تفسيرآيات من سورة الأعراف
(حديث تلفازى بعد تحويله إلى مقال)
د. إبراهيم عوض

 (2- 3)

أما فى  القرآن العظيم فلعل أكثر ما ورد فيه من ناحية التفصيل هو ما نقرؤه فى سورة "هود" من قوله تعالى: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِى الرَّأْى وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّى وَآَتَانِى رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِى إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِى مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِى خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّى مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِى أَنْفُسِهِمْ إِنِّى إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَى إِجْرَامِى وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِى إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّى لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِى تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ يَا بُنَى ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآَوِى إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِى مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِى وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِى الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِى وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِى مِنْ أَهْلِى وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّى أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)".
وجاء ذكر نوح عليه الصلاة والسلام كذلك فى سورة "يونس": "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِى وَتَذْكِيرِى بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَى وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِى إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِى الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)". كما أوردت الآية التالية من سورة "العنكبوت" تفصيلة لم تأت فى أى موضع آخر من كتاب الله: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)". ومثلها فى ذلك آية "التحريم"، التى تقول: "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)". وفى سورة "الشورى" تقابلنا هذه الآية المهمة التى توضح أن ما أتى به نوح  وغيره من الأنبياء وصولا إلى نبينا محمد، عليهم جميعا الصلاة والتسليم، شىء واحد فى خطوطه العامة، فهو التوحيد والإيمان بالآخرة والثواب والعقاب وما إلى هذا: "شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)".
وإلى جانب هذا هناك سورة كاملة، ولكنها قصيرة نسبيا، تسمى باسم النبى الكريم، وتمضى على  النحو التالى: "إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِى آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّى دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّى أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِى وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَى وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِى مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)".
وفى العهد القديم أن لامك سمى ابنه: "نوحا" كى يكون عزاء وراحة. ونص الكلام  هو: "وَدَعَا اسْمَهُ نُوحًا، قَائِلاً: «هذَا يُعَزِّينَا عَنْ عَمَلِنَا وَتَعَبِ أَيْدِينَا مِنْ قِبَلِ الأَرْضِ الَّتِى لَعَنَهَا الرَّبُّ»"، ولكننا لا ندرى متى لعن الله الأرض ولا السبب الذى جعله يلعنها. ثم كيف يكون نوحا تعزية عن لعن الأرض، وفى أيامه ثار الفيضان وهلك كثير من الناس؟ بل إنه هو نفسه قد لعن ابنه وحفيده وذريتهما، ودعا عليها أن يكون أفرادها عبيدا لأولاد سام ويافث! على أية حال هناك بين المفسرين المسلمين من يقول إن  اسم"نوح" مشتق من النواح لأن النبى الكريم كان كثير النوح على ذنبه. أى ذنب يا ترى؟ لا ندرى. ولوافترضنا أنه اجترح ذنبا فهل يمكن أن يرتكب أى نبى ذنبا يحعله كثير النواح؟ ثم هل ينبغى أن ننظر إلى هذا التفسير على أنه صدى لما قاله مؤلف سفر التكوين عن نوح من أنه شرب خمرا وانطرح على الأرض فبانت سوأته ورآها ابنه؟ على أية حال فاسم "نوح" ليس عربيا حتى يفسره المفسرون على أنه من "النواح"، إذ أين نوح من لسان العرب؟ لكن هل معنى هذا أن ما يقوله كاتب العهد القديم فى تفسيره صحيح؟ ولا هذا أيضا. ذلك أنهم يقولون إنه يعنى الراحة والعزاء فى العبرية، فهل كانت ثم عبرية فى ذلك الزمان؟ إن نوحا، كما يقولون هم أنفسهم، يمثل الجيل العاشر بعد آدم، أى أنه كان قريبا جدا من بداية البشرية، فأين هذا من لسان بنى إسرائيل، وقد سبقهم نوح بكل ذلك الزمن الطويل؟ وهكذا نرى أننا ندور فى حلقة مفرغة، فالأفضل أن نطوى كَشْحًا عن هذه المسألة وننشغل بما يفيد. ثم هل من المعقول أن كل أب فى العهد القديم لم يكن يُقْدِم على اختيار اسم لابنه إلا بعد روية وتفكير وتعمق فى اشتقاقات لفظ التسمية حتى يكون له معنى؟ ألا إن هذا لغريب، وبخاصة فى تلك الأزمان السحيقة فى تاريخ البشرية حيث لم يكن الناس ذوى وعى فكرى ولغوى حاد ونافذ على ذلك النحو المزعوم.
