حلقة أخرى من كتابى: "من كُتّاب الشيخ مرسى إلى جامعة أكسفورد- محطات على مسيرتى الروحية":
=====================================
كان التعليم فى طفولتى جادا لا يعرف الهزل ولا التدليل، وكان أهلونا يرددون أن "عصا الفقيه من الجنة". وهو معنى عجيب، إذ ينظرون إلى العصا لا على أنها أداة للضرب المؤلم، بل على أنها وسيلة تربوية ناجعة تأخذ بيد الطفل إلى مراقى العلم والفلاح. ولهذا لم يحدث تقريبا أَنِ اعترض أحد من أهلينا على ضرب الفقيه للتلاميذ. وكان سيدنا الشيخ مرسى رضوان، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، كفيفا فكان يضربنا بالخيزرانة التى فى يده لا يبالى أين تقع من أجسادنا. كما كانت هناك الفلقة، التى كانوا يضعون أرجل التلاميذ المهملين أو المتمردين فيها حيث يُلَفّ عليها الحبل المربوط فى طرفى عصا غليظة من قِبَل ولدين من أولاد الكتاب الأشداء، فلا يستطيع التلميذ، ولو كان أجعص جعيص، أن يتفلفص منها قيد شعرة، ثم ينهال الفقيه بالخيزرانة الرفيعة اللدنة على باطن قدميه حتى يلهبهما، ويبكى الولد ويصرخ لعنان السماء، وما من مجير. وأنا، وإن كنت غير راضٍ تماما عن تلك الطريقة القاسية، أرى أن تدليل الأولاد الآن قد بلغ الغاية من السخف والبلاهة بحجة التربية الصحيحة، وأرى أن المنهج السليم فى التربية يقع فى نقطة وسط بين تلك القسوة وهذا التدليل الأحمق المفسد. وإلا فلو كان العقاب أمرا سيئا فلم جعل الله، إلى جانب الجنة، نارا محرقة تشوى الجلود وتصهر ما فى البطون؟ إن الحياة ليست نعيما ورُفَهْنِيَة، بل عمل شاق وجِدٌّ صارم، وفيها بجوار هذا بعض السعادة والابتهاج. فلماذا يا ترى يريد بعض الناس الذين يزعمون أنهم يفهمون التربية أفضل من غيرهم أن يُعْفُوا الطفل والتلميذ والطالب من العقاب إذا أخطأوا أو أهملوا؟ لقد انهار التعليم فى مصر والعالم العربى، ضمن أسباب انهياره، بسبب سياسة التدليل والتربيت على الأكتاف المتبعة مع التلاميذ والطلبة رغم كل ما نشاهده من أفعالهم السيئة التى لا تطاق حتى لقد صار الكثير منهم لا يحضرون الحصص والمحاضرات، ويظنون أن مجرد الاستذكار هو تكليف لهم بما لا يطيقون، ومن ثم لا ينبغى أن يُطَالَبُوا به.
وقد اشترك فى تعليمنا بجمعية المحافظة على القرآن الكريم، حيث كنا نجلس على مقاعد أو دكك حشبية نظيفة وأمام كل منا قمطره الخاص، عدد من المشايخ والأساتذة منهم، بل على رأسهم، سيدنا الشيخ مرسى رضوان (وهو فعلا سيدنا وتاج رؤوسنا جميعا. ألم يعلمنا القرآن المجيد؟)، وهناك ابنه الشيخ نبيه، والشيخ إبراهيم حجاج، والشيخ محمود أبو الخير، والأستاذ عبد الفتاح غازى، الذى ذهب إلى المدرسة فى طنطا، إلا أنه لم يكمل المشوار، وكان يلبس جلاليب أفرنجية أنيقة، ويضع فوق الجلباب الأفرنجى الجميل فى الشتاء جاكتة آنق وأجمل، وكان لطيف المعشر مريح ملامح الوجه، لا أذكر أنه ضرب أحدا منا، ومع ذلك كانت له هيبة. وكان يعلمنا الإملاء والحساب، أما القرآن فيعلمناه المشايخ السابقة أسماؤهم، وإن كان الشيخ نبيه ينفرد عنهم بتعليمنا القرآن والإملاء والحساب جميعا. وكان أحيانا ما يستقل هو وأبوه بقسم من التلاميذ فى كتابهما، ثم تدور الأيام فيعودان إلى الالتحام بجمعية المحافظة مرة أخرى.
