"امرأة خائفة" لسلوى علوان

"امرأة خائفة" لسلوى علوان (2)
د. إبراهيم عوض

ويلفت الانتباه أنها، فى آخر الفقرات الثلاث وقبل أن تترك حبيبها مرة أخرى إلى ذكرياتها وخواطرها، قد تحدثت عن اعترافاته لها بما صنعه مع من عشقهن قبلها من النساء قائلة إنها أخذت هذه الاعترافات على محمل الرغبة لديه فى التطهر من الآثام والتكفير عنها، ثم عقبت قائلة بنص عبارتها: "قال الرب: تعالَوْا إلىَّ يا جميع المتعَبين، وأنا أريحكم"، وهأنذا يا ربى متعبة وتائهة، فلتكن مشيئتك". وهكذا تكون الوحدة الوطنية، وإلا فلا. أفلا يقول النصارى إن المسيح هو الرب؟ فيجب عليها إذن هى المسلمة أن تقول عما هو منسوب فى الأناجيل إلى السيد المسيح عليه السلام: "قال الرب". أليس الاعتراف أمام القسيس عند النصارى فرصة للتطهر من الآثام ونيل الغفران؟ إذن فليكن مصارحة الحبيب لها بكل ما صنعه مع طوائف النساء اللاتى عرفهن قبلها فرصة لتطهره واغتساله من الآثام. ألا يقول النصارى فى صلواتهم: "فلتكن مشيئتك كما فى السماء كذلك على الأرض"؟ فينبغى أن تقول هى أيضا: "لتكن مشيئتك". وهذا يذكرنا بالممثلة صاحبة القول المشهور إنها تتعلم صحيح الدين من البابا شنودة، لأنه بابا النصارى والمسلمين جميعا. ومن نفس الإناء أيضا نضحت كلمات المرأة اللبنانية المسلمة التى ذكرت البطلة أنها، حين ذهبت إلى الكنيسة ووقفت أمام تمثال مريم عليها السلام، قد ابتهلت إليها قائلة: "أخذوا ابنك وصلبوه..." مما يناقض قوله تعالى: "وما قتلوه وما صلبوه، ولكن شُبِّه لهم". وقد ذكَّرَتْ هذه الحادثة الأخيرة بطلتنا بما صنعته جدتها منذ سنين حين أخذتها إلى الكنيسة وناجت العذراء واستشفعت بالقديسة تيريزا. ترى أهذه رسالة أخرى تبعث بها بطلة الرواية لمن يهمهم الأمر؟ 
والعجيب، وكثير مما فى الرواية عجيب لا يدخل العقل ولا يحترم المنطق، أن بطلتنا التى لا تكف عن التبرم والتذمر من الظلم الواقع على أدمغة النساء من الرجال المستبدين الغاشمين عديمى الرحمة، أن بطلتنا المغوارة المتمردة على المجتمع المتخلف البطرياركى قامع النساء وآكل حقوقهن لا تجد أية معابة فى أن يكون حبيبها صاحب مغامرات نسائية لا تحصى ولا تعد، ويلعب بالبيضة والحجر، وكذابا مخادعا قراريا من الطرازالأول، إذ يوهم كلا من عشيقاته أنها هى وحدها التى يحبها وأنه لا يوجد على الحجر غالٍ سواها، ولا يسمح لأية منهن أن تعرف بوجود امرأة أخرى فى حياته، ومع ذلك كله تتهافت بطلتنا عليه وتبادر دائما إلى الاتصال به، فى الوقت الذى لا يتصل هو ولا يشغل نفسه بها. لو كان كلام بطلتنا عن رفضها للمجتمع الذكورى الظالم للنساء المسكينات صحيحا لرفضت هذا الأفاق الذى تتجسد فيها الذكورية بأجلى ما يكون، إذ هو لا يحترم المرأة، بل يلعب بها ولا يرى فيها إلا جسدا ومسلاة لتضييع الوقت، ويجمع العشيقات كما يجمع غيره طوابع البريد، ويخدعهن ويوهم كلا منهن أنها وحدها التى تسكن سويداء قلبه، ثم يتباهى أمام بطلتنا بهذا كله، فتقع صريعة هواه وتزداد تراميا على قدميه. 
على أن الأمر لا ينتهى هنا، إذ تقول بطلتنا كارهة الرجال المتخلفين الرجعيين عدماء الضمير ظالمى النساء إن ذلك الأفاق مدعى الدفاع عن حقوق الإنسان قد أخرج منها أجمل ما فيها، وأراها الدنيا بعيون أخرى فبدت أحلى وأنضر وأجمل رغم كل ما قاله لها عن غرامياته وسفالاته الكثيرة، فقد سامحتْه رغم أنها، كما قالت، لم تكن تظن يوما أنها يمكن أن تتسامح فى أمر كهذا، كل ذلك فى عبارات وثرثرات من عبارات المراهقات التى تبرع فيها بطلتنا وتكرر بها نفس المعنى فى صور بهلوانية تستعرض فيها براعتها اللغوية دون أن تضيف جديدا سوى إملال كل من عنده ذوق أدبى ويعرف كيف ينبغى أن تكتب القصص والروايات.
ومع ذلك فإن الإنصاف يقتضينا القول بأن البطلة قد سجلت فى هذا الفصل عدة مشاهد قوية من القتل والدمار الذى أحدثه العدو الصهيونى فى جنوب لبنان، تصلح أن تكون تقريرا صحفيا جيدا. وفى هذا الفصل أيضا يغمى على البطلة، فيكون هذا الإغماء سببا فى تعرفها إلى حبيبها المحامى المصرى خالد الراوى، الذى كان مع زملائه من أعضاء لجنة حقوق الإنسان فى زيارة للبنان لرصد ألوان الدمار والتقتيل التى ارتكبتها إسرائيل فى حق اللبنانيين، إذ ذهب إلى المستشفى مع بعض زملائه كى يطمئنوا على الصحفية المصرية (بطلتنا) التى غُشِىَ عليها من كثرة ما شاهدت وسمعت من صور الدمار والقتل، فكانت هذه هى الخطوة الأولى نحو وقوعها فى غرامه. 
