تفسير الآيتين 7- 8 من سورة "آل عمران"

(هذا المقال هو فى الأصل حديث تلفازى)

د. إبراهيم عوض

 

"هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)"- آل عمران
 
* الكتاب: ورد اسم "الكتاب" فى الآية الأولى مقصودا به القرآن الكريم. وهذه الكلمة متى ما جاءت مطلقة فمعناها، فى ثقافتنا الإسلامية، كتاب الله. أى أن الألف واللام فيها هما "أل" الماهية، بمعنى أن القرآن هو الكتاب الوحيد الذى تنطبق عليه كل مقومات الكتاب الحق: فهو كتاب صادق ليس فيه سوى الحقائق، ويخلو من التناقضات والأخطاء، ولا يلحقه عبث، ولا يحتاج إلى تطوير لأنه نزل كاملا، وأسلوبه بديع دقيق، وبه حَيَّتْ أمم ونهضت حضارات وارتقى بشر وسادوا وقادوا. وفى مجال قواعد اللغة قد تُسْتَعْمَل هذه الكلمة دون وصف أو إضافة لكتاب سيبويه فى النحو  العربى. إذن فكلمة "كتاب" مطلقة تستخدم للقرآن بالمعنى المطلق، أى الكتاب الكامل فى كل شىء، أما استخدامها لكتاب سيبويه فمنحصر فى مجال القواعد اللغوية. والألف واللام فيه ليستا ألف ولام الماهية، بل ألف ولام العهد. أى أنه الكتاب الذى ألفه سيبويه فى ذلك الموضوع ويعرفه النحاة ويقدرونه باعتباره أول تأليف مفصل فى قواعد لغة الضاد.
* هو الذى أنزل عليك الكتاب: هذا أسلوب قصر. أى ما أنزل عليك القرآن سوى الله، والله وحده. فلا أنزل القرآن أحد غير الله ولا أنزله أحد مع الله. ولكن لماذا ينص القرآن على هذا؟ لقد كان المشركون يزعمون أنه قد تنزلت به الشياطين كما جاء فى سورة "الشعراء". فهل هذا من الناحية المنطقية ممكن؟ هل من الممكن أن يأمر الشيطان بتوحيد الله وبالعفة والصلاة والصيام والزكاة وطلب العلم والرفق والعطف واحترام الوالدين والعدل والتعاون والنظام والنظافة والبر بالوالدين والمساواة بين البشر والرحمة بالفقراء والمساكين والمحتاجين، وينهى عن الشرك والزنا والجهل والتطاول على الوالدين وإيذائهما وعن الظلم والعدوان؟ إن هذا لهو المستحيل بعينه، وإلا ما كان شيطانا، بل إلها كريما. فهل هذا ممكن؟
كما يزعم أعداء الإسلام أن محمدا قد أخذ القرآن عن بحيرا. وهذا أمر مضحك لأن بحيرا لم يقابل النبى سوى دقائق معدودة حين كان محمد لا يزال صبيا صغيرا حسبما تقول الروايات، فكيف يمكن أن يلقنه قرآنا كاملا فى هذه الدقائق المعدودات؟ ولو كان قد لقنه فكيف عميت عنه عيون القرشيين الذين كانوا معه فى القافلة آنذاك وصَمَّتْ عنه آذانهم وهو يفعل ذلك؟ ولو افترضنا أنهم، لأمر غير معروف لدينا، قد سكتوا فلم يثيروا هذه المسألة وقتها فكيف لم يثيروها ويحاربوه حين أتاهم بالدين الجديد فلم يوفروا أى سلاح يمكنهم أن يضربوه ويضربوا دينه به، ويفضحوه بين قومه ويقولوا له: لقد شاهدنا بحيرا وهو يعطيك البرشامة التى تتضمن تعاليم دينك ومبادئه. وهل من المعقول أن يلقن راهب نصرانى دينه صبيا صغيرا فى الثانية عشرة من عمره؟ لقد كان أحرى به أن يلقنه رجلا ناضجا ذا مكانة ورئاسة من رجال القافلة. وقد سخر توماس كارلايل من هذا الزعم فى كتابه عن "البطولة وعبادة الأبطال". ثم إن بحيرا نفسه لم يقل ذلك، بل لم يقله أحد من زملائه أو معارفه، فكيف يصح أن نكون ملكيين أكثر من الملك؟