وكان هناك قبل كثير من هؤلاء الأستاذ، أى الأستاذ أحمد تَنْوَة، وابنه الأستاذ محمد تنوة، الذى ترك الجمعية مبكرا والتحق بالمدرسة الإلزامية، ثم أصبح ناظرا لها يوم أن كنا نهتف فى فنائها الصغير بالناحية البحرية مرددين فى طابور الصباح نشيد "مصر مصر مصر أمنا" حين التحقتُ بها قبيل وفاة والدى، إذ كان يُعِدّنى للمدرسة الإعدادية فى طنطا، وأخى الأكبر للأزهر الشريف. وكان الأستاذ تنوة من أصدقاء أبى، ويأتى إلى الدكان فيجلس على الكرسى، ويدخن السجائر، ولكنه لا يأخذ من كل سيجارة إلا عدة أنفاس قليلة ثم يلقيها على مد ذراعه بأناقة بل بتأنق، فكان هذا التصرف منه يعجبنى جدا. لا أقصد أننى كنت أعرف مضارّ التدخين فأنا سعيد بأنه لا يكمل تدخين السيجارة كلها، بل لأن هذا كان فى نظرى دليل رفاهية واستغناء، فهو يحرق الفلوس ثم يلقيها على الأرض لا يبالى.
وكان هناك أيضا الشيخ أحمد الشيخ، والشيخ محمد الدعلوب، الذى التحق قبيل وفاته بفترة بالإذاعة والتلفاز مُوَشِّحًا دينيًّا ذا صوت جميل، والذى ما زالت صورته فى خيالى حتى الآن رغم انصرام كل هاتيك العقود الطويلة وهو يعلمنا فى الفصل الجديد فى آخر الفناء بجوار مكتب الناظر كيفية الوضوء والصلاة، وما فتئت عبارة "حذاء أذنى" ترن فى مسمعى حتى الآن حين كان يطلب منا أن نردد وراءه ما ينبغى أن نعمله حين نكبِّر أو نركع أو نقوم من الركوع أو نهوى للسجود: "وأرفع يدى حذاء أذنى". ومن الطريف أننى ظللت فترة طويلة أظن أن إطار الأذن يُدْعَى: "جزمة". أليست كلمة "حذاء" تعنى "حزمة"؟ أرأيتم عبقرية كهذه العبقرية التى خصنى المولى بها؟ رحم الله الجميع. ترى لو لم يقيض الله لنا هؤلاء المشايخ والأساتيذ فماذا كنا نصير؟ أدعو الله لهؤلاء الرجال الكرام بالجنة والرحمة والرضوان، فقد أَدَّوْا دورا حضاريا عجيبا رغم أننا لم نكن نقدر ما صنعوه معنا حين كنا تحت أيديهم.