إلا أن البطلة، حين ترسم بعض ملامح شخصيتها، يصيبها ما لاحظتُه من قبل عليها من أنها تقول الشىء ونقيضه، إذ بينما تصف نفسها بأنها طوال عمرها تمشى جنب الحائط، إن لم يكن داخل الحائط، إذا بها بعد سطور قليلة تقول عن نفسها إنها ليست امرأة تقليدية وإن من حولها يتهمونها دائما بأنها صاحب القرارات المجنونة. ثم تعود فى التو واللحظة إلى القول بأنها ليست من الجنون فى شىء وأنها لا يمكنها اتخاذ موقف غير تقليدى، لتخبرنا عقب ذلك بأنها، بعد عودتها من لبنان إلى مصر، لم تستطع صبرا على تجاهل المحامى خالد الراوى لها وعدم اتصاله بها، فتبادر هى إلى الاتصال به وتلح فى الاتصال أكثر من مرة إلى أن يرد عليها. كما أنها، بمجرد أن قابلت حبيبها فى مطار بيروت، قد نسيت كل ما يتصل بمهمتها التى سافرت إلى لبنان من أجلها، وهى التعرف عن كثب إلى ما أنزلته إسرائيل بالجنوب اللبنانى من تدمير وتقتيل، فلم تعد تتحدث عنها رغم هيامها بالثرثرة، وذابت للتو فى شخصية المحامى، الذى تقول لنا إنها كثيرا ما رأته فى أحلامها قبل أن تلقاه وتعرفه، وهو ما أثار استغرابها لتشابهه التام مع الشخص الذى كانت تحلم به حَذْوَك القُذَّة بالقُذَّة. ولا تسألنى عن معنى "القُذَّة" من فضلك، بل ابحث عنها مشكورا فى المعجم.
وفى هذا الفصل نحس أن البطلة تكاد تجن من حبها لخالد الرواى، الذى لا تستطيع أن تنساه لحظة، بل تروى لنا أنها تقضى يومها كله، سواء كانت بالمنزل أو بالخارج، فى التفكير فيه وفيما يفعل وفى غزواته الغرامية وفى رصد مشاعرها نحوه بالتفصيل فى ثرثرة وعبارات من عبارات المراهقين لا تنتهى، لتتحول فجأة، حين فتحت التلفاز فى إحدى هذه المرات لتخفف عن عقلها ضغط حبيبها الطاغى، إلى الحديث عن بغداد واحتلال العراق والقتلى والدمار والأمريكان وتحول الوطن العربى إلى بلاد تحتلها جنود العم سام، وتستمر فى هذا الاستطراد الذى لم يكن فى خطتها، بل عرض لها بغتة فأمسكت به لم تُفْلِتْه حتى نهاية الفصل، فأشعر أنا عندما وصلت إلى تلك النهاية بشىء من الراحة أنْ قد استطعتُ التنفسَ أخيرا من هذه الثرثرة المتلاحقة التى لا تعرف الهمود أبدا. ولا ينبغى أن ننسى أن كل هذا الكلام من أول الرواية حتى الآن إنما تم والبطلة جالسة فى حضرة الحبيب سرحانة كعادتها السخيفة. أما كيف ذلك فعلمه عند علام الغيوب!
ويتكون الفصل الخامس من أقل من أربع صفحات، فهو قزم هزيل بين الفصول الأخرى. وليس فيه إلا أنها كانت تستقل سيارة أجرة فى طريقها لمكتبها فى الصحيفة التى تتولى فيها باب "بريد القراء"، مع تخصيص صفحتين من الكلام الثرثار عن أهمية هذا الباب. وفى أثناء ركوبها التاكسى تصادف أن استمعت لأحد المذيعين الرياضيين وهو يطالب الناس بأن يتصرفوا فى مباريات كأس الأمم المقامة فى مصر بتحضرٍ ورُقِىٍّ، فتذكرت فى الحال ما قالته لها إحدى زميلاتها عن عرض ذلك المذيع عليها الزواج سرا كما يفعل كثير من أمثاله بغية تجديد حياته، التى أجدبت مع زوجةٍ اقترن بها أيام الفقر ولم يعد يجد لديها ما تقدمه لمتعته. وهى تقول ذلك من باب الانتقاد الشرس لجنس الرجال ذوى العيون الفارغة الذين يستحقون الحرق. أما ما تفعله هى مع خالد الرواى زير النساء الذى لم يخف عنها شيئا من مغامراته وفجوره مع النساء وخداعه لهن، وتراميها عليه رغم ذلك ومطاردتها له، فحَلاَلٌ زَلاَلٌ بَلاَل. 
وهكذا الأمر أيضا فى الفصل السادس، ففيه كلام عن مذيع تلفازى من نفس الطينة والعجينة أغوى بنتا صحفية تعلقت به لخفة ظله وشهرته وأناقته حتى حملت منه ثم لفظها ولم يرض أن يتزوجها. ثم ينتقل الكلام، بطريقة "سمك، لبن، تمر هندى"، إلى حادثة غرق العبارة المشهورة التى راح ضحيتها نحو ألف وثلث، والبطاطين التى كان رجال الإسعاف يلفون فيها الناجين القلائل من الغرق، لينتقل إلى البطانية التى كان خالها المجند فى الجيش قد أحضرها معه من المعسكر فأصابت البيت بزلزال، وكانت تتحرك فى مكانها كأن عفريتا يختفى تحتها، إلى أن أخذها الخال خارج البيت وأشعل فيها النار تخلصا من عفاريت الجنود المقتولين فى حرب 1967 الذين كانوا يتغطَّوْن بها، وهو ما دفعها إلى أن تخصص جزءا من هذا الفصل لمناقشة موضوع العفاريت هذا، وهل يمكن أن يكون للشهداء عفاريت؟ وكأن هناك فعلا عفاريت للمقتولين من غير الشهداء. ثم فجأة تنعطف البطلة نحو حبيبها فتناجيه بينها وبين نفسها كعادتها على طول الفصول الماضية، وتتحدث عن حبها له وللوطن، ثم عن حبها لله، فـ"الله محبة"، ولا يمكن أن يلومنا البشر على أن "الله محبة" تلك الكلمة "الإسلامية القبطية" كما تقول، وتمضى فتشرح لنا أننا نقول إن الله محبة لأن الحب هو أصل الوجود، فلماذا يستكثر حبيبها ووطنها عليها أن تحب؟ صحيح: لماذا؟ لكن من قال إن حبيبها ووطنها قد أنكرا أو استكثرا عليها أن تحب؟ ومتى كان ذلك؟ وبأية أمارة يا ترى؟ إنها منذ أول الرواية حتى الآن وهى نازلة حبا فى حب، ولم أسمع أحدا يستنكر منها ذلك. أم هو كلام والسلام؟ 
ثم تترك البطلة حبيبها فجأة كما تذكرته وخاطبته وناغته وهامت به فجأة، ودخلت فى عدة قصص أخرى كقصة الشاب المتخرج من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بتفوق كبير، والذى قدم أوراقه للاشتغال فى الخارجية، وكان من أسرة فقيرة، فرُفِض طلبه وقيل فى سبب الرفض: "غير لائق اجتماعيا"، وهو ما دفعه إلى إغراق نفسه فى النيل. وهى قصص تتكدس فيها المآسى تكدسا دون أن تكون هناك بارقة أمل، ودون أن يكون هناك فى العادة منطق أو عقل، مما يعجب السطحيين الذين لا يفهمون أوضاع الحياة ويغرمون بالاستماع إلى النواح ومشاهدة اللاطمين ظنا منهم أنه كلما زاد النواح واشتد اللطم كانت القصة رائعة. وبعض تلك القصص يذكرنا بكل قوة بالأفلام الهندية التى صار يُضْرَب بها المثل على البلاهة.