كذلك فالدين الذى جاء به محمد يختلف اختلافات جذرية عن النصرانية كما انتهى بها الحال فى ذلك الوقت كقوله بالوحدانية المطلقة النقية الصافية ونفيه للخطيئة الأولى وتبعاتها وللصلب والثالوث والتجسد وإدانته لكل ذلك إدانة شديدة لا تهاون فيها ولا توانى، فضلا عن تحريمه الخنزير والخمر وممارسة الجنس مع الزوجة الحائض والنُّفَسَاء، وإيجابه الاستحمام من الجماع ونزول المنى، إلى جانب اختلاف الصلاة والصيام والزكاة عما هو موجود فى النصرانية، علاوة على الحج إلى مكة، الذى لا تعرفه هذه الديانة ولا أية ديانة أخرى، وعلاوة على الحدود أيضا، وهى شىء لا وجود له فيها، وغير ذلك من الفروق الحاسمة كعقيدة الإسلام فى الأنبياء، الذين يصورهم القرآن الكريم أمثلة عليا فى الخلق والسلوك والاعتقاد فى حين يتحدث الكتاب المقدس عن خطاياهم بوصفها أمرا اعتياديا لا غرابة فيه، فنجد هذا النبى يزنى، وذاك يقتل، وذلك يتنازل عن زوجته للملك وهى لا تزال على ذمته دون أن يطلقها، وسليمان يعصى أوامر الله ويتزوج من الوثنيات ويوفر لهن فى بيته الأوثان التى يعبدنها، وينظم فى الغزل الشهوانى الملتهب سِفْرًا لا ينظمه أى شاعر عاهر... إلخ.
وهنا نجد من المستشرقين من يصف محمدا بالدهاء، زاعما أن هذا الدهاء هو الذى سول له تجنب التفاصيل بحيث يبتعد عن الوقوع فى الخطإ، وأنه قد نجح فى ذلك، وأن هذا هو السبب فى أننا لا نجد فى القرآن الأخطاء التى نلفى كثيرا من أمثالها فى الكتاب المقدس. والحق أن هذا تفسير عجيب: أولا لأن القرآن الكريم، وإن كان لا يميل إلى الإغراق فى التفاصيل، لا يخلو من كثير من الأرقام والدقائق. وثانيا لو كان هذا صحيحا لدفع محمدا دهاؤه إلى الابتعاد عن معارضة الكتاب المقدس نظرا إلى أن قومه، ويجرى عليه ما يجرى عليهم، كانوا ينظرون إلى هذا الكتاب برهبة وإجلال. فكيف سولت له نفسه أن يخالفه؟ ثالثا كيف يمكن أن نفسر نجاح محمد فى خطته، وكأنه سوبرمان فكرى وثقافى لا يخطئ أبدا؟ ورابعا إذا كان الكتاب المقدس من عند الله فكيف يستطيع محمد، وهو إنسان، ما لم يستطعه إله اليهود والنصارى بحيث يخطئ هذا الإله، ولا يخطئ محمد؟ أيكون الإنسان أفضل من الإله؟ كيف ذلك يا ترى؟