قلت: "رحم الله الجميع" لأنى كنت أظن أنه، بموت الشيخ إبراهيم حجاج منذ شهور، يكون جميع هؤلاء الأساتذة والمشايخ قد تُوُفُّوا. إلا أننى، من جواب على سؤال عابر وجهته للأستاذ بسيونى صيرة جارنا المحامى الخبير بكل شىء وكل شخص فى القرية، عن الشيخ محمود أبو الخير، الذى كان قد أخبرنى ابن خالى قبلا أنه مات، علمت أنه لا يزال حيا يرزق، فعاودت السؤال للتحقق من صحة ما أسمعه عنه، فأكد لى صديقنا المحامى أنه ما برح على قيد الحياة، فاتفقت معه على أن نذهب نزوره لأقضى بعض ما له من حق عندى بوصفه أحد من علمونى فى صغرى ممن لولا هم ما صرت إلى ما أنا عليه الآن، إن كنت شيئا فعلا. وفعلا ذهبت أنا والمحامى المذكور وزرته فى زُقْرِه، الذى لم أدخله فى حياتى قرب الجامع الكبير بوسط القرية سوى مرتين تقريبا، فجددت العهد بذكريات الطفولة هناك، وإن كان كل شىء قد تغير، ووجدت الشيخ محمود لم تتغير ملامحه تغيرا يذكر، وكان سعيدا بالزيارة، وقبلت يديه مرتين معلنا أن له فى رقبتى دينا لا يمكننى قضاؤه، وقدمت له هدية على سبيل التعبير عن تقديرى له. وكان هناك بنتان وولدان من أبناء الجيران يحفظون على يديه القرآن، فأخذت أداعبهم وأشجعهم، واشتريت لهم بعض الحلوى، وأعطيتهم بعض الجنيهات القليلة. ولا شك أنهم قد استغربوا تصرف ذلك الرجل العجوز الخارج عن نطاق ما ألفوه. وعدت من الزيارة، وأنا سعيد أن الشيخ محمود أبو الخير لا يزال حيا، وأننى قد عبرت له قبل أن أموت عن إحساسى العميق بالدين الذى يديننى به والذى لم أكن أقدره حق قدره من قبل، راجيا من الله أن أتمكن فى الزيارة التالية لى إلى القرية من زيارة الشيخ مرة أخرى وحمل بعض الألطاف مرة أخرى إليه، وهو ما فعلته بعد الزيارة الأولى بنحو أسبوعين حين زرت القرية مرة أخرى فى طريقى لحضور عقد القران الخاص بحفيد أخى الأكبر بالإسكندرية، وأنوى أن أكرره كلما استطعت، تعويضا لهذا الأستاذ الذى علمنا هو وأمثاله القرآن المجيد لقاء قروش زهيدة لا تسمن ولا تغنى من جوع فى ذاتها، إلا أن الله سبحانه وتعالى "طرح فيها البركة" بتعبير أهل القرية.
ومن الذكريات الطريفة التى لا أزال أذكرها عن الشيخ محمود أبو الخير أنه كان يسمِّع لوحا أو حصة لأحد الأولاد الكبار العفاريت، فغلبه النوم من كثرة الإرهاق والصخب والزعيق فى الأولاد والتسميع لهم، علاوة على حرارة الظهيرة الصيفية، فما كان من التلميذ الكبير المخضرم إلا أن أخذ يردد على أذن الشيخ محمود محاولا أن يوقظه قائلا: "شيخ محمودُ، يا داودُ!"، ولما لم يرد عليه الشيخ محمود المستغرق فى النوم من شدة الإرهاق أحذ يردد هذه الجملة المسجوعة عفو الساعة: "شيخ محمودُ، يا داودُ!". يريد أن يقول: إننى، يا شيخ محمود،قد انتهيت من تسميع لوحى (أو حصتى)، ووصلت إلى قوله تعالى من سورة "سبأ": "يا داود، إنا جعلناك خليفة فى الأرض...". أى لقد وصلت إلى نهاية الشوط، وأريدك أن تطلق سراحى.
ومن هذه الذكريات أيضا أن والدته كانت ترسل إليه من حيهم البعيد نسبيا عن حى كتاب سيدنا الشيخ مرسى رغيف عيش مرقرق من أرغفة الريف المبططة ومعه بيضتان مشويتان، فيلف البيضتين فى الرغيف، ويمسكه بيديه الاثنتين ويأكله بهذه الطريقة الغريبة الظريفة التى وصفها د. طه حسين فى كتابه: "الأيام" وقال إنه طبقها فى طفولته ذات مرة فأثارت ضحك إخوته وأخواته واستغراب أبيه وبكاء أمه. وبالمناسبة فالشيخ محمود كفيف مثله. وكانت عيوننا تتابعه، وهو يأكل البيض، بشىء من الحسد لأننا نكون ساعتئذ جائعين مرهقين، ولأن البيض لم يكن طعاما عاديا فى تلك الأيام، أيام الفقر الذَّكَر، كما كانت رائحة صفار البيض بلونه الفاقع الجميل تفغم أنوفنا، فلا نملك ريقنا من التحلب "داخل أفواهنا"، ولا داعى للفضائح أكثر من هذا.