وبعد أن قضت بطلتنا من هذه الأفلام الهندية وطرا تحولت بغتة، وبدون سابق إنذار، إلى حبيبها تناجيه قائلة هكذا من الباب للطاق: "رغم هذا كله ما زلت أبحث عنك وعن الوطن. أنظر إلى كل هذه الوجوه حولى أستجدى دعوة براحة البال، أنضم إلى الهائمين على وجوههم فى بيوت الله بحثا عن نفحة رحمة تأتينى من السماء، يتعلق قلبى بكل مئذنة مسجد وقت الأذان لكل صلاة وكل جرس لكنيسة يدق للتذكرة بالله، أحسك ملء الهواء وملء الأرض وملء السماء، وبالرغم من هذا لا أراك". ويرى القارئ دون أن يحتاج منى إلى تنبيه كيف أن إحساسها العالى بالوحدة الوطنية لا يتركها هنا أيضا، فهى تذكر الكنيسة جنب الجامع خبط لزق مثلما ذكرت فى الفصل الأول ترانيم قداس عيد الميلاد بجوار التراتيل فى الحضرة الصوفية تعبيرا عن شفافية الأجواء الروحانية. لكنى أحب أن أقول له إن بطلتنا لم تذهب يوما إلى مسجد، فكله كلام فى الهواء مما لا يكلف صاحبه شيئا. وأنا، حين أقول ذلك، لا أشم على ظهر يدى، بل أقوله اعتمادا على قصتها، التى لا تذكر فى أى موضع منها أنها تذهب إلى المساجد. وكل ما تقوله أنها تقابل حبيبها فى قهوشية فيمسك يدها ويقبلها "فوق جبينها" ويستمعان إلى معزوفات زامفير وبين أيديهما زهرية فيها وريقات ورد قرمزية، ثم هى تتركه جالسا أمامها وتروح فى ذكريات الجلة رغم أنها ظلت طوال عمرها تنتظر ذلك الحبيب العجيب الذى كانت تشاهده فى المنام من قبل الأوان بأوان كما فى الأفلام الرومانسية.
وتمضى البطلة فتشكو من أن حبيبها جُرْحٌ دامٍ فى حياتها وأنه يهجرها ويؤلمها ولا يستجيب لنداءاتها، ثم تتحدث عن حلوى مما تباع فى الشارع اشترتها لتأكلها، فوجدت أنها بلا علامة تجارية أو تاريخ إنتاج أو ذكر لبلد المنشإ، فتروح فى مندبة أخرى، إذ تجد أن هذه الحلوى تشبهها. وهو تشبيه مضحك، فهل كانت تريد أن يخبطوها خاتما على قفاها مثلا يحدد البلد الذى أتت منه، فيقولون: "Made in Egypt"؟ أم ماذا؟ ألا يرى القارئ مدى السذاجة التى تتمتع بها بطلتنا؟ ثم إنها لا تكتفى بهذا بل تتكلم بهذه المناسبة عن مصر الضائعة وقيمها المنهارة وعمالها البائسين الضائعين فى شوارعها يعانون الفقر والهم والغم. ولكنها للأسف نسيت أن تنوح قليلا على واحد مسكين مثلى كُتِبَ عليه أن يطالع روايتها ويتجرع هذه الغصص. 
ويبدأ الفصل السادس بكلام بجح لا ظل له من الحقيقة، فبطلة الرواية تزعم أنها مكشوف عنها الحجاب (مثل الممثلة فلانة الفلانية، التى قالت عن نفسها: "أنا شيخة، ومكشوف عنى الحجاب")، فهى تشعر بالموت قبل وقوعه بزمن بعيد، ذاكرةً كشاهدٍ على ذلك مقتل خالها ومقتل راكبى عبارة السلام وسقوط الطائرة المصرية فى المحيط الأطلسى أمام السواحل الأمريكية، مع أنها، حين سردت هذه المآسى، كان واضحا أنها قد فوجئت بها مثلنا تماما نحن الذين لم نوهب مقدرة الشم على ظهر اليد ومعرفة الغيب قبل الهنا بسنة. كما أنها، حين تناولت موضوع شفافيتها الروحية كرة أخرى فى الفصل الحادى عشر، قد سردت بعض الأعراض التى تقول إنها تنتابها قبيل وقوع الموت من حولها، وهى انقباضةٌ فى القلب وضيقٌ فى التنفس وهَمٌّ يجثم على الصدر، وهو كلام عام نسمعه كثيرا على ألسن العوام، ورغم هذا لم تذكر لنا أنها قد شعرت بشىء من هذه الأعراض فى أية مرة من مرات الموت التى أوردتها. والحمد لله أنْ تواضعت فى ذلك الفصل وقالت إنها، عند موت أمها، لم يعترها أى عرض يدل على اقتراب الموت. وهذا دليل آخر على أن كلام البطلة لا يحكمه ضابط ولا رابط، بل تقول كل ما يخطر على بالها دون تمحيص. 