كذلك يقول مؤلف السفر المذكور إن الله قد أعطى نوحا وأولاده قوس قزح علامة على  الميثاق الذى عقده مع البشر والذى بمقتضاه لا يقدم  سبحانه على إغراقهم كرةأخرى، وإن كنا لا ندرى متى كان ذلك ولا أين لأن العهد القديم لم يقل شيئا عن هذا. وسؤالنا هو: أليس قوس قزح ظاهرة طبيعية تقع كلما توافرت شروطها وأسبابها؟ فكيف يكون علامة على ميثاق بين الله وعباده؟ وهل معنى هذا أن قوس قزح لم يكن له وجود قبل الطوفان؟ كيف؟ وهل الله بحاجة إلى ما يذكره بميثاق واثق به عباده؟ ترى هل هو ينسى أو يسهو؟ أما القرآن فليس فيه شىء من ذلك بتاتا!
أما التسعمائة والخمسون عاما فإنها فى العهد القديم هى عمر نوح على حين يقول القرآن فى سورة "العنكبوت" إن نوحا قد لبثها فى قومه، وهو ما يُفْهَم منه أن تلك هى المدة التى استغرقتها دعوة نوح لا عمره كله. قال تعالى: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14)". وثم شىء آخر نخرج به من هذه الآية، ألا وهو أن رسالة نوح كانت محلية. ذلك أنها تقول إنه أُرْسِل إلى قومه، ولبث فى قومه تلك المدة لم يخرج عنهم ولا بعث نيابة عنه أحدا لتبليغ رسالته خارج قومه. ولم يرد فى القرآن عن أى نبى من الأنبياء أنه عالمى الدعوة حاشا سيدنا محمدا، الذى قيل عنه: "وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا"، "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" وغير ذلك من الآيات، والذى روت لنا كتب السيرة والتاريخ أنه بعث برسائل إلى الملوك والأمراء من حوله يدعوهم فيها إلى اعتناق الإسلام. كما أوضحت الأحاديث النبوية أن رسالته عليه الصلاة والسلام هى الرسالة الوحيدة العالمية بين رسالات الأنبياء، ومنها هذا الحديث الذى رواه مسلم: "فُضِّلْتُ على الأنبياء بسِتٍّ: أُعْطِيتُ جوامع الكلم، ونُصِرْتُ بالرعب، وأُحِلَّتْ لى الغنائم، وجُعِلَتْ لى الأرض طهورا ومسجدا، وأُرْسِلْتُ إلى الخلق كافَّة، وخُتِمَ بى النبيون". وبالنسبة إلى نوح، الذى يذكر العهد القديم ذاتُه أنه كان لا يفصل بينه وبين آدم عدا عشرة أجيال، لا يمكن أن تكون رسالته من الناحية الواقعية والجغرافية عالمية، وإلا فكيف له بتبليغها إلى العالم كله فى ذلك الزمان السحيق حيث لم يكن العالم قد تقارب بعد، بل حيث لم تكن فكرة العالمية ذاتها مطروحة فى دنيا الأفكار والسياسات؟ ثم إن كاتب سفر "التكوين" نفسه لم يقل شيئا من هذا. فكيف تسول لبعض المفسرين المسلمين القدماء أنفسهم القول بأن نوحا كان صاحب رسالة عالمية؟ ومن أين لهم ذلك؟ وممن قال بذلك القاضى عياض: قاله على سبيل الافتراض حلا نظريا لمشكلة اختلقها المفسرون كان ينبغى أن يحتكموا فيها للتاريخ والمؤرخين لا للفكر الافتراضى النظرى، وإن كان عذرهم أن التاريخ فى عصرهم لم يكن قد تقدم إلى الحد الذى يستطيع عنده أن يجيب على السؤال التالى: مَنْ أسبق من الآخر: نوح أم إدريس؟ فهذا هو السؤال الذى كان من جرائه أن افترض القاضى عياض عالمية رسالة نوح وتغييها الناس كافة من كل جنس ووطن كنبينا عليه السلام رغم كل ما أشرنا إليه مما قاله القرآن والرسول والواقع التاريخى عن اختصاص سيدنا رسول الله بعالمية دعوته دون الرسل والأنبياء جميعا.