كذلك أخذنى والدى مرة معه إلى طنطا فى صغرى واصطحبنى إلى محل حلوانى فى شارع البورصة وأطعمنى هريسة، فأحضر الجرسون لى شوكة آكل بها الحلوى. وكانت أول مرة أرى فيها الشوكة، دَعْكَ من استعمالها، فنحن لم نكن نعرف الهريسة فى القرية، كما كنا نستخدم أيدينا غالبا فى تناول الطعام، أما إن اردنا تحبيك المسألة فعندنا الملعقة. ولما عدت إلى القرية أخذت أحكى لجيراننا ما وقع، وجاءت سيرة الشوكة، فلم أعرف ماذا أسميها. وهنا تفتقت عبقريتى (ألم أخبركم من قبل أننى عبقرى، فلم تصدقوا؟)، فقلت لهم إن الحلوانى قد أعطانى "مِذْاَرة صغيرة" آكل بها الحلوى. فضحك الجميع، وتبرع أحدهم فأفهمنى أنها تسمى: "شوكة"، وهو ما أثار دهشتى، إذ إنى أعرف الشوكة، وهى تشبه الإبرة، فما علاقة هذه بتلك؟ وبهذه الطريقة المزعجة دخلت كلمة جديدة قاموسى اللغوى لم تكن فيه من قبل.
وبما أننا بصدد تنامى معجمى اللغوى أذكر أننى، وأنا فى المدرسة الابتدائية بالقرية بعد ذلك ببضع سنين، وكان والدى قبل أن يموت بقليل قد أخرجنى من الكتاب وجمعية المحافظة وأدخلنى تلك المدرسة إعدادا لى لدخول التعليم المدنى، فى الوقت الذى كان يعد أخى الأكبر للالتحاق بالأزهر، كنت أقرأ أمام مدرس العربى نصا من كتاب قراءة الفرقة الرابعة، ومرت بى فى النص كلمة "مهذَّب"، فظننت أنها تعنى الرجل "المهزَّأ"، أى غير المحترم، للتقارب الشديد بين حروف الكلمتين. ورغم أن الأستاذ قد شرحها بأن معناها الشخص المحترم فقد ظللت فترة لا أستطيع هضم هذا الشرح الذى بدا غريبا جدا فى نظرى آنذاك.
كما أذكر أننى فى حصة القواعد قد طلبتنى المدرِّسة (أبله نجاة) من فصلى (رابعة 1) إلى الفصل الآخر (رابعة 2) لإجابة سؤال عن أسماء الاستفهام لم يستطع التلامذة هناك أن يجيبوا عليه، ولما أفلحتُ فى الإجابة المرادة طلبت منى أن أدور على الصفوف وأصفع كل تلميذ ممن عجزوا عن الجواب. ولا أذكر الآن تفاصيل ما وقع، إلا أن هناك أمرين مهمين: أن التلاميذ المصفوعين فى هذه الحالة لن يسكتوا غالبا على من صفعهم، بل المنتظر أن يؤذوه بعد الانتهاء من الحصة، كما أن هذا المنهج مسىء تربويا كما هو واضح لا يحتاج إلى تبيان. والغريب أننى كنت قد انتقلت مباشرة من الكتاب وجمعية المحافظة على القرآن الكريم إلى السنة الرابعة على عكس بقية التلاميذ، الذين وصلوا إلى فرقتهم بالتدرج الطبيعى بدءا من السنة الأولى الابتدائية، فكان المتوقع أن يكونوا أفضل منى ويعرفوا الجواب ولا أعرفه أنا. ولكن هكذا سار الأمر. وأرجو ألا أكون قد تعرضت إلى الانتقام بعد خروجنا من الفصل، فأنا لا أستطيع أن أذكر ماذا حدث بعد ذلك.
