تفسير الآيتين 7- 8 من سورة "آل عمران"
(هذا المقال هو فى الأصل حديث تلفازى)
د. إبراهيم عوض
"هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)"- آل عمران
================================================
* أُخَر: جمع "أُخْرَى". وهذه الصيغة الجمعية يكون مفردها إما "فُعْلَة" (اسما) أو "فُعْلَى" (صفة مؤنث "أَفْعَل")، مثل "حُجْرَة- حُجَر"، "غُرْفَة- غُرَف"، "ثُلَّة- ثُلَل"، قُلَّة- قُلَل"، "غُرْزَة- غُرَز"، "عُقْبَة- عُقَب"، "حُجَّة- حُجَج، جُمْعَة- جُمَع"، "نُغْبَة- نُغَب"، "لُمْجَة- لُمَج"، "مُدْية- مُدًى"، و"أُولَى- أُوَل"، "صُغْرَى- صُغَر"، "كُبْرَى- كُبَر"، و"دُنْيا- دُنَى"، "شُقْيا- شُقَى"، "عُلْيا- عُلاَ". ولما كانت صيغة "فُعَل" لا تنوَّن إذا كانت علما أو وصفا خاليا من "أل" والإضافة، ولما كانت "أُخَر" وصفًا على وزن "فُعَل" فقد مُنِعَتْ من التنوين كما فى هذه الآية وكما فى قوله تعالى: "فعِدَّةٌ من أيامٍ أُخَرَ". ومن الأعلام التى أتت على هذه الصيغة فمنعت من التنوين "عُمَر، زُفَر، قُزَح، هُبَل، زُحَل، بُرَع (جبل بتهامة منسوب إليه الإمام البُرَعِىّ صاحب المدائح النبوية)، صُرَد (قرية من قرى الغربية تابعة لمركز قطور)، عُبَد (تدليل لعبد الله وعبد الرحيم وما أشبه)، مُضَر، جُمَح، دُلَف، قُثَم، بُقَم".
* ربنا، لا تُزِغْ قلوبنا بعد إذ هديتَنا: هنا نجد أن الهداية والإزاغة (الإضلال) منسوبتان إلى الله سبحانه، وكأن العبد لا يملك من أمر نفسه شيئا، بل هو ريشة فى مهب الريح يؤخَذ يمينا وشمالا وفوقا وتحتا وأماما وخلفا دون أن يكون له رأى ولا دخل فيما يحدث له. وفى القرآن آيات كثيرة مثل هذه الآية، لكن فيه أيضا آيات كثيرة أخرى تعزو الهدى والضلال إلى الإنسان نفسه، مما يمكن أن يخيَّل معه لبعض المتعجلين السطحيين أن ثم تناقضا فى الأمر. فما حقيقة الأمر؟ لقد درست تلك القضية منذ أكثر من عقدين من الزمان، وكنت بصدد وضع تفسير لسورة "الرعد" حين كنت معارا لتربية الطائف التابعة لجامعة أم القرى بمكة، فوجدت أن المشيئة تواكب البشر منذ كانوا فى الجنة الأولى وبعد هبوطهم إلى الأرض ثم بعد دخولهم الجنة الأخروية. وسوف أفصل القول فى هذه المسألة بعد قليل. لكن لا ينبغى أن ننسى أن هذه المشيئة هبة من الله، وأنه إذا كان لى أو لك أو لها أو لها مشيئة فإن لكل واحد آخر من البشر مشيئة مماثلة. ومعنى هذا أن هناك فى عصرنا مثلا مليارات المشيئات، بالإضافة إلى قوانين الكون التى يمكن النظر إليها على أنها تمثل مشيئات الأشياء التى تسير عليها. وهذا كله هبة من الله أيضا. بل إن كل شىء فى الكون من بشر وحيوان وجماد وأفكار ومشاعر هو من خلق الله.