وفى تفسير الكتاب المقدس المسمى: "William Neil’s One Volume Bible Commentary" أن مقاسات الفُلْك الذى صنعه نوح وسعته من الداخل، طبقا لما ورد فى العهد القديم، لا تتناسب أبدا مع الأعداد الغفيرة والمتنوعة لركابه، الذين كان عليهم أن يعيشوا فيه ويأكلوا، وأننا لو أخذنا ما جاء فى سفر "التكوين" عن الفيضان على حرفيته لكان علينا أن نصدق أن هذا الفيضان قد غمر وجه البسيطة كلها بعمق خمسة أمتار، وهو ما لا علاقة له بالتاريخ البتة. ويُرْجِع التفسيرُ المذكورُ ذلك  الاضطرابَ إلى أنه لم  تصلنا أية سجلات مكتوبة لتاريخ بنى إسرائيل إلا بعد إبراهيم بألف عام ، وأن ما هو مكتوب فى سفر "التكوين" إنما كُتِب بعد ذلك بعدة قرون ، ولذلك لا ينبغى أن نتوقع الدقة التاريخية بمعناها الحالى فى هذه الأصحاحات لا فى الأحداث ولا فى الحوار.
أما القرآن فلا يذكر أبعاد السفينة ولا يفصّل القول فى الأجناس التى حملها نوح معه فى الفلك ولا فى أعدادها، ومن ثم لا توجد أدنى فرصة للقول بأنه قد أخطأ فى هذا أو ذاك مما يأخذه الآخذون على الكتاب المقدس. وهنا يحضرنى ما قاله د. جيفرى لانج أستاذ الرياضيات الجامعى الأمريكى المسلم فى كتابه: ":Struggle to Surrender النضال من أجل الاستسلام" عن زميل له بالجامعة متخصص فى مقارنة الأديان يقرّ بأن القرآن الكريم أدقُّ من الكتب المقدسة الأخرى فعلا، لكنه عَزَا ذلك إلى عبقرية محمد لا إلى كونه نبيا اختاره الله ليبلغ رسالته. أما وجه عبقريته صلى الله عليه وسلم، حسبما قال الزميل المذكور، فتتلخص فى أنه كان صاحب بصيرة نافذة جعلته، عند اقتباسه من الكتب السماوية السابقة، يتلافى الأسباب التى أدت إلى ما فيها من تناقضات، فكان حريصا على أن ينقّى القرآن من التفاصيل والمقادير والتواريخ والأماكن والأرقام وما إلى ذلك تجنبا للتناقضات التى وقعت فيها تلك الكتب. ويرد لانج على ذلك قائلا إن القرآن ليس مجرد إعادة لما قاله الكتاب المقدس عن الأنبياء السابقين، بل هناك اختلافات بين الروايتين فى كثير من الحالات، فضلا عن أنه يصحح بعض الأشياء فيما يحكيه الكتاب المقدس فى هذا الصدد. مثال ذلك ما قاله العهد القديم عن رحلة يوسف وإخوته إلى مصر عبر سيناء وأنها تمت على ظهور الحمير، تلك الدواب التى لا تصلح للصحراء، بينما يقول القرآن إنهم استخدموا الإبل، والجمل هو سفينة الصحراء كما هو معروف. ومن ذلك أيضا ما اتهم به الكتابُ المقدس سليمانَ عليه السلام من أنه عبد الأوثان وأغضب ربه عليه فى حين ينفى عنه القرآن ذلك تماما. وبالمثل نرى العهد الجديد يؤكد صلب المسيح عليه السلام فى الوقت الذى ينكر فيه القرآن ذلك إنكارا قاطعا... إلخ. فكيف يقال إن النبى محمدا قد اعتمد على ما يقوله الكتاب المقدس بعد أن حذف ما فيه من تفاصيل وأرقام وما إلى ذلك تجنبا للوقوع فى الخطإ؟ ولنفترض أن ما قاله الأستاذ الأمريكى صحيح أفليس غريبا أن يكون محمد، رغم بشريته، أذكى وأحرص وأدق من...؟ ممن؟ لا أريد أن أكمل، بل أترك الأمر للماحية القارئ.
