وجمال ونظام وإبداع وحرص على الوقت والتدبير، قد فوجئت بطالبة تأتينى إلى مكتبى وتقول لى تعبيرا عن دهشتها وفرحتها إنها قرأت الكتاب وقرأه معها أخوها وأختها وأمها، فكان تعليقهم جميعا أن أحدا لم يخبرهم من قبل بأن الإسلام هو هذا. وأتصور أن تأليفى ذلك الكتاب قد جاء، ضمن أسباب أخرى، تأثرا غير واع بكتاب الشيخ شلتوت الصغير الجميل الذى وقع فى يدى وأنا لا أزال طالبا فى المرحلة الإعدادية.
أما المرحلة الثانوية فقد قضيتها فى المدرسة الأحمدية بطنطا. وجَدَّتْ فى حياتى أشياءُ ينبغى التوقف إزاءها قليلا: من ذلك أننى ألفيت نفسى زميلا لطلاب آتين من مدرسة القديس لويس حيث تعلموا مقرراتهم المدرسية باللغة الفرنسية، ولم تكن مجرد مادة كبقية المواد كما هو الأمر فى حالتى. أى أن فرنستيهم أحسن من فرنسيتى بمسافة واسعة جدا. فإذا أضفنا إلى هذا أننى لم أدرس كل مقرر الفرنسية الذى درسه نظرائى فى المدرسة الإعدادية، بل درست فقط نصف هذا المقرر اتضح لنا كيف كان وضعى الحرج بين هؤلاء الزملاء. ذلك أن الأزهر، حين أَدْخَلَ اللغات الأجنبية فى المرحلة الإعدادية، كنت أنا فى الفرقة الثالثة. ولما كانت سنوات الدراسة بالأزهر فى تلك المرحلة أربعا فقد قسموا المقرر بحيث تأخذ كل سنة ثلثى ما يأخذه طالب المدرسة فى العام الواحد. ولما كانت هذه أول سنة ندرس فيها الفرنسية كان نصيبى أنا وزملائى طلاب الفرقة الثالثة ثلثى مقرر السنة الأولى الإعدادية بالمدارس، وحين انتقلنا إلى الفرقة الرابعة درسنا الثلث الباقى من مقرر الفرقة الأولى مع الثلث الأول من مقرر الفرقة الثانية بالمدارس. ولا تنس، أيها القارئ الكريم، ما قلته لك من أنه كانت هناك خمسة دروس لم يكن الأستاذ قد شرحها لنا فى الفرقة الرابعة واستذكرتها أنا وحدى دون الاستعانة بأى شخص أو شىء آخر.
من هذا كله يتبين الموقف الصعب الذى وجدت نفسى فيه بالنسبة لمادة اللغة الفرنسية عندما انتقلت إلى الأحمدية الثانوية. إلا أن الله كان لطيفا بى، فلم أحس أننى أقل من زملائى المشار إليهم، بل كنت إلى حد ما من الطلاب المتميزين. والبركة فى الثقة التى زرعها فىَّ والدى وأنا طفل صغير، والتى قواها ثناء بعض زملائى على نزعتى الأدبية وكتاباتى الأولى الساذجة التى كانوا، كرما منهم وعطفا، يَرَوْن فيها موهبة عظيمة تستحق الإشادة، بارك الله فيهم. على أننى، حين ظهرت نتيجة الامتحان آخر العام، كان ترتيبى السابع على المدرسة. وهذا أسوأ ترتيب حصلت عليه طوال حياتى الدراسية. لكن فى العامين التاليين كنت الأول على الشعبة الأدبية، بل إننى فى امتحان الثانوية العامة كنت الأول على محافظة الغربية، وهو ما آلمنى أشد الألم، إذ كنت أتطلع إلى أن أكون بين أوائل الجمهورية.
وقد تبين لى السبب فى تأخرى عما كنت أطمح إليه، إذ كنت أكتب موضوع الإنشاء الفرنسى من عقلى لا أحفظ له شيئا. وبطبيعة الحال كنت أكتب الفرنسية على طريقة "إنجليزى يا مرسى؟" أو بالأحرى: "فرنساوى يا خِلّ؟". زد على هذا أننى أهملت التراجم القصيرة التى كانت توجد قبل كل نص من نصوص الأدب الفرنسى للتعريف بكاتبه، ظنا منى أنه أمر غير مهم. فلما سألونا فى الامتحان أن نعرِّف بألفونس دوديه صاحب النص الذى امتحنونا فيه لم أستطع أن أقول شيئا، مع أن الأمر لم يكن يتطلب أكثر من حفظ ثلاثة أسطر تقريبا عن كل مؤلف، واكتفيت بتلخيص ما كنت قرأته فى رواية له درسناها ذلك العام باعتبارها ترجمة له بمعنى من المعانى. وبهذا نقصت درجتى فى الفرنسية، وكان هذا هو السبب فى عدم حصولى على أى مقعد بين العشرة الأوائل، وإن كنت أظن أن لى واحدا بين العشرة الثوانى. ولعل مجىء ترتيبى الأول على طلاب الجمهورية فى مادة اللغة العربية فى ذلك العام قد عوضنى بعض التعويض عن عدم حصولى على ما كنت أطمح إليه.