ونضيف إلى هذا أن القرآن لم ينزل دفعة واحدة، بل كان ينزل منجَّما حسبما تتطلب الظروف وتُطْرَح الأسئلة أو تجد الحوادث وتَنْجُم المشكلات. فكيف يمكن القول بأن بحيرا أو غير بحيرا قد لقن الرسول القرآن كله جملة؟ وإذا كان لا بد أن ننبذ عقولنا ونصدق بهذا السخف الساخف فلم يا ترى لم يعلن الرسول القرآن دفعة واحدة بدوره ما دام جاهزا فى يديه لا يحتاج أكثر من وضعه بين يدى الناس، بل انتظر عشرات السنين قبل البدء بإذاعته؟ وهل كان من الممكن أن يظل محمد متذكرا القرآن طوال تلك المدة الزمنية الطويلة التى تزيد عن خمس وعشرين سنة وطوال السنوات الثلاث والعشرين التى تفصل ما بين بداية قراءته صلى الله عليه وسلم لأول وحى وقراءته لآخر شىء منه؟ ترى لماذا لم يظهر بحيرا أو شخص قريب لبحيرا أو قريب منه فيقول إن نبوة محمد تلك إنما هى من تعليم ذلك الراهب له؟
لقد اتهمه المشركون، بدلا من بحيرا، بالتعلم على يد بعض الحِرْفيين ذوى الأصول الأجنبية الذين كانوا يعيشون فى مكة آنذاك. لكن القرآن قد فند هذه الدعوى المتهافتة قائلا إنهم أجانب لا يستطيعون الكلام باللغة العربية، فكيف يمكن أن يلقنوه دينهم، وأداة التواصل بين الطرفين منعدمة؟ وشىء آخر نضيفه إلى هذا جَدَّ بعد ذلك، وهو أن أيا من هؤلاء النفر الأجانب لم يقل قط إنهم هم معلمو محمد، بل أعلنوا جميعا إيمانهم بمحمد. فهل من المعقول أن نكون نحن أعرف منهم بما حدث بينهم وبينه فنتهمه بأنه قد أخذ عنهم دينهم وجعل منه دينا جديدا، بينما هم يقرون بنبوته وصدقه وإخلاصه ويلتحقون بأتباعه معرضين أنفسهم وحياتهم للضرر البالغ؟ ترى هل انقلب نظام العالم بحيث يصير التلميذ قائدا، والمعلم مقودا متبوعا؟ولماذا كل هذا؟ هل كان عند التلميذ المال والمنصب والسيادة والعزة والقوة والتسلط والجبروت بحيث يغريهم بمتابعته والإيمان به أو يقسرهم عليه قسرا؟ الواقع، كما نعرف جميعا، أن محمدا كان مستضعفا فى قومه يستخفى بالدعوة إلى دينه وقتئذ، ومن ثم كان كل من ينضم إلى دعوته يحمل روحه على كفه وينتظر الأذى من كل جانب، ويعرف أن فقدان المال والحياة أمر متوقع فى كل حين.
وهناك فى العصر الحديث من المستشرقين والمبشرين من أراد لمز الرسول عليه السلام بأنه قد تعلم على يد ورقة بن نوفل مع أن ورقة لم يقم بأى دور فى حياته صلى الله عليه وسلم إلا حينما أرادت خديجة أن تطمئن على حال زوجها عقب عودته مضطربا يرتجف من الغار لدن رؤيته جبريل لأول مرة وتلقيه الآيات الأولى من القرآن على يديه حين كان معتزلا وحده فى الغار، فكان أن طمأنها ورقة مؤكدا لها أن هذا الذى نزل عليه هو نفسه الذى نزل على موسى، فكان هذا إعلانا من جانبه أنه مؤمن بـأن محمدا نبى كما كان موسى نبيا. بل هناك ما هو أكثر من ذلك، إذ أنبأه أنه سوف يواجه التكذيب والأذى من قومه وأنهم سوف يخرجونه من موطنه، وأنه إن طال به العمر حتى تلك اللحظة فلسوف يقف إلى جانبه وينصره نصرا مؤزرا. فهل يعقل، لو كان ورقة هو معلمه، أن يقف من ذلك التلميذ المسكين ذلك الموقف؟ بل كيف لم يقلها واحد من أقرباء ورقة؟ بالله أعطونا عقولكم نفكر بها!