فكما ترى فالله هو خالق كل شىء: الأشخاص ومشيئاتهم، والكون كله بقوانينه ونظامه. ومشيئات العباد وقوانين الكون هى مظهر مشيئة الله. فمشيئة الله مطلقة، ومشيئتنا نسبية محدودة لأن هناك مشيئات أخرى تناقضها وتعاكسها وتوقفها عند حدها. ومشيئة الله ذاتية، أما مشيئتنا فموهوبة مستمدة من مشيئته سبحانه ومنغمرة فيها. خلاصة المسألة أن مشيئة الله المطلقة قد شاءت أن تكون لنا مشيئة محدودة. ولو شاء الله أن يسلب منا تلك المشيئة لسُلِبَتْ، لكنه لا يشاء، ومن ثم فمشيئتنا متوافرة. صحيح أنها مشيئة محدودة كما قلنا، إلا أنها تنجز ما يشبه المعجزات. أليست كل ثمار الحضارة منذ آدم حتى يوم الناس هذا هى من بركتها؟ لكن ينبغى ألا ننسى أبدا أنها هبة من الله. وعلى هذا فلو قلنا إن الهداية والضلال هما من الله فنحن صادقون، وبالمثل لو قلنا إننا مسؤولون عن تصرفاتنا وأعمالنا واقوالنا لكنا أيضا صادقين: نحن صادقون فى الأولى على المستوى الإلهى المطلق، ونحن صادقون فى الأخرى على المستوى البشرى النسبى. ومن هنا يمكننا الآن أن نفهم مغزى ورود هذين النوعين من الآيات.
وهذا مبحث المشيئة كما كتبته فى تفسيرى لسورة "الرعد" حسبما ذكرت آنفا: "وقد لاحظت من استقصائى لآيات المشيئة أن فاعل المشيئة فى الأغلبية منها هو الله سبحانه وتعالى، سواء بلفظ الماضى (وحينئذ يكثر مجيء الفعل بعد أداة الشرط "لو" أو "إنْ" فى القليل) أو بلفظ المضارع (والغالب أن تسبقه "مَنْ" الموصولة مفعولا به). وفى الآيات التى لم يكن لفظ الجلالة هو الفاعل للمشيئة كان الفاعل هو البشر أو أحدهم. ولم يحدث أن أسند القرآن المشيئة، من دون الله، لغير البشر. وهذه نقطة على قدر جدّ عظيم من الأهمية. وهذه هي الآيات التى نُسبت المشيئة فيها للإنسان، أفرادا بأعيانهم أو جنسه كله: "وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ"، "إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً"، "نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ"، "كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاء ذَكَرَه"، "إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً"، "ذَلِكَ اليوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا"، "كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاء ذَكَرَه"، "إنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ * لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ"، "قَالَ (أى موسى للعبد حين أقام الجدار للغلامين اليتيمين بلا أجر): لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عليهِ أَجْرًا "، "فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ (يا أيها الرسول) لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ "، "وَإِذْ قُلْنَا(أي لبني إسرائيل)ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدا"، "نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ "، "وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ "، "فَاعْبُدُوا (أيها الكفار) مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ (أى من دون الله)"، "اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ "، "اسْكُنْ (يا آدم) أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدا حَيْثُ شِئْتُمَا "، "وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا"، "تُرْجِي (ياأيها النبى)مَن تَشَاء مِنْهُنَّ (أي من زوجاتك)وَتُؤْوِي إليك مَن تَشَاء"، "وَقَالُواْ هَـذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء"، "وَإِذَا تُتْلَى عليهمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَـذَا"، "قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء"، "وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء"، "يعْمَلُونَ (أى الجنّ لسليمان عليه السلام ) لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ"، "تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤُونَ"، "لَهُمْ فِيهَا (أي فى الجنة) مَا يَشَاؤُونَ"، "لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ"، "لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ"، "لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا (أى فى الجنة) وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ".
ومن هذه الآيات يتبين الآتي:
أن القرآن قد أسند المشيئة إلى البشر: أفرادا أو جنسا ثماني وعشرين مرة (زائد مرتين سنذكرهما بعد قليل )، وليس هذا بالشيء القليل.
أن معظم هذه الآيات تنتمي إلى العهد المكى، وبعضها إلى أوائل الوحي، مما يدل على أن القرآن قد جلَّى هذه النقطة منذ أوائل الدعوة، وهذا يدل على شدة اهتمامه بها وأنه لم يشأ أن يتركها غامضة، بل حسمها منذ البداية.
أن الله سبحانه وتعالى قد عَزَا المشيئة فى أكثر من موضع إلى آدم وزوجه، وهما أصل البشرية. ومعنى ذلك أن المشيئة مقررة للبشر منذ أول الخلق، وليست شيئا طرأ على الإنسانية من بعد. وفوق هذا فإن إسناد المشيئة إلى آدم وحواء كان وهما لا يزالان فى الجنة لم يهبطا منها إلى الأرض بعد، وهذا له دلالته ومغزاه.