وبعد ميلودراما أخرى من ميلودرامات الرواية التى ليست لها نهاية نفاجأ ببطلتنا (أو بالأحرى: لا أفاجأ بها لأننى حفظت ألاعيبها جيدا) وهى تنتقل دون إحم أودستور إلى مناجاة حبيبها ناسية الميلودراما التى كانت فيها منذ لحيظة، ميلودراما البنت الصغيرة التى انهار عليها وعلى أمها وأخواتها والجيران المنزل، وظلت إلى الصباح حتى أنقذوها، فلما خرجت إلى النور وشمت الهواء النقى ماتت، فتقول بطلتنا لحبيبها: "نفدت زجاجة عطرك القديم، وجاءنى صوتك عبر الهاتف وأنت تهرول فى كل ما تفعل استعدادا للقاء جديد... إلخ". ما هذا الخلط والنط من موضوع إلى موضوع لا تربطه به أية صلة؟ 
ومن المضحك أن نراها تحكى لنا أن حبيبها كان يلبس جوربه ويزرر قميصه ويدخل قدميه فى سرواله ويغسل أسنانه بالمعجون ويحكم ربطة عنقه ويفتح زجاجة عطر جديده وينثر منها على نفسه، كل ذلك وهو يحدثها فى الهاتف. كيف؟ الله وحده يعلم! والنبى ومَنْ نَبَّا النبى لو كان حبيبها هذا بهلوانا يلعب بالبيضة والحجر ما استطاع ذلك. لكن البطلة التى جعلت بطانية أخيها تتقافز بسبب عفريت الجندى الذى كان يستخدمها فى القشلاق قبل أن يقتل فى الحرب قادرة على أن تجعل لحبيبها الخائن الغادر عشر أذرع كالأخطبوط يستطيع بها أن يفعل كل هذا فى ذات الوقت. ثم إننا لا نعرف كيف صار هذا الحبيب خائنا غدارا ولا السبب فى خيانته وغدره. لقد أرادت البطلة أن يكون خائنا غدارا، فكان. لتكن مشيئتكِ يا بطلتنا! 
ثم تبدأ البطلة مناحة أخرى لأنها، وهى المرأة الشرقية التى لا تحسن سوى العربية كما تقول، لا تستطيع أن تزاحم عشيقات حبيبها، اللاتى تتحدث إحداهن الإنجليزية، والثانية الفرنسية، والثالثة الألمانية رغم أنهن كلهن مصريات، لكن مصريات خواجايات، ودعنا من زوجته، التى لا ندرى بأية لغة ترطن له بها فى لحظات الانشكاح والليالى الملاح. والواقع أن الواحد لا يدرى أنحن أمام قصة غرامية أم عصبة أمم أم برج بابل. اتركونا من هذا كله، وتعالَوْا إلى ما صدعت به البطلة رؤوسنا عن المجتمع الذكورى الذى يظلم فيه الرجال النساء ظلم الحسن والحسين، فأين كرامتك يا فتاة وأنت تتهافتين هذا التهافت الشائن على رجل يعلق النساء كالمفاتيح فى مُدّلاَّته؟ واضح أن البطلة لا تحسن شيئا سوى الثرثرة والكلام الفاضى!
وهكذا تمضى الرواية حتى ختامها: قصة من الشرق، وأخرى من الغرب، ومشاهد تصادفها البطلة فى طريقها فتترك موضوعها الأصلى بل تنساه تماما وتأخذ فى الثرثرة إلى أن تجد نفسها قد أخرجت كل ما عندها فى ذلك الأمر الطارئ من ثرثرة، فحينئذ تستدير قليلا نحو حبيبها تناجيه فى دخيلة نفسها متناولة من الموضوعات ما يعنّ لها أو ما تصادفه أمامها، إلى أن ينفد ما تقوله فتعود إلى حبيب القلب لحظات قليلة تنتقل بعدها إلى موضوع آخر... وهكذا دواليك. والبطلة، كما تكررت الإشارة، تريد جنازة تشبع فيها لطما، فحكاياتها كلها يسودها الغم والكآبة مهما بدت فى أول الأمر واعدة بالبهجة، إذ لا بد أن يموت الشخص الذى تدور حوله الحكاية، وتكون ميتته مأساوية. كيف؟ هذا سر من أسرار عبقرية البطلة لا يمكننا معرفته. ومن ذلك حكايتها عن ابنة عمتها التى رفضت خطيبها الأول فعوقبت من أهلها، عند زواجها بغيره، بأن تم القران فى صمت، ثم كان الحمل والفرحة به، ولكنها قبيل الولادة تصاب بمرض فى المخ وتموت بسببه.
وفى الفصل التاسع نجد مشهدا بارعا أخذتنا البطلة إليه على حين غزة كعادتها. لقد كانت تصف احتفال الأسرة بزواج أختها، وبغتة ألفيناها تتحدث عن أعراض الصداع الذى يصيبها هى بين الحين والحين لينتقل الأمر إلى غرفة واسعة أُلْقِيَتْ عليها فيها ملاءة بيضاء طويلة عريضة بعدما دُلِق عليها أباريق من الماء البارد، ووقف كائنان يرتديان أيضا ملابس بيضاء يسألانها عن سنها وأعمالها فى الدنيا وهل تستحق أن تدخل الجنة أو لا، فتجيبهما بأنها تتمنى ذلك، وإن كانت لا تستطيع أن تعرف هل تستحقها أو لا. وهو مشهد لم أقابل مثله من قبل. والوصف والحوار ممتعان. وفى نهاية المطاف يتضح أنه إغماء، وأنهم أحضروا الطبيب ليفوّقها منه. ولكن رغم ما فى المشهد وطريقة تقديمه للقارئ من إمتاع أحب أن أسأل: هل المغمى عليه يمكن أن يشعر أو يدرك أى شىء مما يقع له أثناء النوبة بحيث يستطيع استعادته بعد النهوض منها؟ بطبيعة الحال لا. فكيف إذن استطاعت البطلة أن تدرك وتتذكر ما اعتراها خلال تلك النوبة؟ ثم إن البطلة لا تنبئ أفكارها ولا تصرفاتها طوال الرواية عن اهتمام بالدين والحياة الأخرى والحساب والثواب والعقاب، اللهم إلا مرة يتيمة حين كانت أمها على وشك الموت، فصلت بطلتنا الفجر ودعت لها، فكيف لم يخطر لها أثناء النوبة، إذا كان لنا أن نقيسها خطأ على النوم والأحلام، إلا مشهد الحساب الذى يشير إلى أن الكائنين اللذين حاسباها هما ملكان من الملائكة؟ 
كذلك يقابلنا فى هذا الفصل بعض مشاهد الدمار والقتل الذى يوقعه الصهاينة بإخواننا فى فلسطين. وهى مشاهد مؤثرة يمكن أن تكون تقارير صحفية جِدّ ناجحة. لكن البطلة للأسف تفسد كل ذلك بانتقالها فجأة إلى مناجاة حبيبها. وليس العيب فى الانتقال المباغت وحده، بل لا يوجد كذلك أى تناغم بين مناجاتها وبين ما كنا فيه من عرس أختها وما أصابها خلاله من إغماء ولا بينه وبين مشاهد الترويع فى فلسطين. على العكس ثَمَّ تعارض واضح بين الأمرين جدير بإفساد الأمر كله: "مضى فصل الشتاء، فأين أنت الآن؟ أتراك فى رحلة نيلية على ظهر مركب صغير فى فينيسيا تمارس الحب على ضوء الشموع؟ أم إنك الآن فى باريس تعيش حكاية جديدة تبدؤها من حيث نهاية غير سعيدة لامرأة مثلى؟...". إلى مثل هذه المناجاة تقفز البطلة بغتة من المشاهد الفلسطينية المأساوية دون تمهيد أو تدريج، وقد تكرر مثله كثيرا، وهو دليل على ضعف الصنعة الروائية عند البطلة، فهى تفعل الشىء بمجرد ما يعن لها أن تفعله دون التفات إلى أصول الفن. 