ولقد قرأت منذ بضع عشرة سنة لخليل عبد الكريم فى كتاب له تافه وقح أن رسول الله عليه الصلاة والسلام كان يقضى الليالى فى بيته بالمدينة يستمع من سلمان الفارسى عما كان فى جَعْبَته من قصص الأنبياء والأمم السابقة فيضمنها قرآنه. الله أكبر! لكأن النبى كان يسكن قصرا هائل الجنبات كثير الغرفات فيأخذ سلمان إلى غرفة منها بعيدا عن عيون زوجاته بحيث لا يَرَيْنَه وهو يتعلم من ذلك الفارسى النبيل الذى أعلن إيمانه به صلى الله عليه وسلم للوهلة الأولى. لقد كان محمد يسكن مع كل زوجة من زوجاته حجرة صغيرة ملاصقة لحجرات الزوجات الأخريات، وهو ما يعنى أنه هو وضيفه لا يمكن أن يكونا بنجوة من عين الزوجة صاحبة الحجرة وأذنها. فكيف لم تثر هذه الجلسات المريبة شكوكهن أو شكوك بعضهن أو حتى شكوك واحدة منهن كعائشة مثلا اليقظة الجريئة الفصيحة فى الكلام وفى السلوك جميعا؟ ولماذا يَرْضَيْن عن اقتناع تام بعد هذا بما طالبهن به القرآن من البقاء بعد موت رجلهن دون زواج إلى أن يمتن، مع أن معظمهن حين مات عنهن كن فى عز أنوثتهن وحيويتهن، علاوة على أنهن لم ينجبن منه بما يمكن أن يشغلهن فى تربية الأولاد الذين تركهم لهن ولا عوضهن عن هذا بمال طائل خلّفه لهن بعد رحيله، ما دمن يعرفن أنه إنما يتلقى دينه من رجل أعجمى يقضى الليالى معه يعلّمه ويحفّظه ما لديه من قصص وعقائد ومبادئ؟ ثم لو كان هذا الاتهام صحيحا أكان سلمان يعتنق دين محمد ويصير بذلك تابعا له، وهو الذى علمه وأمده بآيات القرآن؟ ولقد مات محمد، وبقى سلمان على دينه دون أن يصيب مالا أو جاها أو منصبا فى الدولة المحمدية، بل على العكس كان يبذل روحه رخيصة بميادين الجهاد فى سبيل الله، ورأى الدين الجديد يفتح بلاده العريقة فى مضمار الحضارة والثقافة ويقضى تماما على دينها ويضع نهاية حاسمة لعبادة النار فيها ويخضع سادات قومه له، وكانت أسرته من أولئك السادة، ومع ذلك ظل على ولائه للدين الجديد الذى يتهم بعض الرقعاء نبيه بالتتلمذ على يديه. ولقد فات هؤلاء الرقعاء أهم نقطة فى الموضوع، ألا وهى أن النبى لم يكن فى ذلك الوقت الذى ظهر فيه سلمان فى حياته بحاجة إلى هذا الذى فى جعبة ذلك الفارسى إن كان فعلا فى جعبته شىء من هذا الكنز القصصى والدينى المزعوم أصلا. ذلك أن القرآن المكى، وهو القرآن الذى أعلنه محمد لقومه وللعالم قبل أن يظهر سلمان فى حياته بوقت طويل، يحتوى على كل قصص الأمم الماضية وأنبيائهم والوقائع التى حدثت لهم معهم. فبأى شىء يمكن أن يجيب الرقعاء على هذا؟
* أُمّ الكتاب: "الأم" هنا تعنى المحور والأساس. وأذكر أننى استغربت حين قرأت أول مرة منذ زمن بعيد قصيدة الشنفرى الصعلوك الجاهلى التى يقول فيها: "وأُمَّ عيالٍ قد شَهِدْتُ تقوتهم"، التى تتحدث عن زعيم من زعماء الصعاليك يقوم بتدبير أحوال إخوانه وتنظيمها والإشراف على أمورهم والاطمئنان إلى أنها تسير فى الاتجاه الصحيح بحيث لا ينقصهم شىء، ظنا منى أن القصيدة فكاهية تخرج على ما نعرفه من خلو الشعر الجاهلى