  وقد جاءت الآيات التى نحن بصددها من سورة "الأعراف" فى سياق سلسلة من القصص المتتالية عن بعض رسل الله صلى الله عليهم وسلم، تتحدث كل منها عن قوم رسول من الرسل فيفاجأ القارئ بأنهم يتصرفون ذات التصرف ويعاندون رسولهم على نفس النحو ويتهمونه نفس  الاتهامات ويؤذونه نفس الإيذاءات، وتكون النهاية واحدة، وهى هلاك الكفار أو اندحارهم أمام طوفان الدعوة الجديدة التى وقفوا فى طريقها وعاندوا صاحبها وكفروا به وبالقيم الكريمة التى أتاهم بها. وهذه القصص كثيرا ما كررها القرآن على مسامع النبى صلى الله عليه وسلم، تثبيتا لفؤاده وتطمينا لقلبه ورفعا من معنوياته فى وجه عصيان قومه وقلة أدبهم، وتحطيما لروحهم الأدبية وتحديا لهم بأنهم لن يستطيعوا أن ينالوا من الدعوة الجديدة منالا مهما أنفقوا من جهد ومال لوقف تقدمها والحيلولة بين الناس وبين الإيمان بها. ومما يلاحظه الإنسان فى القرآن فى مثل هذا السياق أيضا أنه منذ وقت مبكر يلح على أن الدين الذى جاء به محمد منتصر لا محالة، ويدعو المشركين إلى العمل على مكانتهم، ويصكهم فى وجوههم وأنوفهم بأنهم منتهون إلى الفشل لا محيص عن ذلك. وقد انتهى الأمر بانتصار الإسلام على الأديان كلها وانتشاره فى أرجاء الأرض كما قال القرآن والحديث مرارا وتكرارا واندحار أعدائه اندحارا عاتيا رغم كل الإمكانات الجبارة التى كانوا يتمتعهون بها فى الوقت الذى كانت الإمكانات المادية الإسلامية صفرية أو تكاد.
وكثيرا ما تساءلت: لماذا لا يستجيب البشر لنداء الحق والعقل؟ وسرعان ما يواتينى الجواب باترا: لأن البشر ليسوا عقلا فقط ولا هم طلاب حق فقط. إنهم عقل وعواطف وشهوات وأهواء ونزوات وعادات وتقاليد. كما أنهم ليسوا أفرادا منفصلين مستقلين فحسب، بل هم كذلك مجتمع متصل متماسك يؤثر بعضه فى بعض. وبالمثل ليس البشر باحثين عن الحق ساعين وراءه دائما، بل كثيرا ما يجرون وراء الباطل والأوهام والأكاذيب. وفوق هذا قد يُغِذّون السير فى الطريق الخطإ وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا وأنهم ماضون على الصراط المستقيم. وقد يكون ضيق الأفق هو السبب فى ابتعادهم عن الصواب وكراهية الحق. وقد يكون الخوف من أصحاب النفوذ هو السبب، وقد يكون الخوف من الجماهير الغاشمة هو السبب، وقد يكون التضليل الذى تمارسه السلطات المجرمة هو السبب، وقد يكون الخوف على المصالح هو السبب، وقد وقد وقد. ثم لا ينبغى أن يغيب عن بالنا الحقيقة المرة المتمثلة فى أن الحق يتطلب من أصحابه تضحيات هائلة مالية ونفسية واجتماعية، كما أنه كثيرا ما جر على ناشده ضروب الأذى والعدوان. وليس كل الناس قادرا على التضحية، ولا القادر عليها مستطيعا الاستمرار فيها. إن البشر بوجه عام ضعاف المُنَّة نافدو الصبر يكرهون ما يزعجهم وما يجلب لهم وجع الدماغ. وقليل ما هم المستعدون لتحمل تبعات المبادئ الراقية. على أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، بل إن تراخِىَ الزمن حَرِىٌّ بتفكيك حماسة المتحمسين وإنسائهم واجباتهم ودفعهم إلى الإخلاد للأرض. إن الدنيا خضرة نضرة مغرية، والشهوات عارمة عاتية، والقادرون على الوقوف فى وجهها قليلون قليلون. والناس، حسبما وضح الرسول الكريم، كإبل مائة لا نكاد نجد فيها راحلة. وكاتب هذا الكلام لا يستثنى نفسه من ذلك، وكل ما يرجوه ويأمله هو ألا يكون بين أسوئهم، بل أن يكون فيه أَثَارَةٌ من الخير لنفسه وللنا س من حوله ولدينه ووطنه.