كما أن قولها: "رحلة نيلية" عن رحلة الجندول فى البندقية سهوة فيها من الظرافة ما فيها. وتذكرنى بما قاله موظف ريفى الأصل قابلته بالقاهرة أواخر ستينات القرن المنصرم، وكنا فى مجلس يضم بعضا من المصريين المتعلمين وصديقا يابانيا كان يدرس معنا أيامها بجامعة القاهرة، فتطرق الحديث إلى الزراعة والرى، فما كان من الموظف ذى الأصل الريفى إلا أن انبرى يسأل محسن يوشيهارو أوجاساورا قائلا: "وهل تستخدمون فى زراعتكم باليابان الماء النيلى يا أستاذ محسن؟"، فكانت طرفة. 
ويحتوى الفصل العاشر على حادثتين: الأولى إحياء الذكرى الثالثة لغرق عبارة السلام حيث تحدث بعض أهالى الضحايا وسردوا مآسيهم، وبكت البطلة بكاء حارا تعاطفا مع هؤلاء المساكين وتألما لمعاناة الغارقين رحمهم الله واستنكارا للامبالاة الوحشية التى تعاملت بها الدولة مع الفاجعة. والثانية مقتل السادات فى أكتوبر 1981م وبكاء أبيها العنيف رغم رفضه ما فعله رئيس مصر من التصالح مع إسرائيل والانحياز إلى الولايات المتحدة ورغم حب الأب الجارف لجمال عبد الناصر مع تحفظه على سجن الإخوان كما تقول البطلة. وليس بين الأمرين صلة كما هو بين. إنما هو أمرٌ عَنَّ للبطلة فسجلته وكتبت عنه، والسلام. وهو عيب ملازم للرواية كما وضحنا مرارا. لكن يحمد لها هذه المرة أنها لم تفرض علينا مناجاتها مع حبيبها، ذلك الذى لا نعرف عنه شيئا سوى أنه قابلها فى مطار بيروت وتعارفا هناك قبيل إقلاع الطائرة، ثم اتصلت به فى القاهرة مرات وتعددت لقاءاتهما فى إحدى القهوشيات، وتسابقا جريا فى الشارع مرة، ثم سمعناها تتكلم عن هجره وخيانته لها دون أن نعرف طبيعة ذلك الهجر ولا تلك الخيانة، بل دون أن نعرف شيئا عن المدى الذى بلغته علاقتهما غير لقاءات القهوشية والاستماع هناك لموسيقى زامفير وتلامس أيديهما وقُبْلَته لها على جبينها، وكان الله يحب المحسنين!
لكن إذا كانت البطلة فى الفصل الماضى قد خيبت توقعنا فى مناجاة حبيبها فى عز المصيبة التى تحكيها لنا فقد رجعت إلى قواعدها سالمة فى الفصل الحادى عشر، الذى خصصته لموت أمها بعد توقف كليتيها عن العمل ورفضها إجراء غسيل لهما. ففى غمرة أحزانها على موت أمها وتألمها الشديد بسبب تخيلها للدود يأكل عينيها ووجهها وسائر جثتها تحت التراب نراها قد جاءتها النوبة بغتة كما عودتنا، فتقول دون أية مقدمات مناجية له: "ما أحوجنى اليوم إليكَ! وما أبخلكَ! فكم نحن بحاجة إلى الحب حينما تقسو الحياة ويشتد الألم. ما أحوجنى إليك، وما أقساك أنت!... كم أنت قاس قسوة الزمن، وكم أنت موجع وجع مرض أمى!"، لتنتقل عقب هذا مباشرة إلى الحديث عن رفض أمها طوال ثلاثة أيام بلياليها لعمل غسيل كلوى إلى أن انتقلت إلى عفو الله ورحمته. كما نراها تقول وهى تتلقى عزاء أمها فى قريتهم بعد أن دفنوها هناك: "اليوم أنظر حولى: جميع الناس معى جاؤوا من بعيد ومن قريب، إلا أنت الغائب الحاضر دائما. لا أعرف إذا كنت قد علمت بموت أمى أم إنك تتجاهل حزنى كما كنت دوما تتجاهل حبى. ترى أين أنت الآن؟ وماذا تفعل بالزمن؟". ولا شك أن هذا تصرف غريب: غريب من الناحية الإنسانية، وغريب أيضا من الناحية الفنية، ولا يصدق عليه إلا أنه "سمك، لبن، تمر هندى". 
إن هذه الميوعة العاطفية لا تعجبنى لا من الناحية الإنسانية المحضة ولا من ناحية الإبداع الأدبى. هذا كلام قد يعجب السطحيين السذج الذين لا يشجيهم غير النهنهة وعبارات المراهقين الإنشائية. ثم إن الحبيب الموهوم لم يعد له وجود فى حياتها منذ زمن طويل وصارت تنعته بالهاجر والخائن والقاسى، فما معنى استنجادها به فى مثل ذلك الموقف، الذى هو فوق ذلك آخر ما يصلح فيه مثل تلك المناجاة؟ ثم كيف كانت تريده أن يأتى لتعزيتها والوقوف إلى جانبها؟ ترى ماذا كانت ستقوله عند ذاك لأهلها؟ أتقول لهم إنه حبيبى جاء يعزينى ويخفف عنى؟ إلا أن البطلة التى لا يحلو لها الكلام عن الجلّة إلا فى سياق اللقاءات العاطفية مع حبيبها لا يستغرب منها شىء. وعلاوة على ذلك فإن البطلة لا تحسن ربط موضوعاتها بعضها ببعض ولا تعرف أن هناك شيئا اسمه البناء الروائى، وهو أمر يحتاج إلى تصميم مسبق، ولو فى خطوطه العامة. أما أن تترك نفسها هكذا للمصادفات والخواطر التى تنبت فى رأسها بغتة دون خارطة طريق فهذا برهان على التهافت الفنى. 