من هذا الضرب من الفكاهة التى تصور رجلا من الرجال على أنه أم لا أب. ولكن هأنذا أجد نفسى أمام الآية الكريمة وأعرف أن الأم، فى مثل هذا السياق وما يشبهه، إنما تعنى المحور والأساس، والشخص الذى يتحمل الإشراف والمسؤولية عمن حوله. فليس فى القصيدة الصعاليكية إذن فكاهة، بل هى تجرى على سنة لغة الضاد فى تسمية من يقوم بحاجات القوم وينهض بمسؤولية إعاشتهم وتنظيم أمور حياتهم: أُمًّا. يقول الطبرى لدن تفسيره لهذه الآية: "وَصَفَ جل ثناؤه هؤلاء الآيات الـمـحكمات بأنهنّ هنّ أمّ الكتاب. يعنـي بذلك أنهنّ أصل الكتاب الذي فـيه عماد الدين والفرائض والـحدود وسائر ما بـالـخـلق إلـيه الـحاجة من أمر دينهم وما كُلِّفوا من الفرائض فـي عاجلهم وآجلهم. وإنـما سماهنّ: أم الكتاب لأنهنّ معظم الكتاب، وموضع مفزع أهله عند الـحاجة إلـيه. وكذلك تفعل العرب: تسمي الـجامع معظم الشيء: أُمًّا له، فتسمي راية القوم التـي تـجمعهم فـي العساكر: أمهم، والـمدبر معظم أمر القرية والبلدة: أمها".
* آياتٌ محكماتٌ هن أم الكتاب وأُخَرُ متشابهاتٌ: الآيات المحكمات هن الآيات التى من السهل فهم أبعادها ولا تحتاج إلى تأويل، وهى تمثل معظم القرآن، وتعد الأساس الذى ينبغى فهم الآيات المتشابهات على ضوئها لأنها هى المحور والأصل. فمثلا نقرأ فى القرآن الكريم آيات عن الصلاة والصوم والزكاة والحج، كما نقرأ آيات تجيب على ما كان يُطْرَح على الرسول من استفسارات وأسئلة حول الحياة اليومية أو تبين الحكم فيما يقع من حوادث، ومثلها الآيات التى تتحدث عن وحدانية الله وعن رسل الله وعن اليوم الآخر وما فيه ثواب وعقاب وجنة ونار، مما هو ظاهر بنفسه لا يحتاج إلى تأويل. ولكن ماذا عن الحروف المقطعة فى أوائل السور؟ وماذا عن صفات الله تعالى؟ وماذا عن ضروب اللذائذ التى سوف يتمتع بها أهل الجنة، وألوان العذاب التى سوف يقاسيها أهل النار؟ ترى كيف ستكون هذه وتلك؟ ترى كيف يسمع الله ويرى ويستوى على العرش؟ أستكون الأطعمة والأشربة والنساء فى الفردوس كأطعمتنا وأشرتنا ونسائنا هنا على هذه الأرض؟ والملائكة والجن والشياطين ما شكلهم؟ وكيف يعيشون؟ وأين يقيمون؟ كل هذه أسئلة لا يمكن أحدا من البشر أن يجيب عليها كما نجيب على الأسئلة المتعلقة بالتشريع وحوادث التاريخ التى نعرفها. والله وحده فقط هو من عنده العلم بها. أما العلماء فلا يعرفون تلك التفصيلات، بل كل ما يعرفونه مثلا عن لذات الجنة أنها ستكون مختلفة عما نعرفه فى دنيانا هنا، إذ هى تتسم بالخلود، ولا يعتريها نقصان، ولا تحتاج هناك إلى عمل وجهد ووقت كى يحصل عليها من يريد، ولا تصيبها آفة من آفات الدنيا كالعفن مثلا، وإذا أكل الإنسان طعاما من طعام الجنة لم يحتج إلى دخول الحمام ولا يصيبه مَغْص أو إمساك أو إسهال أو يخرج منه ريح. والمرأة لا يعتريها حيض ولا نفاس ولا تحمل ولا تلد ولا ترضع وتظل شابة على الدوام فلا تتقدم فى العمر فلا تشيخ ولا تترهل ولا يغادرها جمالها وفتنتها ونضارتها أبدا...