إلا أننى لم أعلم بذلك إلا فى منتصف العام حين ذهب، لمقابلة الرئيس جمال عبدالناصر فى احتفال عيد العلم فى تلك السنة والحصول على جوائز التفوق، أصدقائى من أوائل الجمهورية الذين كنت أزاملهم فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية قبل أن أتركها بعد ثلاثة أيام ليس إلا إلى قسم اللغة العربية بآداب القاهرة، قسم المشايخ، وهو ما كان مثار لغط بين طلاب المدينة الجامعية عرفت به يوما حين كنت فى مطعم المدينة أتناول طعامى وجلست كالعادة على مائدة مع طالب آخر. وكالعادة أيضا أخذنا نتحادث، وجرنا الكلام إلى تحويلى لأوراقى من كلية الاقتصاد إلى كلية الآداب، فصاح رفيق المائدة: إذن فأنت الطالب الذى ترك الاقتصاد إلى اللغة العربية؟ يريد أن يقول: إذن فأنت الطالب المجنون الذى ترك كلية السفراء إلى كلية التُّرَبِيّة؟ وبلعتها ضاحكا وأنا أقول: نعم أنا هو!
ما علينا من هذا الاستطراد الذى لا أدرى كيف أتخلص منه، وبالذات فى ذكريات كهذه لم أستعدَّ لها كما ينبغى، بل أترك نفسى تسجل ما يَعِنّ لها دون ترتيب أو تَعَمُّل. والبركة فى الأستاذ طارق منينة أحد المشرفين على موقع "ملتقى أهل التفسير"، الذى طَقَّتْ فى دماغه أن يحاورنى فى بعض الشؤون المتعلقة بمسيرتى الفكرية، وبخاصة خلال إقامتى فى بريطانيا أدرس للحصول على درجة الدكتورية، فطَقَّتْ فى دماغى أنا أيضا أن أكتب ما تقرؤه الآن أيها القارئ العزيز بعُجَره وبُجَره من غير أية صنفرة. المهم أن زملائى، حين عادوا من مقابلة الرئيس وتسلم الجوائز، أخذوا يهنئوننى على نحوٍ خِلْتُ معه أن المسؤولين اكتشفوا فجأة، وبعد فوات الأوان، أننى واحد من العشرة الأوائل. إلا أنهم شرحوا لى الوضع، وهو أنهم قرأوا فى الكتاب التذكارى الذى أعطَوْه لهم فى الحفل أننى الأول فى مادة اللغة العربية على الجمهورية، وهو ما كان موضع دهشتنا جميعا: أنا وهم على السواء، لأننى كنت حاصلا فى تلك المادة على 46 درجة من 50، بينما كانت زميلة لهم قد أخبرتهم من قبل أنها حاصلة على 58 درجة فى تلك المادة، فلم يكن متوقعا قط من ثم أن أكون أنا الأول. ومعنى ذلك، حسبما فسروا لى الأمر، أنها لم تذكر الحقيقة فى موضوع درجتها.
والطريف العجيب أن الزميلة كانت متفوقة على الجميع فى ذلك العام تفوقا مطلقا لأنها كانت الأولى على مستوى الجمهورية بين طلبة القسم الأدبى. ومع هذا فقد انتهى بها الأمر أنْ تركت كلية الاقتصاد مثلى، ومثلى أيضا حولت أوراقها إلى كلية الآداب، لا إلى قسم المشايخ بل إلى قسم الصحافة، ولكن بعد ضياع سنة من عمرها لم تحرز فيها شيئا. كما أنها، فيما أذكر، لم تكن بين المتفوقين فى كليتها الجديدة، إذ حصلت فى أول عام على تقدير "جيد"، ولا أذكر الآن شيئا آخر عنها بعد ذلك. وقد غبطنى بعض زملائى على ما سَمَّوْه: "جرأتى" فى انتقالى إلى الكلية التى أحبها، بخلافهم هم، إذ لم يجدوا أنفسهم فى كلية الاقتصاد، لكنهم كانوا يَخْشَوْن كلام الناس إنْ هم تركوها إلى كلية أخرى هابطين بذلك من كلية القمة إلى إحدى الكليات التى ترقد فى القاع.
ومن اللطائف التى أضحكتنا فى تلك الليلة ما حَكَوْه عن زميل لنا أصبح أستاذا فى الجامعة، واشتغل بعد ذلك مستشارا ثقافيا فى أهم بلد فى العالم، من أنه أخرج أثناء الاحتفال بعيد العلم خطابا من جيبه سلمه للرئيس جمال عبد الناصر كان أخوه قد كتبه طلبا لشىء من الرئيس أو شكوى من شىء، فما كان من الأمن بعدما انتهى من تسلم جائزته وعودته إلى مكانه بين جمهور الحاضرين إلا أن أخذوه وسألوه، فى سياق استنكارهم لفعلته، عن المكان الذى يسكنه، فما كان منه إلا أن أجابهم وملء قلبه الفزع والرعب: "أنا؟ أنا؟ أنا مش ساكن"! فكانت نكتة الليلة.