أن القرآن ينسب المشيئة لبني آدم أيضا فى الآخرة، أي أن المشيئة لن تفارق المؤمنين حتى فى العالم الآخر. فهي إذن ليست شيئا مؤقتا، بل شيئا أصيلا فيهم منذ أن كانوا فى الجنة الأولى (جنة ما قبل الأرض)، وستظل معهم فى الجنة الثانية (جنة ما بعد الموت).
فإذا أضفنا الآيتين التاليتين من آيات المشيئة الإنسانية: "وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ"، "وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ" اتضح لنا أن مشيئة الإنسان ليست من عنده، بل هي من عند الله سبحانه وتعالى، أي أن الله عز وجل شاء لنا أن نشاء. فهى إذن ليست مشيئة مستقلة، كما أنها ليست مطلقة. وهذا ما يفرق بينها وبين مشيئة رب العالمين. فمشيئة الله هى من عنده، وهى مشيئة مطلقة غير محدودة. أما مشيئتنا فهى هبة من الله وتكريم منه لنا، وهى أيضا لا تستطيع أن تحقق كل شيء.
وإذا تتبعنا آيات المشيئة الإلهية فى القرآن الكريم فإننا نجدها تتعلق بكل شيء، فهو يبسط الرزق على من يشاء ويضيقه على من يشاء سواء كان الرزق مالا أو ذرية أو حكمة أو سلطانا، وهو يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، وهو ينصر من يشاء ويهلك من يشاء، وهو يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وهو يضع رسالته حيث يشاء، وهو إن شاء حرك الريح وإن شاء أسكنها، وهو يرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء ويجنبها من يشاء، وهو ينزل المطر على من يشاء ويصرفه عن من يشاء". وهكذا، وهكذا. ومشيئة الله سبحانه ليست شيئا غير منضبط، بل تأخذ طريقها من خلال السنن الكونية التى أجرى الله عالمه على أساسها. وقد اقتضت مشيئته، كما رأينا من آيات القرآن الكريم، أن يكون للإنسان مشيئة، ولكنها كما قلنا مشيئة مقيدة وغير مستقلة. وبهذه المشيئة يحاول الإنسان أن يشق طريقه، بعون الله وفضله، خلال "السُّنَن (أو ما نسميه اليوم: القوانين) الإلهية". وبقدر ما يكتسبه الإنسان من العلم ويكتشفه من هذه القوانين تصبح حركته أكثر حرية. ولنضرب مثلا على ذلك: فالإنسان منذ دهور سحيقة يحلم بأن يطير. ولكن مشيئته هذه كانت تصطدم بقانون الجاذبية، الذي لم يكن يفهمه ولا يستطيع أن يتعامل معه. وقد حاول تعويض ذلك باختراع الأساطير التى يصور فيها طيران بعض البشر فى الهواء. أما بعد تقدم العلم وانكشاف قانون الجاذبية وغيره من القوانين التى تحكم ظاهرة الطيران استطاع الإنسان بفضل خالقه ورعايته، أن يخترع المناطيد والبالونات والأشرعة والطائرات وسفن الفضاء، التى مكنته أن يحول حلمه القديم إلى واقع، وبهذا يكون قد نفذ مشيئته. ومع ذلك فإن حياة الإنسان لا تزال وستظل مملوءة بألوان النقص والعجز. ومهما حقق الإنسان من آمال وأحلام فستبقى آماله وأحلامه التى لم تتحقق أكثر، ذلك أن مشيئته، كما قلنا ونكرر، هى مشيئة محدودة وغير مستقلة.
ونختم هذا المبحث بهذه الآيات التى تؤكد وجود المشيئة الإنسانية، وأنها مستمدة من مشيئة الله سبحانه، وإن لم يستخدم القرآن فيها لفظ "المشيئة": "ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ"، "إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ"، "وَيَهْدِي إليهِ مَنْ أَنَابَ"، "قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ"، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ"، "وَيَهْدِي إليهِ مَنْ أَنَابَ". وهذا الجزء من الآية يؤكد ما قلناه من أن للإنسان مشيئة وإرادة. فالله سبحانه كما تقول الآية هنا يهدي إليه من يرون الحق فيتبعونه، أي يهدي من يشاءون أن يهتدوا. أما أولئك الذين آثروا العمى واستحبوه على الهداية وعاندوا وحجدوا فقد اقتضت مشيئته أن يتركهم وما شاؤوه لنفسهم، وهو الضلال".