وهم يعرفون هذا على وجه الإجمال، أما التفاصيل فعند الله وحده. ومع ذلك فهم يعلمون أن الله قادر على كل شىء، وأنه سوف يعيد سبك الكون من جديد بناء على قوانين تختلف عن قوانيننا الحالية. أما كيف يكون ذلك على وجه الدقة فإن أحدا منهم لا علم له به. واطمئنانهم هذا إنما يستند، كما هو واضح، إلى الآيات الأخرى التى تقول إن الأرض والسماوات سوف تُبَدَّل يوم القيامة بعد النفخ فى الصور ودمار كل شىء وقيام الناس من مراقدهم للحساب، وتلك التى تقول إن النساء سوف يعدن يومذاك شابات أبكارا ولا يتقدمن فى العمر أبدا... إلخ. فهم يقيسون هذا على ذاك، أو يقيمون فهمهم لتك الآيات على ما يعرفونه من هذه. أى أن هذه الآيات هى أم تلك، أى المحور الذى تدور حوله ويُرْجَع فى فهمها إليه. وسواء كانت الواو عاطفة أو استئنافية فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم تأويل المتشابهات، وإلا فهل يعقل أنه مثلنا نحن الذين لا نتصل بالسماء ولا يتنزل علينا الوحى؟ يقول جابر بن عبد الله رضى الله عنه من حديث له عن حجة رسول الله: "ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين أَظْهُرِنا، وعليه ينزلُ القرآنُ، وهو يعلمُ تأويلَه، فما عَمِلَ به من شيءٍ عَمِلْنا به".
وبالمثل هناك آيات مثل "الرحمن على العرش استوى"، "يد الله فوق أيديهم"، "ويبقى وجه ربك"، "لتُصْنَعَ على عينى"، فكيف نفهم هذه الآيات؟ هل نقول إنه سبحانه وتعالى له يد وعين واستواء على العرش كاستوائنا وأعيننا وأيدينا؟ لكن هناك آية محكمة لا بد من الاسترشاد بها هنا، ألا وهى "ليس كمثله شىء"، ومن ثم لا يمكن، استنادا إلى هذا الأصل المحكم، القول بأنه سبحانه وتعالى يشبهنا فى شىء. وعليه فيده غير يدنا، ووجهه غير وجهنا... إلخ. وهنا يتشعب الطريق: فبعض يقول إن له يدا وعينا ووجها واستواء لا يشبه ما لدينا، لكننا فى ذات الوقت لا نعرف كيف تكون عينه أو يده أو وجهه أو استواؤه. وبعض يقول إن الكلام هنا على المجاز، والمقصود بهذه الجوارح يفهم من السياق. وعلى هذا فمعنى "يد الله فوق أيديهم"، أى أيدى المسلمين الذين مدوا أيديهم فعاهدوا الرسول على النصرة يوم الحديبية حين شاع بينهم أن المشركين ق قتلوا عثمان، الذى كان الرسول قد بعثه ليفاوضهم فى مكة على أن يتركوا الرسول وصحابته على دخولها والقيام بشعائر العمرة والعودة من حيث أتَوْا، فنزل القرآن يقول إن يد الله فوق أيديهم، بمعنى أنه عز وجل يقويهم ويرعاهم ويبارك معاهدتهم هذه طبقا لما يقوله هذا البعض... وهلم جرا فى بقية آيات الجوارح، إذ كل ما علينا أن نصنعه هو أن نحاكم تلك الآيات المتشابهة إلى الآية المحكمة التى أوردتها آنفا والتى تقول إن الله لا يشبهه شىء، فنؤولها بما يليق بذاته سبحانه.