والغريب أن ينقلب الوضع فيهاجم الضالون المضلون أهل الخير والتقى والصلاح والاستقامة بالضلال، متهمين إياهم بما فيهم هم على طريقة "رمتنى بدائها وانْسَلَّتِ" بل على ما هو من هذه الطريقة لأن المشركين حين يرمون النبيين والمرسلين بدائهم لا ينسلّون مبتعدين عنهم بل يؤذونهم ويتآمرون عليهم ويضعون فى طريقهم العقبات ويعملون بكل سبيل على إفشالهم وإخزائهم، وكثيرا ما يخططون لقتلهم، وكثيرا ما ينجحون فى هذا التخطيط، وبدلا من أن ينظروا فى أنفسهم ليَرَوْا عيوبَهم ويصلحوا شأنهم ها هم أولاء يعيبون الصالحين ويقولون عنهم إنهم هم الضالون. ومن شأن هذا الوضع تعقيد الأمور والبعد عن طريق الحل. وأغرب من ذلك أن يجد الرسل أنفسهم فى وضع يتطلب منهم  نفى هذه التهمة الظالمة الضالة عوضا عن أن يقوم الكافرون المنحرفون بنفض هذه التهمة عن أنفسهم. ولا ريب أن كثرة المعادين للرسل، وهم المجتمع كله تقريبا فى البداية، تصعِّب من مهمتهم أيما تصعيب. نعم إن الأمر قد تخف حدته مع توالى الأيام، لكنه يأخذ وقتا، ومع ذلك فإن نقص حدة المشكلة لا يعنى اختفاءها بل يعنى فقط أنها لم تعد بنفس الدرجة من الشدة والتعقيد، لكنها موجودة وتحتاج من الرسول إلى جهود غير عادية. إنها الكثرة والقوة المادية الغشوم. وهو عامل خطير لا ينبغى التهوين من شأنه، فهو سبب كثير مما يقع للرسل والأنبياء والمصلحين من مصائب وبلايا، وكوارث فى غير قليل من الأحيان حتى ليُقْتَل النبيون أحيانا كما أخبرنا القرآن الكريم فى بعض آياته، ومثلهم فى ذلك دعاة الخير والمتمسكون به. كما يثير العجب والاستغراب أن ينكر ويستنكر قوم نوح اصطفاء الله له للنبوة على أساس أنه واحد من البشر لا يفترق عنهم بشىء، وفاتهم أن يباركوا هذا الاصطفاء لأنه يبين أن الجنس البشرى، الذين ينتمون إليه ويشكلون جزءا منه، مؤهل للقيام بذلك الدور العظيم، وهو ما يعد تكريما لذلك الجنس ولهم أيضا بالتبعية. أم تراهم يريدون أن يقولوا: ولماذا اختار واحدا من البشر مثلنا، ولم يخترنا نحن؟ وهذا افتئات على الله لأنهم، بهذه الطريقة، يريدون أن يعترضوا على مشيئة الله ويعدّلوا اختياراته. فهل يحق هذا لمخلوق؟

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 65 مشاهدة
نشرت فى 7 إبريل 2015 بواسطة dribrahimawad

عدد زيارات الموقع

33,979