وغريب جد غريب أن تظل بطلتنا تتهافت على خالد الراوى ولم يبق إلا أن تبوس جزمته كى يبادلها ولو كلمة واحدة، وهى الثائرة المتمردة على جنس الرجال المستبدين الطغاة الذين لا يعرفون الرحمة ولا العطف ولا يفهمون سوى ظلم المرأة والجور على حقوقها وإنسانيتها. كنت أتصور أن تكون على مستوى هذه الاستنارة اللفظية ولو مرة واحدة، بيد أنها قد خذلتنا. أذكر فى هذا السياق كيف أن صديقا لى كتب ذات يوم بحثا علميا يثبت فيه ما تقوله بطلتنا من أن مجتمعنا بل أمتنا كلها فى ماضيها وحاضرها تظلم النساء وتحتقرهن ولا تقيم لهن وزنا حتى إن بلاغتها لتشبّه المرأة بالدابة عند الجماع فيقال: "ركب فلان فلانة". وبغض النظر عن أنهم فى الإنجليزية والفرنسية، كما بينت عند مناقشتى لكلامه فى أحد كتبى، يستخدمون الفعل ذاته: "to ride, to mount- monter " وعن أن الرجال فى مجتمعاتنا يعطفون على بناتهم حتى لو بدا أنهم قساة عليهن، وينظرون إلى نسائهم بوصفهن شرفهم وعرضهم وكرامتهم، ويحترمون أمهاتهم... إلخ، فقد هالنى، حينما كان عندى فى مكتبى بالجامعة ذات يوم، هجومه على المرأة هجوما شنيعا مقللا من قدرها وعقلها وفهمها، فقلت ضاحكا: الله أكبر! أين انحيازك الظالم لها ضد الرجال؟ إننى لا يمكن أن أقول عشر معشار ما تقوله الآن فى المرأة، ولا أرى أنها تقل فى الإنسانية عنا نحن الرجال، ولا ينبغى أبدا الحط من شأنها. فما كان منه إلا أن ابتسم ابتسامة المحرج وسكت ثم حول دفة الحديث إلى موضوع آخر. 
ومن ذلك أيضا أننى، فى تسعينات القرن المنصرم، كنت أحضر مجلسا أدبيا فى عيادة أحد الشعراء، وتعرفت هناك إلى مهندس يسارى تقدمى مستنير فوجئت به ذات ليلة، بعد أن انصرفت امرأة خليجية كانت موجودة معنا فى الصالون، وكانت زوجة سابقة لكويتب وقح مثير للجدل والقرف، فوجئت به يهاجمها ويصفها بأحط الصفات الخلقية. لماذا؟ لأنها تحضر مجلسا رجاليا كمجلسنا. فأعربت عن تعجبى من موقفه هذا، وهو اليسارى التقدمى المستنير. فأجابنى أن هذا مجرد كلام يقال باللسان، وأنه لا يمكن أن يسيغ مثل تلك التصرفات. ومن البين أن بطلتنا من هذا النوع: جعجعة ولا طِحْن. تهاجم الرجل كلاما، وتتهافت عليه واقعا وسلوكا، وتنسى فى تهافتها أن ثم شيئا اسمه الكرامة والخلق وعزة النفس، وبخاصة أن الرجل الذى تحبه لا يلتفت إليها ولا يبالى بها، وأنه قد رماها خارج نطاق وعيه تماما كما هو واضح من كلامه هى ذاتها. وقد رأيناها تنتقد بعض المذيعين والصحفيين فى سلوكهم مع الفتيات من أمثالها على نحو يناقض ما يدعون إليه فى العلن. فهل تراها أفضل منهم؟ 
ومن هنا أستغرب دهشتها من أن أباها، بعد موت أمها، أعلن عن رغبته فى الزواج، متسائلة كيف ينسى الناس زوجاتهم بهذه السرعة؟ ناسية أنها، فى عز مرض أمها وآلامها وتوقعهم لموتها بين آونة وأخرى، كانت تناجى حبيبها المتزوج الفلتان الذى يعلق النساء كالمفاتيح فى مدلاته والذى لا يسأل عن صحتها ولا يبالى بها. وهكذا تكون التقدمية والاستنارة من بطلتنا، تلك الاستنارة التى لا تكف عن إزعاجنا بمقولات الحنجوريين والحنجوريات عن المجتمع الذكورى المتخلف. بالله ما وجه الخطإ فى أن يتزوج الرجل بعد موت زوجته أو أن تتزوج المرأة بعد موت زوجها ما داما يشعران بالحاجة إلى الزواج ولا يقدران على العيش دون قرين؟ أليس تنطعا من بطلتنا أن تقف من أبيها هذا الموقف السخيف الخالى من العقل والإنسانية؟ بالله من الذى يريد مصادرة حرية الآخر: الأب، الذى نزل على رغبة ابنته فى كل شىء كما رأينا أَمْ الابنة، التى تنكر عليه حريته فى الزواج بمن نؤنس وحدته؟ ثم جاءت صديقة لبطلتنا فزادت الطين بلة، إذ قالت لها متعجبة من موقفها هذا: "هل تنبت لك فى ذقنك لحية؟" (قالتها بالعامية)، فأجابتها وهى لا تفهم مغزى السؤال: "طبعا لا". فقالت الشملولة: "إذن فلن تستطيعى أن تعرفى كيف يفكر الرجال". بارك الله فيك يا شملولتنا، فقد جئت بالتائهة!
لقد أنكرت بطلتنا أن يتخذ الصحفى الذى سبق ذكره آنفا زوجة أخرى إلى جانب زوجته التى ما زالت على قيد الحياة، وأنكرت أن يكون لأبيها زوجة أخرى بعد أمها، التى ماتت، وأنكرت أن يكون لحبيبِها المفدَّى زوجة أصلا لأنها تريده أن يكون لها عاشقا، وتنكر أن ينساها ولا يبالى بها رغم أنها ليست بزوجته ولا لها عليه أى حق، علاوة على أنه لا يشعر نحوها بحب، وله من العشيقات طابور طويل يغنينه عنها وعن ألفٍ مثلها. بالله أليس هذا أمرا مضحكا؟ إننى مثلا لا أحبذ الزواج بأكثر من واحدة، لكنى لا أنكره على من يفعله. ولى صديق ماتت زوجته من مدة، ويريد أن يتزوج، ويطلب منى المساعدة، فأضحك قائلا له: "يا ابن الحلال، ارض بما أنت فيه من سكنية وراحة بال، والتمس السعادة باللعب مع أحفادك، ولا تدخل فى تجارب لا تدرى فى هذا العمر المتأخر شيئا عن طبيعتها، ولا تتعرضْ من البلاء لما لا تطيق كما قال سيدنا النبى". ورغم ذلك فلو علمت أنه قد تزوج ما أنكرت عليه. 