ليس هذا فحسب، بل إن حوادث التاريخ الماضى كثيرا ما تكون مجهولة التفاصيل، ومن ثم قد تكون الآيات التى تتعرض لها على سبيل الإجمال من الآيات المتشابهة. ولقد كنت مثلا إلى بضع عشرة سنة مضت لا أحقق معنى البيوت الفارهة التى يتحدث القرآن عن اتخاذ قوم عاد لها فى الجبال، وأحسب أنها مجرد مغارات هناك كالتى يسكنها قطاع الطرق والمتوحشون فى المرتفعات البعيدة عن العمران، ولم أكن بالتالى أتصور جيدا سر تذكير الله سبحانه لأولئك القوم بهذه المنة، وإن كنت واعيا فى ذات الوقت بأن فى الأمر أشياء لا أفهمها لأن معرفتى بها شحيحة... إلى أن وقعت عينى بعد ذلك فى المشباك (الإنترنت) على صور لبعض تلك القصور التى نحتها قوم عاد فى جبال بلادهم، فألفيتُ شيئا باهرا لا ينقضى منه العجب. لقد كانت فى الصور أمامى أبنية فخمة جليلة لا يستطيع مهندسو عصرنا بناءها بهذا الجمال والدقة والبراعة والروعة. وهنا انكشف لى ما كان خافيا عنى، وتحولت الآيات التى تتكلم عن تلك القصور من آيات متشابهة إلى آيات محكمة. لقد كنت أعرف أن القرآن صادق فيما يقول، بيد أننى لم أكن أعرف تفصيلات الأمر، فكنت أكتفى بالتصديق العام لأنى أعلم أن القرآن أهل لكل صدق، إذ هو من عند الله، لكنى لم أكن أعلم كيف.
ومن ذلك أيضا قوله تعالى عن سبإ: "لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ"، إذ كنت أقرأ تلك الآيات الكريمة وأسلم بما فيها لكن دون أن أحقق المعنى الذى تشتمل عليه جيدا، إلى أن قرأت على المشباك بأُخَرَة أن المراد بـ"القرى الظاهرة" هو ما يناظر ما يسمى الآن فى الأسفار والتجارة البحرية بـ"الموانئ المحورية"، وهى موانئ تقام على طريق السفن تمد أصحابها بالمؤن والخدمات الفندقية، وتوفر لهم الأسواق كى يبيعوا ويشتروا أثناء الطريق، فلا يشغلوا من ثم أنفسهم بتحميل سفنهم بالطعام والخدمات وما إلى ذلك بما يترتب عليه من تعطيل الاستفادة من بعض تلك السفن بوسقها بمزيد من البضائع، إلى جانب توفير الراحة لهم خلال ذلك بحيث يكونون أنشط وأقدر على مواصلة الرحلة، فضلا عن المكاسب التى يجنونها زيادة عما كان متوقعا، ويجنيها أيضا أهل تلك الموانئ. وتكون هذه الموانئ متقاربة بحيث يجدها أصحاب السفن عند الحاجة إليها. وقد سميت نظيرتها فى أسفار السبئيين بـ"القرى الظاهرة"، أى القرى المتقاربة. وسميت: "ظاهرة" لأنها كانت تظهر للقوافل عينا أو اعتبارا بمعنى أن أصحاب القوافل يجدونها دائما عند الحاجة إليها. وتشبهها فى هذا محطات الوقود فى الطرق الصحراوية حيث يجد المسافر الذى يقطع المسافات الطويلة فى طريق يخلو من المدن والقرى حاجته من الوقود والطعام والماء والمبيت والأغراض الملحة التى لا يمكنه الاستغناء عنها فترة طويلة.