على أن هناك أسبابا أخرى لنفورى من كلية الاقتصاد، فلم أكن مهتما بالفكر السياسى اهتماما خاصا، بل كان اهتمامى فى المقام الأول بالأدب والنقد والفكر الإسلامى، وهو ما لاءمه قسم اللغة العربية أعظم الملاءمة، وإن كنت فى البداية قد ترددت بين الالتحاق بقسم اللغة الفرنسية أو الصحافة أو اللغة العربية، فحسمها أننى، فى أول يوم ذهبت فيه إلى كلية الآداب، وهو اليوم الرابع من أيام العام الدراسى 66- 1967م، قد وجدت نفسى عند اجتيازى بوابتها فى مواجهة سلم، فصعدته دون تفكير، ولما بلغت الطابق الثانى انحرفت يمينا لأجد بعضا من الطلاب سألتهم: أى قسم هذا؟ فقالوا: قسم اللغة العربية، وهذا هو جدول المحاضرات خلفك. فاستدرت أنظر فى الجدول، فوجدت التفسير والحديث والأدب والنحو والصرف والنقد، فقلت فى نفسى: على بركة الله. سوف أدخل قسم اللغة العربية.
أما لماذا اخترت فى استمارة الرغبات، أثناء تقديمى لأوراقى إلى مكتب التنسيق الجامعى، كلية الاقتصاد فكان بإلحاح من صديق والدى بالقرية (العم أحمد جبريل رحمه الله، الذى كان متحمسا لى بعد وفاة والدى، ويشجعنى ويثنى علىَّ كثيرا، ووقف إلى جانبى فى بعض المواقف وقفات كريمة) ظنا منه أننى سوف أكون سفيرا. فقلت فى نفسى ساعتئذ: ولم لا أجمع بين دراسة الاقتصاد والسياسة رسميا ودراسة الأدب والنقد هوايةً؟ ألم يفعلها إبراهيم ناجى، الذى تخصص فى الطب رغم أنه كان شاعرا أديبا؟ ألم يفعلها صالح جودت بجمعه بين شهادة كلية التجارة وإبداعاته الشعرية والنثرية؟ لكن المحاضرات الأولى بكلية الاقتصاد لم تشدنى، وبخاصة محاضرة د. رفعت المحجوب، الذى ما إن يقف أى طالب ليناقشه فيما عرضه من آراء حتى يعاجله دون تريث قائلا: اجلس! لا تخلط! وكان هذا هو الرد الذى تلقاه زميل لى بالمدينة الجامعية واستفزنى إلى المناقشة توضيحا لفكرة هذا الزميل. ولكن ما إن بدأت أشرح وجهة نظرى حتى سدد إلىَّ لكمة خطافية سمجة: اجلس! لا تخلط! فكان هذا سببا آخر لكراهيتى الاستمرار فى الكلية. وعندما كبرتُ وتولى د. المحجوب رئاسة مجلس الشعب ووجدتُه يصادر آراء المعارضين بنفس الطريقة تذكرتُ أسلوبه المنفِّر فى قمع عقول الطلاب، وقلت فى نفسى: واضح أن الرجل لم يتغير، ولن! الطريف أن بعض الناس فى قريتى كانوا يفتخرون، فيما بلغنى، بأننى أجلس فى الجامعة بجوار بنت الرئيس جمال عبد الناصر، وأن عبد الناصر نفسه هو الذى يقوم بالإنفاق علىَّ لتفوقى. يا ليت! ما كانت العين قد بكت، ولا كنت قد تعبت أو شعرت بالغربة والوحشة فى القاهرة، على الأقل: فى بداية انتقالى إليها. ومع ذلك فهأنذا أضحك هذه المرة ولا تغلبنى الدموع، فالموقف كله موقف ضاحك مضحك بامتياز!
وكنت فى المدينة الجامعية أسكن نفس المبنى الذى يسكنه زملائى فى كلية الاقتصاد (وهو المبنى الخامس، وكان فراشه رجلا لطيفا طيبا هادئا يحبنا) بناء على أننى فى الأصل واحد منهم رغم تحويلى لأوراقى إلى كلية الآداب (قسم المشايخ والفَتَّة)، فتكونت بينى وبين بعضهم صداقات استمرت لوقت طويل، وبعضها لا يزال قائما، وإن خَفَّتْ لقاءاتنا بطبيعة الحال لافتراق الطرق وانشغالات الحياة. وكانوا حريصين فى ذلك الوقت على شراء "أهرام" الجمعة ليقرأوا "بصراحة" للأستاذ هيكل، الذى كنت أستغرب حرصهم على قراءة ما يكتب رغم وضوح انحرافه عن قول كلمة الحق وتفانيه بالحق والباطل فى الدفاع عن جمال عبد الناصر، الذى شرعت أبتعد عنه ولا أطمئن إليه ولا أطيق استبداده.
وذات جمعة قلت لهم: انظروا إلى "بصراحة" اليوم: كيف يقيم هيكل مقاله كله من أوله إلى آخره على الرقم 3: فالعوامل التى أدت إلى وقوع الأمر الذى يتحدث عنه ثلاثة، والموانع التى كانت تقف فى طريقه ثلاثة، والأسباب التى أبطلت فعل هذه الموانع ثلاثة، والنتائج التى تحققت جراء تلك العوامل ثلاثة... وهكذا. هل يعقل أن تكون الحياة بهذا التناسق والتناغم، وبخاصة فى أمر معقد كهذا؟ ألا يدلكم هذا على أن الرجل لا يكتب من واقع الحياة، بل من تصنعات خياله وأنه يدلف إلى مقاله بفكرة أعدها مسبقا؟ لكن على من تنشد مزاميرك يا داود؟ ورغم ذلك فقد اقترحت، منذ نحو سنة، على أحد طلابى، وهو صحفى بـ"الأهرام"، أن يتخذ من هيكل ومقالاته وأسلوبه موضوعا لدراسة الدكتورية، وخططنا معا المنهج والطريقة اللذين سيتبعهما فى كتابة أطروحته. وهو ما قد يدل، إذا أردت أيها القارئ الغالى، على أننى لست سيئا تماما، إذ لا أزال أتمتع ببعض الموضوعية التى تجعلنى أتجاهل موقفى من واحد كهيكل وأقترحه موضوعا للدكتوراه لواحد من طلابى فى قسم اللغة العربية وآدابها.