وفى ضوء ما قلناه من أن للبشر مشيئة سوف نحاسب على أفعالنا. ولكنا قد عرفنا أن مشيئتنا ليست مطلقة بل نسبية محدودة، وعلى هذا فالحساب سيكون طبقا للوسع الذى كان لنا ساعة اجتراحنا ما فعلناه” وهذا معنى قوله سبحانه: "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها". وليس حساب شاب تربى فى بيئة راقية مستقيمة ومثقفة ووجد من يرشده وينصحه ويأخذ بيده وتَوَافَرَ له من الرخاء ما لا يضطر معه إلى ارتكاب الدنيّات اضطرارا كحساب شاب تربى فى بيئة منحرفة جاهلة لا تجد قوت يومها فتضطر إلى ارتكاب ما لا يليق وما لا يحل. بوجه عام سوف يكون حساب الثانى أخف لأن الوسع المتاح له كان ضيقا حرجا بخلاف الآخر الميسور الذى كانت الظروف كلها فى صالحه تعينه على عمل الصواب وتدفعه إلى عمل الخير. ولا ينبغى أن ننسى قول الحق تبارك وتعالى فى سورة "النساء": "وخُلِق الإنسانُ ضعيفًا"، أو قول الرسول عليه السلام: "كل بنى آدم خَطّاء، وخير الخطائين التوابون"، "والذي نفسي بيدِه لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله، فيغفر لهم"... إلخ.
ونضرب مثلا يوضح ما نقول. فالواحد منا حين يفعل شيئا يكون عرضة لتنازع عدد من العوامل: فهو واقع تحت ضغط غرائزه سواء الجسدى منها أو العقلى أو النفسى، كما يكون واقعا تحت ضغط المجتمع الذى يعيش فيه بتقاليده وأعرافه وقوانينه وسلطاته ومؤسساته، مثلما يكون واقعا تحت ضغط ماضيه من تربية تلقاها فى البيت، وتعليم تعلمه فى المدرسة، وصحبة تشرب منها الكثير، وقراءة حصل منها ما حصل، وتفكير مارسه وتوصل من خلاله إلى بعض الآراء، وعادات تكونت لديه، وقيم ثقافية وأخلاقية وذوقية واجتماعية يعتز بها، وسنن كونية تحكم ذلك، وهذا كله فى مقابل إرادته. وهى، كما وصفناها آنفا، إرادة نسبية ومحدودة وموهوبة، لكنها تصنع الأعاجيب مع ذلك. وما من موقف أو ظرف يكون فيه الإنسان وينوى فيه أن يعمل شيئا إلا وتتنازعه العوامل المذكورة. وهى عوامل بعضها يعمل فى مصلحته، وبعضها يعمل ضد تلك المصلحة، مثلما يدفعه بعضها إلى الأمام بغية الإنجاز، فى حين يدفعه بعضها الآخر إلى الوراء صدا له عن ذلك الإنجاز. وعلى قدر حرية الإرادة فى كل موقف يكون الحساب. والله وحده هو الذى يمكنه الحكم على هذه الإرادة ومدى استقلاليتها فى كل موقف.
على أن هذا التنازع بين العوامل المختلفة ليس مقصورا على الأفعال فقط، بل يشمل عالم الاعتقاد أيضا. يقول الله تعالى: "وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا".وقد بين العلماء كالغزالى والرازى ورشيد رضا وشلتوت وغيرهم أن الكافرين الذين سيكون عقابهم جهنم، وبئس المصير، هم الذين بلغتهم الدعوة المحمدية فعلا على وجهها الصحيح لا على وجه فاسد لا يمثلها ثم كان لديهم من الوقت والظروف ما يمكنهم من النظر فيها والتوصل إلى أنها حق، وتبين لهم أنها هى الحق الذى ينبغى اعتناقه ثم لم يفعلوا، بل عاندوا وركبوا رؤوسهم واستمسكوا بكفرهم وجحودهم وشاقّوا الرسول وحاربوه وتآمروا على دعوته. أما من لم يتبين له الهدى فضَلَّ عن سواء السبيل فهناك رجاء أن يكون تحت جناح الرحمة. وهذا هو ما يليق بفضل الله ورحمته وكرمه وبره بعباده.