وعلى هذا الأساس فإنى أرى أن عطف "الراسخون فى العلم" على "الله" أو استئنافها فى جملة جديدة كلاهما صحيح. فالراسخون فى العلم يعلمون تأويل تلك الآيات المتشابهات بالمعنى الذى وضحته آنفا لا بمعنى أنهم مطلعون على الغيب يعرفونه معرفة معاينة وتفصيل معرفة دقيقة. ومع هذا فإن شئتَ فلك أن تقول إن أحدا لا يعلم تأويل المتشابهات سوى الله، ويكون معنى التأويل حينئذ وقوع تلك المتشابهات أمام أبصارنا بحيث لا يبقى منها شىء خافيا أو مجهولا أو كل ما يمكن الاعتماد عليه فيه هو العقل والتفكير والقياس. وما دام التأويل، بهذا المعنى، لن يقع فى الدنيا فإن أحدا لا يمكنه أن يعرف شيئا فى هذا الموضوع، إذ نحن محصورون فى سجن الدنيا لا نعرف إلا ما نخبره فيها ولا نستطيع أن نعرف ما الذى ينتظرنا فى الجنة مثلا لأننا لا نعرف الجنة إلا من خلال القرآن وحديث رسول الله، وهما يخبراننا أن أمور الجنة تختلف تماما عن أمور حياتنا الأرضية. وقبول الآية القراءتين على النحو الذى وضحته هو من بَدَاعة الأسلوب القرآنى.
وقد سئل ابن تيمية عن مدى صحة وصفنا لشىء بأنه "متشابه" على صيغة التفاعل، التى تقتضى وجود شيئين أو أكثر يشابه أحدهما الآخر، فكيف يوصف الشىء الواحد بالمتشابه وكأنه يشابه نفسه، وهو ما لا يمكن أن يكون؟ وقيل إن ابن تيمية أبدى إعجابه بعقلية من يثير مثل هذا السؤال، إلا أنه لم يجب عليه. والواقع أن هناك على صيغة "تَفَاعَلَ" أفعالا لا تدل على الأخذ والرد بين شيئين أو أكثر، منها "تنامَى، تسامَى، تدارَكَ، تظاهَرَ، تناوَمَ، تشاكَى، تبارَكَ، تعامَى، تحامَى، تراءَى، تباعَدَ، تضاعَفَ، تصاغَرَ، تضاءَلَ، تلاشَى، تغابَى، تذاكَى، تحاشَى، تقادَمَ، تعالَى، ترافَعَ، تناوَلَ، تماوَتَ، تمارَضَ، تناوَحَ، تباصَرَ، تفاصَحَ، تسامَحَ، توانَى، تمادَى...". فالخطأ إذن فيمن يظن أن صيغة "تفاعَلَ" لا تكون إلا لطرفين أو أكثر يتبادلون التأثير والتأثر. وعلى هذا فـ"المتشابهات" هى الآيات التى تشتبه على الناس، أو على كثير منهم، وتحتاج من ثم إلى من يؤولها ويشرح معناها.
ومنذ عشرين عاما اعترض أحدهم على استعمالى كلمة "لاحَظَ فلانٌ كذا" بدلا من "لَحَظَ"، قائلا إنها لا تستعمل إلا لشخصين يلحظ كلاهما الآخر، فأجبته بأن ثم أفعالا على هذه الصيغة تدل على معان أخرى غير المشاركة كـ"عاقَبَ" و"حاول" و"عانى" و"قاسى" و"عاجَلَ" و"سامَحَ" و"حامى" و"باعَدَ" و"ضاعف" و"كابَرَ" و"عادى (من العَدْو)" و"بايَنَ" و"بارَكَ" و"داوَى" و"غافَلَ" و"عاوَدَ". وزدت فأتيت له من كتب الصرف بأن هذه الصيغة لا تدل على المشاركة فقط بل تأتى أيضا بمعنى "فَعَلَ" كـ"سافَرَ"، وبمعنى "فَعَّل" كـ"ضاعَفَ"، وبمعنى "الموالاة" كـ"والَى" و"تابَع"، وبمعنى المحاولة الفاشلة حتما كما فى "يخادعون اللهَ". لكنه للأسف كان متصلبا لا يريد أن يسمع ولا أن يفهم فيعيد النظر فيما استقر خطأً فى عقله.

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 88 مشاهدة
نشرت فى 25 مارس 2015 بواسطة dribrahimawad

عدد زيارات الموقع

32,065