ويقتضينى الحق أن أقول إننى تمتعت مع هؤلاء الزملاء بصحبة ممتازة، إذ كانوا من خيرة شباب مصر علما وانفتاح أفق وكثرة قراءة وعمق تفكير وشعورا وطنيا، مضافا إلى ذلك لدن بعض منهم الاستقامة الأخلاقية، والتدين المستنير. وقد استفدت أيما استفادة من هذه الصحبة، وكانت لنا مناقشات لا تنتهى: فى مطعم المدينة، وفى الغرفة التى نسكنها منها، وفى الشارع حيث كنا نتمشى فى كثير من الأحيان بعد العصر من حى بين السرايات حيث تقوم المدينة الجامعية إلى التحرير، وأحيانا إلى العتبة، ومرة إلى حى الحسين ذاته. كل هذا ونحن منهمكون فى الكلام فى السياسة والدين والفلسفة والمشاكل العاطفية.
ومما لا أزال أذكره حتى الآن تلك المناقشة التى دارت بينى وبين زميلى صلاح أبو النجا، الذى أحيل بُعَيْد ثورة يناير المجيدة إلى المعاش، وكان موظفا مرموقا فى رئاسة الوزراء، وكنا فى ذلك الوقت مارَّيْن أمام حديقة الأورمان فى جولتنا المعتادة إلى التحرير، حول كتاب "سيرتى الذاتية" لبرتراند راسل، الذى كانت ترجمته طازجة فى ذلك الحين. وكان محور المناقشة هو: ما مصير راسل يوم القيامة؟ هل سيدخل النار بوصفه غير مسلم أم ماذا؟ وكان رأيى، بناء على ما كنت أجهله عنه فى ذلك الوقت، أنه لا يعرف الإسلام، أو على الأقل: لا يعرفه كما ينبغى، إذ هو بريطانى، فلن يعرفه إلا من المستشرقين المعادين له، فكيف يعاقبه الله تلك العقوبة على أمر خارج عن نطاق وسعه؟ هل كنت قرأت آنذاك ما كتبه الشيخ شلتوت فى تفسيره للآية 115 من سورة "النساء": "وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا"، التى تقول كما هو واضح إن من يعاقَب على الكفر برسالة محمد عليه الصلاة والسلام هو من تبين له الحق من الباطل ثم أصر على العناد وإنكار الحق والكفر برسالته عليه السلام رغم ذلك، وهو ما يفهم منه أنه إن لم يتبين له الحق فعذره قائم، إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها كما تردد مرارا فى القرآن المجيد؟ ربما. فإذا كان الأمر كذلك فأغلب الظن أننى كنت أَصْدُر فى رأيى هذا عن الآية الكريمة. أما زميلى فكان رأيه أن الله لا بد أن يهدى من أراد بلوغ الحق، لا محالة. لكننى رددت عليه بأنه ليس شرطا أن كل من طلب الحق أدركه. وأستطيع فى هذا السياق الآن أن أشير إلى حديث الرسول الرحيم الذى يقول إن الإنسان قد يجتهد ويخطئ فى اجتهاده، بما يعنى أن طلب الحق لا يبلِّغ صاحبه إياه بالضرورة.
وبعد عدة عقود تصادف أن عثرتُ على المشباك (الإنترنت) بمقال راسل: "لماذا لست مسيحيا؟" مترجما إلى العربية، فبحثت عن أصله الإنجليزى حتى وجدته، ثم كتبت دراسة طويلة عنه أناقش مبرراته فى الإلحاد وأفندها واحدا واحدا، ولكن باحترام تام، إذ كان الرجل مناصرا للقضية الفلسطينية، وهو ما شفع له عندى. وكنت قد اشتريت من لندن أواخر سبعينات القرن الماضى كتابه: "تاريخ الفلسفة الغربية"، ومنه يتبين أنه كان على علم بالإسلام خَوَّله كتابة فصلٍ ضافٍ عنه. كما علمت، حين كنت أستعد لوضع دراستى عنه، أنه كان له خال مسلم. عجيبة! وهكذا ترى، يا قارئى الكريم، كيف تترابط خيوط حياتى ترابطا وثيقا، إذ ما من قضية شغلتنى فى صباى أو شبابى إلا كان لى عودة إليها، وأحيانا دراسة عنها، فى كهولتى وشيخوختى.