ومن ثم لست أفهم فيم كل هذه الهيصة والزمبليطة من بطلتنا الهمامة وكلامها الحنجورى عن المجتمع الذكورى بينما تريد أن تقمع أباها الذكر بنسوية ظالمة مجحفة! والسخيف أنها تنكر على الرجال تشبثهم، كما تقول، "بقول الرجال قوامون على النساء" محيلة الآية الكريمة، كما يرى القارئ، إلى مجرد قول فى الوقت الذى تقدم فيه كلام المسيح عليه السلام بعبارة "يقول الرب". ألم أقل: سمك، لبن، تمر هندى؟ من الآخر: الست البطلة تريد أن تعشق وتذوب وتمارس الغرام بكل حرية مع رجل ليس زوجها ولا يفكر فيها وله زوجة وعشيقات متعددات يرطنّ بالإنجليزى والفرنسى والألمانى وبكل الألسنة الأخرى التى كلم بها أدهم الشرقاوى مأمور إيتاى البارود، وكالمغنى الخليجى الذى لا أعرف اسمه والذى يقول إنه يحب حبيبته بكل لغات العالم، وكالأغنية التى كنا نحفظها ونحن شبان صغار من فلم "سانجام" حيث يردد المغنى جملة "أحبك" هكذا: "I love you- Je vous aime- Ich liebe dish، هُمَّه يحِبُّوا بعض"، لكنها فى ذات الوقت ترفض أن يتزوج أبوها بعد وفاة أمها. إنها لا تجد حرجا فى تذكر حبيبها خلال غمرات الموت التى كانت أمها تخوضها وعقب موتها وبعد موتها بعامين وأكثر من عامين، وتصيع فى الشوارع والكافيهات وقد انتفضت ذكرياته فى كيانها كله فتتنهد وتشهق وتزفر مسكونة به لا تستطيع أن تنسى ذوبانها فيه (وخذ بالك من "حتة الذوبان" هذه. وهو كلامها لا كلامى أنا)، لكنها لا تسمح لأبيها أن يتزوج على سنة الله ورسوله. 
وهنا، على عادة بطلتنا التى لن تشتريها من الخارج لأنها طبع، والطبع غلاب كما تعرفون، تسرح بطلتنا فى مناجاة حارة مع حبيبها الذى لا نعرف عنه شيئا يذكر، فتقول فى آخر الرواية إنها لم تكن سعيدة بحبه، بل كانت تستدعى السعادة حتى تسعد به. يعنى أن كل الرواية طلعت فاشوشا، وكل ما قالته عنه وعن حبها له هو كلام هجاصين. ثم تترك نفسها للشارع والمترو متنقلة من موضوع إلى موضوع ومن مشهد إلى مشهد لا تكف عن انتقاد كل شىء ولا عن استعراض وطنيتها وإنسانيتها واستنارتها وكرهها الحنجورى للمجتمع الذكورى إلى أن تنتهى الرواية دون أن تستطيع التخلص من ذكريات حبيب القلب الذى لا يبالى بها والذى لا تدرى، كما تقول، مع أية امرأة هو الآن ولا ماذا يفعل معها، وإن كان الجواب هو أنه يفعل معها ما كان يفعل معك يا ذكية. 
وفى ختام الرواية تقول البطلة إنها قد تلاشت بين البضائع المنثورة على الرصيف غير المعروفة الهوية أو تاريخ الصنع. وهو الختام الطبيعى لمثيلاتها ممن يَلُكْن مصطلحات ومفاهيم لا يحققنها ولا يفهمنها الفهم الصحيح، ورغم ذلك يُفْتَنّ بترديدها على السماع، فيضيعن أنفسهن ويهلكنها ولا يستفدن من النعم التى يفيضها الله عليهن بشىء، ويذهبن يتصايحن بإدانة المجتمع الذكورى المتخلف الغاشم قامع النساء ومحيل حياتهن إلى جحيم لا يطاق، ذلك الجحيم الذى لا وجود له فى الغالب خارج أذهانهن المضطربة.
والمضحك، بعد كل الذى قالته بطلتنا عن أبيها واستبداده وتصلبه وقسوته مع أمها ومعها ومع أختها، أنها فى الفصل التاسع تصف هذا الأب المرعب بأنه عاش طول عمره خائفا يرفع شعار "طُوبَى للخائفين!". إذن فالخوف ليس من نصيب نساء أسرتها وحدهن، بل للأب كِقْل كبير منه، بل الكفل الأكبر، فقد رأينا البطلة لا تضع شيئا فى ذهنها إلا حققته ضاربة عرض الحائط بكل اعتبار آخر. صحيح أنها كثيرة الثرثرة عن الذكورية المصرية والعربية، لكنها مجرد ثرثرة. أما الأب فمسكين عاش طول عمره خوافا يردد دائما: "طوبى للخائفين" كما تقول هى بعظمة لسانها، إن كان للألسنة عظم. وقد وردت عبارة "طُوبَى لـ..." فى الكتاب المقدس 74 مرة، وهذه بعض شواهدها فى الإنجيل المنسوب لمتى: "طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ"، "طُوبَى لِلْحَزَانَى لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ"، "طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ"، "طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ إِلَى الْبِرِّ لأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ"، "طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ لأَنَّهُمْ يُرْحَمُون"، "طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللَّهَ"، "طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللَّهِ يُدْعَوْنَ"، "طُوبَى لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ".

لكن هل الكتاب يخلو من أية ميزة؟ الحق أن فيه بعض المزايا التى لا يمكن نكرانها، لكن مستواه كروايةٍ ضعيفٌ جدا رغم ذلك. كيف؟ أول مزايا الكتاب الأسلوب المستقيم السلس. وهى مزية نفتقدها هذه الأيام لدى الأدباء الشبان بوجه عام بل لدى كثير جدا من المشاهير فى عالم الكتابة والأدب، وهم فى الواقع لا يساوون شيئا يذكر. وحتى لو كانت أقلام المراجعين قد أجيلت فى النص الذى بين أيدنيا، وذلك أمر غير مستبعد، فيُشْكَر لصاحبة العمل أَنْ فكرت فى إخراج كتابها مبرأ من الأخطاء البشعة الكثيرة التى تعج بها كثير من النصوص هذه الأيام، وإن لم يخل تماما من الأغاليط اللغوية، فلا شك أن الحرص على الصحة ميزة فى حد ذاته حتى لو استعان الواحد منا بالآخرين. 