وفى المدرسة الابتدائية كنت، فى حصة العلوم، أرسم صور الطيور والحيوانات التى أراها أمامى فى الكتاب رسما متقنا، لا لأننى كنت بارعا فى الرسم ذاته، بل لأننى كنت بارعا فى تقليد ما هو مرسوم أمامى. وكان الأستاذ يُسَرّ من صورى. ثم إننى وزميلا لى أخبرْنا مدرس الرسم، وكان اسمه فيما أذكر مصطفى القرش، وهو من قرية مشال، التى منها د. زغلول النجار والتى لا تبعد عن قريتنا سوى ثلاثة كيلومترات، أننا نحب الرسم، فطلب منا أن نقابله العصر فى غرفة النشاط، فأتيناه فى الميعاد، فكَلَّفََنا رسم بعض الأشياء عن طريق التنقيط باستعمال سن القلم الرصاص فى الضغط على ورقة اللزق الملونة بحيث تلتصق النقط التى تنفصل من الورقة على صفحة كراسة الرسم مكونة الصورة المرادة، وهو ما فشلنا فيه على النحو الذى أراده الأستاذ القرش وتوقعه منا. وشعرنا، كما شعر هو من قبلنا، بخيبة الأمل، وخرجنا ولم نعاود مثل هذا الادعاء مرة أخرى. كما كان هناك طين الصلصال، الذى كنت أصنع منه صورة ثعبان أو وجه إنسان، ثم لا شىء آخر عدا هذا، إذ لم أكن موهوبا فى مجال الفن التشكيلى البتة على عكس ابنتى الصغرى سلوى، التى تتقن الرسم إتقانا مدهشا، وحاولتُ إغراءها بالالتحاق بكلية الفنون الجميلة عبثا، فرفضتْ وفضلتِ الهندسة عليها.
ونعود إلى الكتاب وجمعية المحافظة فأقول: كانت الطريقة التى تعلمنا بها فى طفولتنا القراءة والكتابة طريقة ممتازة. وإنى لأؤكد أننا، منذ أتقنّا القراءة والكتابة، لم نعد نخطئ فى الإملاء أخطاء تذكر. ولا أظننى قد أضفت إلى ما تعلمته فى القرية شيئا فى الإملاء ذا قيمة. لقد كانوا فى كثير من الأحيان يستفزّون قدراتنا بأن يطلبوا منا مثلا كتابة كلمات وجمل من نوع "توت عنخ آمون" أو "اللؤلؤ يتلألأ" أو "ما لكم تكأكأتم علىَّ كتكأكئكم على ذى جِنَّة؟ اِفْرَنْقِعُوا" وما إلى ذلك، كما علمونا اللام القمرية واللام الشمسية، وكذلك الفرق بين التاء والهاء المربوطتين، وبين الحروف المعطَّشة وغير المعطَّشة، وبين واوالجماعة وواو الفعل المضارع، وبين التاء المفتوحة والتاء المربوطة، وبين هذه والهاء المربوطة، والفرق بين كتابة العين والغين فى بداية الكلمة وبينها فى وسطها وفى آخرها بحيث لم نعد نخطئ فى شىء من ذلك البتة على عكس كثير من طلاب الجامعة الآن حتى المتخصصين منهم فى اللغة العربية. وكانت الطريقة التى تَعَلَّمْنا بها الكتابة والقراءة تقوم على تدرج أساتذتنا بنا خطوة خطوة بحيث يعلموننا أولا الحروف المفردة وطريقة نطقها وكتابتها، ثم ينتقلون بنا إلى الكلمات الثنائية المفتوحة الحرفين، ثم الكلمات الثنائية المفتوحة الحرف الأول والمكسورة الحرف الثانى... إلخ، ثم الكلمات الثلاثية المفتوحة الأحرف الثلاثة... إلخ. وكانوا يكتبون لنا على السبورة مثلا كلمة "ضُرِبَ"، ثم يقولون ونحن نردد وراءهم: "ضُرِبَ: ضاد، راء، باء. ضُرِبَ: ضاد، ضمة: ضُ. وراء، كسرة: رِ- ضُرِ. وباء، فتحة: بَ- ضُرِبَ", وبهذه الطريقة نأخذ بالنا من كل شىء فى الكلمة نطقا وإملاء وضبطا.