وكنت فى المرحلة الثانوية أستعير ما أقرؤه من كتب من مكتبة المدرسة، وكانت مكتبة غنية وأنيقة. وما زلت أذكر الأستاذ الذى كان يتولى الإشراف عليها، وكان اسمه مختار، وكان يرحب بى كلما رآنى بعدما سلمته المقال الذى اشتركت به فى مسابقة من مسابقات المدرسة الثقافية، إذ أبدى دهشته من قدرتى على استخدام ألفاظ مثل "الأسفار"، وعدها إنجازا كبيرا، وصار يحدث بها المدرسين أمامى. وأعترف الآن أن معنى الكلمة لم يكن محددا فى ذهنى تمام التحديد. والطريف أن أخبار المسابقة قد توقفت، ولم يعلنوا نتيجتها ولا أَعْطَوْا أحدا ممن تقدموا إليها جائزة. كما أذكر أنهم كانوا يعطوننا فى المكتبة كراسة نجيب فيها على بعض الأسئلة عقب قراءتنا أى كتاب عن الأسلوب الذى صيغ به والأفكار التى يتضمنها ورَأْينا فيه وما إلى ذلك. وبصراحة كانت مثل تلك الأسئلة تربكنى. وما زلت حتى الآن أجد ضيقا وصعوبة إذا ما سئلت مثل تلك الأسئلة المحددة التى يراد من الواحد أن يجيب على كل منها فى سطر أو سطرين.
ومما قرأته من كتبٍ آنذاك "سارة" للعقاد وبعض عبقرياته وعدد من الروايات المترجمة. ومن الروايات المصرية القليلة التى قرأتها وقتئذ رواية "فديتكِ يا ليلى أو آثار على الرمال" ليوسف السباعى. ولا أدرى السبب فى أن بطلها قد أوحى لى أنه فريد الأطرش. وقد رأيت أحد زملائى يقرأ روايات محمد عبد الحليم عبد الله، التى لم تشدنى فى ذلك الحين، إذ لم أبدأ قراءته إلا فى الجامعة، وأظن أن أول عمل قرأته له هو "شمس الخريف"، الذى طالعته فى شقة أسرة صديقى المرحوم أحمد الزاهد بشارع النحاس بطنطا، والذى نزل بلسما على جراح نفسى فى تلك الفترة، فقد تقمصتُ شخصية الشاب البطل وأخذت أهيم معه فى عزبة خورشيد القريبة من الإسكندرية بين الحقول والنباتات والطيور والفلاحين البسطاء، الذين ذكّرونى بأهل قريتى. وقد صار هذا الزميل، واسمه أحمد، فنانا تشكيليا، وكانت موهبته واضحة للعيان منذ كان معنا فى الأحمدية الثانوية، وأظنه من مركز السنطة. ولعلى قابلته مرة فى شارع رمسيس قريبا من العباسية أيام كنت معيدا، وفهمت أنه يعرض لوحاته فى مرسم هناك. ثم لم أسمع به ولم أره بعد ذلك قط.
كذلك كنت أشترى فى المرحلة الثانوية ما يتيسر لى شراؤه من كتب، وغالبا ما كانت كتبا مستعملة مما يباع على الأرصفة، ومنها كتاب "فن الأدب" لتوفيق الحكيم، الذى اشتريته بعشرة قروش من تاجرٍ رصيفىٍّ عند مسجد السيد البدوى. ومن تلك الكتب أيضا معجم فرنسى عربى طلابى استخدمته كثيرا فى ذلك الحين، وإن لم أتنبه إلى أنه معجم صغير لا يصلح إلا فى نطاق محدود. ولهذا كنت أستغرب كلما بحثت عن معنى كلمة فيه ولم أجدها، غير دار أنه قاموس فقير. وقد استعنت به مع ذلك فى قراءة بعض الروايات الفرنسية، وأهمها رواية هكتور مالو (Hector Malot): "Sans Famille"، وهى رواية حزينة عن صبى يتيم يتنقل من مكان إلى مكان مع موسيقار متجول، وينام فى العراء ويقاسى مصاعب الحياة مقاساة شنيعة، مما كان يحز فى قلبى ويكاد يبكينى. وظلت مكتبة فافا مع ذلك موئلا هاما أقصده للحصول على الكتب والروايات بثمن زهيد. وبطبيعة الحال لا ينبغى أن ننسى الكتب التى كنت أستعيرها من زملائى.
ومن غرامى بالقراءة أننى كنت إذا ما قصدت دار الخيالة وحدى اصطحبت كتابا معى أقرأ فيه قبل بدء العرض وفى الاستراحة بين الفلمين، فإذا ما بدأ الفلم أغلقتُ الكتاب وبدأ لون آخر من المتعة هو متعة العيش مع أحداث الفلم وأبطاله على الشاشة. وهو نفسه ما كنت أصنعه أحيانا حين أذهب إلى ملعب الكرة فى سوق القرية قبل زملائى، إذ كنت آوِى إلى حقل من حقول الذرة على حدود السوق أقرأ فى الكتاب الذى معى. حتى إذا حضر زملائى وبدأت التقسيمة وضعت الكتاب فى سيّالتى، وهى الجيب الجانبى الكبير، وخلعت جلبابى ونزلت أجرى مع الجارِين. وكنت من اللاعبين البارعين فى فريق القرية، وإن لم أستمر طويلا نظرا إلى وقوع هزيمة 1967م، التى خيمت بظلالها السود على لاعبى قريتنا، فهجرنا كلنا تقريبا اللعب رغم أنه كانت هناك قرى كثيرة ظلت تمارس الكرة بعد الهزيمة.