لكن العاطفية المسرفة والكلام الإنشائى الطنان فى كثير جدا من صفحات الرواية، والإلحاح على المعنى الواحد بجمل متعددة، يفسد متعة القراءة. كذلك كنت أحب لو اصطنعت صاحبة الكتاب اللغة الفصحى فى كل أنحاء القصة ولم تقصرها على السرد والوصف، بل استعملتها فى الحوار أيضا. ولا يحتج أحد بأن حوارات الناس فى الحياة إنما تجرى باللهجة العامية، إذ الرد على ذلك سهل جدا، وهو أن الناس أيضا فى الحياة لا يحكون قصصهم ولا يصفون ما يقع أمامهم بالفصحى، ومع ذلك فها هى ذى البطلة تستعملها فى سردها ووصفها واستبطاناتها الذاتية ومناجياتها الداخلية. إن الأدب إيهام بالحياة، وليس هو الحياة. وعملاق الرواية العربية كان يكتب كل شىء فى رواياته بالفصحى، وكثير منها يجرى فى الأحياء المغرقة فى الشعبية وعلى ألسن الأوباش، ومع هذا لا يحس القارئ بأية مفارقة أو نشاز فى حواراتها الفصحوية. 
ويحتوى الكتاب كذلك على مشاهد أكثر من جيدة، كمشهد الحساب الذى ضم بطلة الرواية وكائنين يفترض أنهما ملاكان، وكمشاهد الدمار والتقتيل فى جنوب لبنان وفى فلسطين. لكن هذه المشاهد وغيرها فى الرواية ظلت مفككة لا يربطها بعضها ببعض رابط، أو لا يربطها رابط قوى. فمحور الرواية، وهو حبيب البطلة، التى لا تنفك تعود إليه دائما وتناجيه، ظل طوال الوقت شاحب الوجه، بل ضائع الملامح، ولا نعرف عنه شيئا ذا بال، ولا يظهر بنفسه فى الرواية رغم أنه هو كل شىء فى حياة البطلة. ولا تقول البطلة عنه إلا جملا مهوشة فى الغالب تعجب المراهقات، لكنها لا ترضى الفن الروائى. إن فصول "امرأة خائفة" لا ترتبط فيما بينها إلا بكونها متتابعة يقفو بعضها بعضا دون أن يكون هناك رابط سببى بينها. وقد وضحتُ مرارا وتكرارا أن البطلة كانت كلما عن فى بالها أو رأت فى طريقها مثلا شيئا أدخلته فى عملها. ولعلها تستفيد من هذه الملاحظات وتراجع فى ضوئها ما تكتب ولا تنصت إلى المبالغات السخيفة التى من شأنها، لو صدقتها وتصرفت بمقتضاها، أن تفسد مستقبلها الأدبى. إن العمل الذى أخرجتْه لنا يحتوى على عدد من المشاهد والتقارير الصحفية الجيدة، كما أن هناك بعض الحكايات الصغيرة التى استطاعت الكاتبة تقديمها بمهارة طيبة. لكن ذلك كله لا يصنع من العمل رواية جيدة، إذ الرواية الجيدة تحتاج إلى أشياء أخرى متعددة غير المشاهد والتقارير الجيدة. 
إن شخصيات الرواية مثلا، وبخاصة شخصية البطلة، غير متسقة مع نفسها.فبطلتنا تقول كلاما كبيرا ضخما، لكنها عند التصرف تتصرف تصرفات صغيرة سخيفة. وهى تقول الشىء ونقيضه، وفى مساحة ضيقة جدا بحيث لا أدرى كيف عميت عنه فلم تلحظه، ومن ثم لم تصلحه. وهى مغرمة بالثرثرة، وتبدو فى تصرفاتها وكأنها مصرة على تدمير نفسها بالشعارات الخادعة والتمرد الطائش، والجرى وراء ما يضرها ويؤذيها كالفراش الذى يلقى بنفسه فى النار، حتى انتهى أمرها إلى التلاشى بعدما تمردت على زواجها وألقت بنفسها وكرامتها وعرضها تحت قدمى رجل سخيف تافه يحتقر جنس النساء ويلهو بهن كما يعبث الطفل بلعبه ويحطمها متى أراد دون أن يحسب للعواقب حسابا، رجل لا يقدرها ولا يبالى بها ولا يحترمها، ومع ذلك نراها ذائبة فيه، ولا تستطيع أن تطرحه من ذهنها حتى فى أشد لحظات حياتها تنافرا مع ذكراه كما هو الحال حين راحت تناجيه أثناء أخذ العزاء فى أمها، رجل من الذين يلعبون الثلاث ورقات ويلبسون لبوس المدافعين عن حقوق الإنسان، كسر الله حُقَّه، وهو ما يكشف عن خواء شخصيتها وتفاهتها رغم كل الشعارات الصاخبة التى تخدع نفسها وتحاول أيضا أن تخدعنا نحن القراء بها. 
وهناك إسهال كلامى شديد فى كثير من صفحات الكتاب تروح البطلة خلاله فى نوبات من التطوح اللغوى يذكرنا بالدراويش حين يأخذهم الوجد، بل التواجد بالأحرى، فينخرطون فى التمايل يمينا وشمالا صارخين ضائعين. فكذلك بطلتنا حين تمسك قلمها وتصف مشاعرها أو تناجى حبيبها. إنها ساعتئذ تمطر القارئ بالعبارات المهوشة المائعة التى تفتتن هى بها وبما فيها من طنطنات قبل أى شخص آخر، ولا تبالى بخوائها من المعنى المفيد. إن العبارات تصبح هدفا فى حد ذاتها، ولا يهم المعنى، بل المهم الكلام الإنشائى المعسول. وهذا الكلام الفارغ من المضامين ذات القيمة هو السبب فى ذلك التلاشى الذى انتهى أمرها إليه فى نهاية الرواية، إن جاز أن نسمى ذلك العمل: رواية. 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 115 مشاهدة
نشرت فى 27 فبراير 2015 بواسطة dribrahimawad

عدد زيارات الموقع

33,986