* هب لنا من لدنك رحمة: من أسماء الله الحسنى "الرحمن الرحيم الحليم البَرّ الودود". وإن حياتنا لتقوم على الرحمة الإلهية: فالله خلقنا وأبرزنا من العدم إلى الوجود، وفى هذا الإبراز رحمة، فلأن تكون موجودا تحس بذاتك وتكون شيئا خير من ألا تكون. ومن رحمته أيضا أنْ هيأ لنا فى رحم أمنا الغذاء والتنفس والأمان دون سعى منا ولا جهد ولا كد ولا تطلع، بل وضع أمهاتنا فى خدمتنا بلا مقابل، بل جعلهن يجدن لذة فى هذا رغم المتاعب التى يقاسينها. ومثلها فترة الرضاعة. ثم هو سبحانه قد زودنا بالسمع والإبصار والشم واللمس والشعور، وبها ندرك الوجود ونستمتع به ونبصر طريقنا فى الحياة ونتدبر أمورنا. كما وهبنا القابلية للتعلم واكتساب المعرفة التى بها نشق سبيلنا فى الدنيا على نور وعلم وغرس فيها شهوة الفضول التى من شأنها أن تسوقنا إلى التعلم سوقا. ثم هو قد زودنا بغرائز من شأنها تسهيل مهمتنا فى الحياة وتحميسنا للعمل والتقدم. وبالمثل أخدمنا كل عناصر الكون: ما نعرف منها وما نجهل.
وفوق ذلك فالحساب الأخير قائم على الرحمة. ذلك أن الواحد منا إذا ما ارتكب سيئة كُتِبَتْ له سيئة واحدة، وقد تُغْفَر له. أما إذا ما اجترح حسنة فإنها تُكْتَب له عشرا وتتضاعف سبعمائة ضعف ثم بعد ذلك إلى ما شاء الله. بل إنه إذا ما نوى ارتكاب سيئة ثم عدل عنها فلم يرتكبها حُسِبَتْ له حسنة، أما إذا كان قد عزم على عمل حسنة لكن قامت فى وجهه عقبة فإنها تُكْتَب له أيضا حسنة... بل إنه سبحانه ليعلن لعباده أنه يغفر الذنوب جميعا فكأنها لم تكن، وأن باب التوبة مفتوح دائما أبدا ليل نهار، وأنه سبحانه يفرح بتوبة عبده أشد الفرح. وهو عز وجل لا يكلف نفسا إلا وسعها. كما يوضح لنا الرسول عليه السلام أن الرحمة التى نعيش فى كنفها هنا على الأرض لا تمثل من الرحمة الإلهية سوى جزء واحد من مائة جزء، ويوم القيامة يضم سبحانه الأجزاء المائة جميعا ويعامل الناس بها: "لَلَّهُ أرحمُ بعبادِهِ من الوالدةِ بولدِها. إنَّ اللَّهَ خلقَ الرَّحمةَ يومَ خلقَها مائةَ رحمةٍ أنزلَ منْها رحمةً واحدةً، فبِها يتراحمُ الخلقُ حتَّى إنَّ الدَّابَّةَ لترفعُ حافرَها عن ولدِها من تلكَ الرَّحمةِ، واحتبسَ عندَهُ تسعًا وتسعينَ رحمةً، فإذا كانَ يومُ القيامةِ جمعَ هذِهِ إلى تلكَ فرحِمَ بِها عبادَه".
والرسول نفسه والدين الذى جاء به رحمة مهداة: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين". وهذا صحيح مائة فى المائة، فقد جاءنا ليخرجنا من ظلمات الشرك والكفر والجحود الذى لا يليق ببنى الإنسان إلى نور التوحيد وسموه، ومن التظالم إلى العدل، ومن القمار والربا والخمر والزنا إلى العفة والعمل المنتج النافع، ومن الجهل إلى العلم، ومن الذلة إلى العزة، ومن عماية الشهوات إلى ضوء العقل والفهم، ومن التفكك والتشرذم إلى الوحدة والتكتل، ومن الكسل والتبلد إلى حمية العمل والنشاط المفيد المثمر، ومن التفاخر بالأحساب والأنساب إلى الاعتماد على القيمة الذاتية للإنسان النابعة من إنجازاته واجتهاداته، ومن الأنانية إلى الإحساس بالآخرين والتعاون معهم ومد يد المساعدة للمحتاجين والمسحوقين منهم.