ومما أذكره من التطورات اللغوية التى حدثت لى فى المدرسة الأحمدية أننى استعملت فى أحد مواضيع الإنشاء بالسنة الثانية الثانوية عبارة "بالعافية"، أى بالقوة والإكراه، وهو ما لم يعجب أستاذ اللغة العربية، وكان رجلا فاضلا هادئا لا يرتفع له صوت ولا ينفعل إلا فى النادر، فصححها لى إلى "بالقوة". إلا أننى لم أقتنع بالتصحيح، إذ بدا لى أن الكلمتين شىء واحد، فضلا عن أن عبارة "بالعافية" عبارة مشهورة ترددها الناس جميعا. لكنى عندما كبرت اقتنعت بما قاله الأستاذ الفاضل. بيد أننى عدت فى الأيام الأخيرة أفكر فى الأمر من جديد قائلا لنفسى: فعلا لا يوجد فرق بين "بالقوة" و"بالعافية". نعم، العافية هى الصحة الجيدة، ولكن أليست الصحة الجيدة هى القوة، أو لونا منها على الأقل، أو أن القوة تستلزم الصحة الجيدة؟ فلم إذن لا يصح أن نقول: "بالعافية" فى معنى"بالقوة"، على الأقل: مجازا مرسلا؟ صحيح: لم لا؟
كما وقع لى شىء غريب فى آخر السنة الثانية الثانوية، إذ صرت، كلما قرأت كتابا، أجد صعوبة بالغة فى ربط كلمات أية جملة فيه كى أخرج منها بمعنى. لم تكن المشكلة فى الكلمات، بل فى الربط بينها، فكأن عقلى مسبحة فقدت خيطها فتبعثرت حباتها شَذَرَ مَذَر. وحاولت كثيرا أن أتغلب على هذا العَرَض الـمَرَضِىّ المزعج، ولكن دون جدوى. فماذا فعلت؟ فأما بالنسبة للكتب غير المقررة فقد صبرت وتحملت رغم الضيق الشنيع الذى كان يسببه هذا الأمر لى، وأما بالنسبة للكتب المقررة فقد لجأت إلى الكتب الخارجية وأخذت أحفظ التلخيصات التى توردها فى آخر كل درس. وبهذه الطريقة نجحت وكنت أول القسم الأدبى بالمدرسة. وقد ظلت هذه المشكلة معى وقتا طويلا خلال العام الدراسى التالى، فكنت أعانى من تتبع ما يريد العقاد أن يقوله فى "عبقرية الصديق" التى كانت مقررة علينا ذلك العام، وأنا الذى أقرأ العقاد وآلفه منذ عدة سنين ولا أجد فى فهم ما يكتبه صعوبة. لقد كانت محنة، لكن الله كعادته معى قد سَلَّم، وكان رءوفا بالصبى المسكين، فلم يدعه يرسب، بل وضعه على رأس المدرسة.
وفى الإجازة الفاصلة بين السنة الثانية والسنة الثالثة الثانوية وقع تطور كبير فى شخصيتى، إذ كنت مع زميلى المرحوم أحمد الزاهد وسائر أفراد أسرته فى عزبتهم التابعة لقرية سيدى غازى شمال كفر الشيخ حيث قضينا وقتا هانئا، ثم عاد بعضنا إلى شقة الأسرة فى شارع الشيخة صباح عند تقاطعه مع شارع النحاس بطنطا. وفتح أحدنا التلفاز ليلا، وكانت هناك مسرحية لا أتذكر اسمها الآن، وفيها ينام بطلها فيرى نفسه وقد وقع فى مأزق اجتماعى جراء غلطة أخلاقية ارتكبها، وهو يظن نفسه يقظان، فلما قام من النوم تنفس الصُّعَداء أن الأمر ليس إلا مناما لا حقيقة له، لكنه رغم ذلك قد أخذ على نفسه عهدا ألا يحيد عن سواء الصراط. ولم أكد أنتهى من مشاهدة المسرحية حتى قمت وتوضأت وصليت وعاهدت نفسى ألا أؤجل من الآن فصاعدا أية صلاة لما بعد وقتها. ولم أكن، بحمد الله، أقترف شيئا مما يصنعه بعض الشباب، بل كان الأمر يتعلق بتأدية الصلاة فى وقتها ليس غير. وهو ما حرصت ولا أزال أحرص عليه حتى الآن لدرجة أننى فى العالم التالى كنت أكون مثلا مستغرقا مع زملائى هؤلاء فى كرة القدم تحت بيت زميلى هذا رحمه الله رحمة واسعة، فأسمع الأذان فأستأذن من زملائى الذين يلعبون معى، وآخذ نَفْسِى إلى مسجد الشيخة صباح القريب لأصلى ثم أعود وأستأنف اللعب. كما أننى منذ ذلك اليوم لم يحدث قط أن أَجَّلْتُ بإرادتى صلاة الصبح لما بعد الشروق، اللهم إلا إذا راحت علىَّ نومة. وحتى فى هذه الحالة كنت أشعر بالتأثم الشديد لعدة أيام رغم معرفتى بما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم من أن القلم قد رُفِع عن ثلاثةٍ منهم النائم حتى يستيقظ. لقد كنت أَعُدّ القيام من أحلاها نومةً لصلاة الصبح قبل الشروق ولو بدقائق ضربا من التحدى لم أكن أسمح لنفسى بالفشل فيه. أما إذا استيقظت قبيل الشمس بما لا يسمح لى بالوضوء واللحاق بالصلاة فى وقتها فكنت أجتزئ بالتيمم وأصلى فى موضعى كيلا يفوتنى الوقت.