أما الآن فطلاب الجامعة أنفسهم، إلا فى الشاذ النادر، لا يعرفون كيف يضبطون الكلمة ولا يستطيعون نطقها نطقا صحيحا رغم ضبطها. كما أن الغالبية منهم لا تستطيع كتابة معظم الكلمات على نحو سليم. والسبب، فى جانب منه على الأقل، هو هجر المدارس لتلك الطريقة التى ينظر التربويون الحاليون إليها بوصفها طريقة بائدة، على حين أنهم هم البائدون الفاشلون، إذ ينقلون الطرق الأجنبية إلى مدارسنا رغم اختلاف لغتنا إملاء ونطقا عن لغاتهم. ولكن ماذا تقول فى الأمخاخ الضيقة التى تظن أن كل شىء يأتينا من الغرب المتقدم لا بد أن يكون متقدما أولا، ومناسبا لنا بل لا يصلح لنا سواه ثانيا، مع أن تقدم الغرب، الذى لا ننكره، لا يعنى أن كل شىء هناك متقدم بالضرورة، ولا أن ما هو متقدم بالنسبة لهم لا بد أن يكون متقدما بالنسبة لنا أيضا؟ ولا أظن إلا أن هناك تآمرا فى الموضوع، إذ إن كثيرا من رجال تربيتنا يأتمرون بما يقوله الأجانب لغاية فى نفس يعقوب، ويطيرون إلى الامتثال لكل ما يطلبونه منهم ومن سياسيينا، الذين لا يصلح كثير منهم لأكثر من أن يكون سائسا فى إسطبل. وما زلت أذكر طريقة "شرشر" و"فلفل"، التى أُدْخِلَتْ إلى مدارسنا فى أواسط خمسينات القرن البائد، وثبت فشلها تماما، إذ كانت تقوم على حفظ شكل الكلمة كلها مرة واحدة، فكان الأولاد والبنات يعرفون جيدا الكلمات التى حفظوها، أما ما لم يسبق لهم حفظه فكانوا يعجزون عن التعرف إليه، ويقفون مبلِّطين كحمار فى مطلع.
وكان المنهج المتبع فى حفظ القرآن هو تعيين بضع آيات يقرؤها التلميذ على الشيخ من المصحف، ثم يقوم بكتابتها على اللوح الخشبى المدهون بطبقة طلاء زيتى أبيض، ثم يُصِحّه على الشيخ، ثم يحفظه، ثم يعود إلى الشيخ لتسميعه. فإذا نجح فى تسميعه دون خطإ انطلق فراجع ما سبق له حفظه من القرآن ليقف بين يدى الفقيه لتسميع حصة من المحفوظ القديم. وفى الغد يتكرر الأمر على نفس النحو... وهكذا دواليك. ومن يفشل فى أداء واجبه يضرب بالعصا، وقد يضرب بالفلقة إذا كان من الكسالى المتخلفين النائمين فى الخط أو من المتمردين أو ممن شكاههم أهلوهم إلى الفقيه. فإذا هرب خوفا من الضرب أرسل الفقيه وراءه بضعة تلاميذ من ذوى الجثث الضخمة والأيد الشديد، فيظلون يبحثون عنه حتى يأتوا به حتى لو كان لائذا بالبروج المشيدة أو كان مختبئا تحت طقاطيق الأرض. وهنا لا مفر من الفلقة. ومن ثم ترَوْنَنِى أصف التعليم فى الكتاب والجمعية بأنه كان جِدًّا كله، ومرارةً كله، ولا موضع فيه للهزل أو العبث. وكنا، ونحن نُسَمِّع اللوح أو الحصة، نقف أمام الفقيه متباعدى الرجلين نميل مرة إلى اليمين ثم إلى الشمال كبندول الساعة مع الاعتماد على الرجل الموجودة فى الناحية التى نميل إليها ورفع الرجل الأخرى. وكان بعضنا يضيف إلى تلك الحركات العامة حركات أخرى تخصه هو وتميزه عن باقى التلاميذ.