وأخيرا وليس آخرا ما من مرض يعترى الإنسان أو أذى ينزل به أو ظلم يتعرض له أو حرمان يُفْرَض عليه فرضًا دون ذنب جناه أو قدرة على رده إلا ويكون كفارة عن ذنوبه أو علة لإضافة حسنات إلى سجل أعماله. ويقول سبحانه: "ورحمتى وسعت كل شىء"، ويقول فى حديث قدسى: "إن رحمتى سبقت غضبى". وقال رسوله صلى الله عليه وسلم: "الراحمون يرحمهم الرحمن. ارحموا أَهْلَ الأرضِ يرحمكم مَنْ في السَّماءِ"، وحكى لنا عليه السلام عن مومس دخلت الجنة جراء ملء خفها ماء من بئر وسقيها كلبا وجدتْه فى الطريق يلهث من شدة العطش. وفى الحديث أنه سبحانه ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة يتفقد التائبين والمستغفرين مناديا إياهم كى يُقْبِلوا إليه فيغفر لهم ويتوب عليهم ويرحمهم. فهو لا ينتظر حتى يأتوه، بل يبادرهم ويبحث عنهم ويهتف بهم ويذكّرهم.
وأترك القارئ مع هذا الحديثين الجميلين المبشِّرين بكل ما هو جميل واللذين من شأنهما وشأن أمثالهما من أحاديث رسول الله بث روح الأمل وحفز المسلم إلى بذل أحسن ما عنده حتى يفوز برضا الله وينجو يوم الحساب: "كان في بني إسرائيل رجلٌ قتَل تسعةً وتسعين إنسانًا، ثمَّ خرَج يسألُ فأتى راهبًا فسأله فقال له: هل مِن توبةٍ؟ قال: لا. فقتَله، فجعَل يسألُ، فقال له رجلٌ: ائت قريةَ كذا وكذا. فأدرَكه الموتُ، فَناءَ بصدرِه نحوَها، فاختَصَمَتْ فيه ملائكةُ الرَّحمةِ وملائكةُ العذابِ، فأوحى اللهُ إلى هذه أنْ: تقَرَّبي، وأوحى اللهُ إلى هذه أنْ: تباعَدي، وقال: قيسوا ما بينَهما. فوُجِدَ إلى هذه أقربَ بشِبْرٍ، فغُفِرَ له". "يدنو أحدُكم من ربِّه حتى يضعَ كنفَه عليه، فيقولُ: عمِلتَ كذا وكذا؟ فيقولُ: نعم. ويقولُ: عمِلتَ كذا وكذا؟ فيقولُ: نعم. فيقرِّرُه ثم يقولُ: إني سترتُ عليك في الدنيا، فأنا أغفرُها لك اليومَ".
* الوهّاب: كل شىء فى الدنيا هو هبة من الله سبحانه. و"الوهاب" صيغة مبالغة من "وهب يهب". وليس معنى المبالغة هنا تجاوز الحد، إذ إنه سبحانه لا حد له، فهو خالق كل شىء وخالق الزمان والمكان، ولغة البشر لا تستطيع أن تفيه حقه، بل المقصود أن صفاته قد بلغت الكمال الذى يليق به، لكن للأسف ليس فى اللغة الإنسانية صيغة تدل على الأزلية والأبدية. وهناك أسماء حسنى أخرى تستخدم فيها صيغة المبالغة هى "الغفور، الغفّار، الودود، القهّار، الجبّار، التوّاب، العليم، العلاّم، الرزّاق، الصبور، الودود، العفُوّ، الرحيم، السميع، البصير، الخبير، الشكور، الرءوف، الرشيد، الشهيد، الحسيب، الرقيب، الحفيظ، العليم، العلاّم، الفتّاح". وسواء استخدمت صيغة المبالغة فى الأسماء الحسنى أو لا فإن صفات الله فى كل الأحوال مطلقة لأن هذا هو ما يليق بجلال الله، الذى لا يحده شىء، ولا يعتريه نقص، وليس له إلا الكمال.