وحين تزوجتُ سارت زوجتى معى على الالتزام بالصلاة أداءً لا تتركها أبدا وهى تقدر على ذلك، رغم أننا لا نسارع دائما إلى الصلاة فى أول الوقت، بل المهم هو ألا نؤخرها إلى وقت الصلاة التالية بالنسبة للظهر والعصر والمغرب والعشاء، فيما عدا حالات السفر كما هو معروف، أو إلى ما بعد شروق الشمس فى حالة صلاة الصبح كما قلت آنفا. وبالمناسبة فإننى أَقْصِر الصلاة وأجمعها الآن فى أى سفر طال أم قَصُرَ طبقا لما كان يفعله الصحابة متى ما غادروا المدينة المشرفة دون الالتزام بشرط الثمانين كيلومترا الذى يقول به بعض الفقهاء. ومن رأيى الأخذ بالرخص متى كانت متاحة، إذ من شأن ذلك تشجيع الناس على دوام تأدية الفرائض وعدم الكسل عنها. ذلك أنه من الأهمية بمكان أن تبقى علاقة الناس بربهم قائمة على أى وضع حتى لو كانت مجرد شعرة نحيلة، فهى خير من انقطاعها تماما والانصراف إلى إبليس واللجاج فى المعصية. ومن دَيْدَنى التذكير دائما برحمة الله سبحانه وتعالى ردا على من يصورونه عز وجل باطشا لا يرحم المقصِّرين والمخطئين مما يترتب عليه تنفير الناس من الدين وتيئيسهم من صلاح الأحوال وتشجيع الشيطان على الوسوسة لهم بأن الأمور ما دامت سيئة على هذا النحو ولا أمل فى رحمة الله فما الداعى للعنت ووجع الدماغ الذى لن يؤدى إلى خير؟
ومن الأمور التى ينبغى أن أسوقها هنا فى السنة الأخيرة لى بالمرحلة الثانوية تلك الأيام الثلاثة التى قضيتها فى هم مقيم، إذ كنت أسير فى شوارع طنطا فى عز النهار فتبدو الدنيا لى وهى تقطر سوادا وكآبة. لقد نبتت فى ذهنى بعض الخواطر الرديئة التى لا تليق بجلال الله، ولم أستطع لقلة حيلتى وضعف فهمى للدين فى ذلك الوقت مواجهة تلك الحالة الغريبة التى لو حدثت لى الآن ما وقفت أمامها ولا باليت بها بالة ولضحكت على سخف الأمر كله. لكن ماذا تقول فى صبى عمره ثمانية عشر عاما لم يتعمق التعمق الكافى فى الدين؟ بيد أن الأمر قد انعطف انعطافة حادة وبهيجة عندما كنت أسير فى فناء المدرسة فرأيت أستاذ اللغة العربية الذى كنا جميعا نحبه ونكبره ونقبل على حصته بلهفة وفرحة، الأستاذ سيد أحمد أبو رية، فأقبلت عليه وترددت وأنا أفض له مغاليق قلبى متصورا أنه سوف ينهرنى على هذه الخواطر التى لا تليق. لكنى بُوغِتُّ حين رأيته، بعد انتهائى من رواية محنتى، يبتسم لى ويأخذنى فى كنفه ويمشى معى وهو يطمئننى بأن هذا دليل على قوة إيمانى. معقولة؟ معقولة ونصف! لقد مر الإمام الغزالى بحالة أشد من هذه حين انتابه الشك فى الدين، لكن كان هذا الشك هو سبيله إلى تمحيص عقيدته وإرسائها على صخرة صلبة لا تتزعزع أبدا. يعنى أنا يا أستاذ لست آثما؟ أبدا يا عم إبراهيم لستَ آثما ولا حاجة. اطمئن إلى دينك، فليس عليه غبار. رحم الله أستاذى العظيم الذى لم يمر علىَّ أستاذٌ مثلُه علمًا وفهمًا واتساعَ أفقٍ ورحمةً وعطفًا.
لقد توثقت علاقتى بالرجل الكريم بعد ذلك وصرت أتردد على بيته فيستقبلنى أحسن استقبال، بل كنت أنام عنده بعد تركى طنطا إلى الجامعة وأقوم صباحا فأجده يحضر لى أحيانا الفَطُور فى السرير، أنا الذى لم أتعود على هذا التدليل، أو نأكل جميعا معا. رحم الله أستاذى الرحمة كلها وألحقنى به فى الجنة كى أستمتع بصحبته هناك كما استمتعت بها هنا على الأرض حيث كنا نتناقش فى كل شىء فى غرفة مكتبه بالمنزل أو فى شرفة شقته الرحيبة المطلة على حديقة المنزل التى تتخذها المدرسة الموجودة بالشقق الباقية فى البيت فناء لتلاميذها، أو نجوب شوارع طنطا معا أحدّثه عن كل ما يتعلق بى، وبخاصة أمورى فى الجامعة وشؤونى العاطفية، فألقى منه دائما ما يخفف عنى ويمتعنى ويوسع أفقى. وكان فوق ذلك ذا أسلوب أدبى جميل، فقد أذكر أنه بعث لى برسالتين ردا على خطابين منى أبثه فيهما من القاهرة آلامى وأتراحى، فكتب يرفه عنى بلغة تشبه لغة طه حسين. ولشديد الأسف ضاع الخطابان مع ما ضاع من أشيائى الكثيرة على مدار حياتى.