وقد تعرضت لضرب الفلقة مرة رغم أنى كنت ممن لا يُضْرَبون عادة لاجتهادى فى حفظ القرآن وانتقالى من مستوى إلى مستوى أعلى منه قبل زملائى الذين فى سنى وظروفى، بل قبل من يسبقوننى سنا وتعليما، إذ كان قد ضاع مبلغ صغير من المال من البيت، وظن والدى أننى أنا الذى أخذته، وكان لا يطيق أن ينحرف أحد من أولاده حتى إنه، على ندرة ما ضربنى، رآنى ذات مرة أمد إصبعى لأنفض الرماد من سيجارة أحد الزبائن فى الدكان، وكان قد وضعها فوق البنك، فما كان منه إلا أن صفعنى فى الحال على وجهى خشية أن يكون لمسى رماد السيجارة مقدمة للتدخين. وهو بالمناسبة لم يكن يدخن، كما لا أظنه كان مدمنا للشاى أو القهوة. وكان، على كل حال، حريصا ألا نتعود على أى من هذين المشروبين، ولهذا كان يصنع لنا العصائر المختلفة والسحلب والقرفة والزنجبيل والينسون وخلطة شديد، التى كان بعضهم يسميها: "الورد"، وكان رائعة المذاق. وقد فكرت فى ثمانينات القرن الماضى أيام كنت آخذ زوجتى القاهرية إلى القرية، التى صارت بسببى تحبها على نحو غير اعتيادى أثار استغراب أهل القرية أنفسهم متعلمين وغير متعلمين، أن أشترى من شارع درب الأثر بطنطا خلطة شديد، فأعطانا البائع ما طلبناه، لكن الخلطة كانت داكنة لا وردية، كما كان طعمها حريفا أكثر من اللازم، وتفتقر إلى نكهة الورد المنعشة اللذيذة.
ما علينا. نعود إلى حكاية الفلقة. لقد أحضرنى أبى وحاول أن يقررنى بما لم أفعل، ظنا منه أننى أكذب، فأؤكد له صادقا أننى لم أر تلك الفلوس التى ضاعت. إلا أنه ظل ورائى يقنعنى أنه لا بأس علىَّ إذا ما أقررت بالحقيقة، فكان أن انخدعت بالكلام المعسول، واعترفت، كذبا والله العظيم، أننى أخذت المال تصورا منى أن المسألة ستنتهى عند ذلك الحد، بيد أننى كنت واهما كبيرا، فقد شرع يسألنى ماذا فعلت به، فأخذت أقول إننى اشتريت حمصية وسمسمية، وحمصية وسمسمية، وحمصية وسمسمية، ثم حمصية وسمسمية لا أدرى للمرة الكم، ثم لم أستطع المضى فى شراء الحمصية والسمسمية مع أنه كان عندنا فى الدكان حمصية وسمسمية تكفى الأطفال المفاجيع فى الدنيا كلها وتفيض، فقلت له إن باقى الفلوس قد وقع منى وأنا ألعب فى السوق.
وهنا، وبعد أن ظننت أننى قد عبرت الامتحان بسلاسة وسلام، أخذنى أبى إلى سيدنا الشيخ مرسى فى جمعية المحافظة (فقد كان أحيانا ما يستقل بكُتَّابه هو وابنه الشيخ نبيه، وأحيانا ما كانا يدمجانه مع تلاميذ الجمعية ويصير زيت المشايخ كلهم فى دقيقهم)، وإذا بالشيخ مرسى ينادى: إلىَّ بالفلقة، فتأتيه الفلقة فى الحال، وتُشَدّ قدمامى فيها، وهات يا ضرب، فتستحيل قدماى كتلة من النيران الملتهبة حتى إننى لم أستطع بعد انتهاء العلقة أن ألبس حذائى ولا كان بإمكانى لمس الأرض دون مقاساة الآلام الفظيعة التى لا تطاق. وكانت هذه هى العلقة الفلقية الوحيدة التى نلتها فى المدرسة، وكانت علقة ظالمة. ولكن هل فى نفسى الآن أية غضاضة تجاه أبى أو سيدنا الشيخ مرسى؟ أبدا والله. لقد كانا يربياننى، وإن كانا قد أخطآ الطريق. ولكن النية كانت طيبة. ثم إن هذا الكلام قد وقع منذ ما يقرب من ستين عاما، ولا شك أننى لو كنت ظللت أنقم عليهما طوال تلك الأعوام لكنت صخرى القلب لا ألين. إلا أن هذه ليست طبيعتى، كما كان أبى ذا فضائل كثيرة، وكنت أحظى منه أنا بالذات بالتدليل والتشجيع، فكيف أنسى هذا كله ولا أتذكر إلا تلك الشدة التى أخذنى بها مرة وحيدة يتيمة بنية سليمة تبغى تقويمى، وتخشى انحرافى؟