ولا تزال ترن فى ذاكرتى حتى الآن سؤالى إياه عن الصورة العجيبة التى أوردها نزار قبانى فى قصيدة "أَلْف أَهْوَاه"، التى كانت تغنيها كثيرا فى تلك الأيام نجاة الصغيرة:
ماذا أقول إذا راحت أصابعه تلملم الليل عن شعرى وترعاه؟
أى ماذا تقول لحبيبها؟ ذلك أن الصورة، على حلاوتها، غير واضحة المعنى، فكان جوابه أن المقصود: "تلملم شعرى الذى هو كالليل". ورغم أنى لم أقتنع بهذا التوجيه تماما فقد سكتُّ، لا لخجل من أستاذى العظيم، فلم يكن بيننا أى تحرج، فضلا عن أننى كنت طويل اللسان، لا أقصد بذلك السفاهة، بل أقصد الجرأة فى التعبير عن رأيى، وإنما لأنى لم أجد توجيها آخر أشد وجاهة. ومع الأيام ظننت أنه قد يصح أن نقول إن الفتاة تقصد أن يد حبيبها تشع أضواء وأفراحا وتقشع عن شعرها الظلام وترعاه حبا وحنانا. أما إذا لم يعجبكم، أيها القراء، هذا التوجيه أيضا بعد أن لم يعجبكم قبلا توجيه أستاذى، فاخبطوا، لا رأسكم أنتم، بل رأسى أنا فى أقرب جدار، وفداكم رأسى وحياتى كلها. المهم ألا تغضبوا، ولا يكن ذلك "الفلتان" المسمى: "نزارًا القبانى" سببا فى تعكير صفو العلاقات بيننا، والميت أبقى من الحى كما تعرفون. ويا لله لهذا الإعجاز الإلهى المتمثل فى كلام، مجرد كلام، نسمعه فيرتد إلينا الماضى حيا نابضا بل متوترا، وكأننى ذلك الصبى الذى كان يدور فى شوارع طنطا فى منتصف ستينات القرن المنصرم، فيأيته صوت نجاة من كل المقاهى والدكاكين حوله تشدو بهذه الأغنية البديعة، التى كان يقول لنا زميلنا محمد الجروانى، رحمة الله عليه، إن اسمها: "أَلِفَ هَوَاه"، ويصر على أنها لا يمكن أن تكون "أَلْفُ أهواه". غفر الله له!
وسامحونى على ما سأقوله الآن وأنا أستمع إلى نجاة الصغيرة أمامى فى الكاتوب تغنى القصيدة وتعيد وتزيد فى قولها: "هنا جريدته فى الركن مهملةٌ"، إذ لا أملك نفسى من الرد عليها ضاحكا حتى تسرع فتنتقل إلى البيت التالى: "بسيطة! نظفى بها لمبة الجاز. خلِّصينا، هداك الله، وهاتى البيت الذى بعده"! كذلك اكشتفت اليوم السبت 18/ 5/ 2013م اكتشافا مضحكا لم أملك نفسى إزاءه من القهقهة رغم سماعى فى نفس الوقت نجاة الصغيرة وهى تشدو بأغنية "ع الحلوة والمرة"، التى غناها من قبلها عبد الغنى السيد. والواقع أن غناء نجاة لها هو الألم والمعاناة مجسدين، إلا اليوم، فما إن اكتشفت أنها إنما تغنى هذه الأغنية فى فلم "بنت البلد" (1954م)، واسمها فيه بدرية، وكانت تغنيها لحبيبها وابن عمها إسماعيل يس، الشاب الصعيدى المعمم بشال مفتول كرِوَاسة الجاموسة عندنا بالقرية، والذى تزوج فتاة فرنسية وتركها هى لشماتة الشامتين، حتى هرب ما كنت أشعر به من آلام فى كل مرة أسمعها فيها. لقد كانت الألم يعتصر قلب نجاة، وهى تشدو بالأغنية الرائعة، ممسكة بصورة حبيبها ذى الفم الواسع الذى يمكن أن يبلع الدنيا كلها ويفيض منه جزء كبير، وهى تعاتبه وتبكى بكاء ملتهبا لعل قلبه يحن ويرجع إليها، ثم تغافل المخرج أحيانا وتنظر إلىَّ وكأنها تستنجد بى للتدخل بينها وبين حبيبها والشفاعة عنده وإصلاح ذات بينهما، غير عالمة أننى لا أصلح لهذه المهمة بالذات لأن القهقهة تغلبنى على نفسى، ولا يصح أن أذهب فى مثل هذه المهمة العاطفية الاجتماعية الحساسة وأنا أضحك وأقهقه، وبخاصة وأنا أرى أمامى بعض النسوة الصعيديات الخنشورات قد وقفن خلفها يساندنها عاطفيا وغنائيا قائمات بدور الكورس، وإن كن فى الحقيقة شامتات بها، إذ لا أظن أن ثمة فتاة يمكن أن تتعاطف فى مثل هذا الموقف مع فتاة مثلها. والحق أن هؤلاء الفتيات لا يصلحن إلا للَّطْم والتعديد والصُّوات وتلطيخ وجوههن ورؤوسهن بالطين والنيلة، أما الكورس فكلا وألف كلا! يا نجاة، حرام عليك! ألم تجدى إلا "سُمْعَة" كى تقعى فى غرامه، ثم تزيدى على هذا بأن تمسكى بصورته وتنزلى عياطا وبكاء وغناء ملتاعا؟