بقلم د.علاء بسيوني
تعد الدولة المصرية أقدم دولة مركزية عرفها التاريخ، ونظراً لأهمية مصر التاريخية نجد أن ملامح الحياة الاقتصادية والاجتماعية لمصر في الحضارات القديمة حاضرة في القرآن الكريم، ونهدف من خلال هذا المبحث التعرف على أهم الملامح الاقتصادية والاجتماعية لمصر في هذه المرحلة وذلك على النحو التالي:
أولاً: تطور الاقتصاد المصري في عهد الهكسوس:
تميز الاقتصاد المصري في عهد الهكسوس بما يلي:
<!--الزراعة هي النشاط الرئيسي والاعتماد على نهر النيل الذي كان يتفرع إلى سبعة أفرع (وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) (الزخرف: الآية: 51)، وهو ما برز في قصة سيدنا يوسف (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) (يوسف: الآية: 46).(<!--)
<!--المركزية وظهور أول خطة اقتصادية في العالم والتي وضعها يوسف عليه السلام بأمر من الله تعالى لإنقاذ أهل مصر من المجاعة طوال فترة الجفاف الطويل (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) (يوسف: الآية: 47-49).
<!--وجود نوع من المهن مثل تعبير الرؤية (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) (يوسف: الآية: 43) وهي أنشطة تدل على نوع من الرفاهية الاقتصادية السائد في هذا المجتمع.
<!--تذبذب معدلات النمو الاقتصادي وفقاً لمستوى الفيضان ومنسوب مياه النيل الذي يحدد مساحة الأراضي الزراعية.
ثانياً: تطور الاقتصاد المصري في عهد الفراعنة:
تميز الاقتصاد المصري في عهد الفراعنة بالعديد من الخصائص من أهمها ما يلي:
<!--استمرار النشاط الزراعي كنشاط رئيسي.
<!--امتلاك الفرعون لجميع أرض مصر (وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) (الزخرف: الآية: 51).
<!--وجود عدد من الحرف والصناعات مثل:
<!--صناعة البناء: مثل المعابد والمقابر والأهرامات قال تعالى (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ) (الفجر: الآية: 10-12) بل إن فرعون تمادى في كبريائه وقدرتهم على البناء إلى حد قوله (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا ۚ وَكَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ ۚ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ) (غافر: الآية: 36-37).
<!--ازدهار بعض الحرف مثل: (النحت، وصناعة المشغولات الذهبية، وصناعة الورق، والكتان، والحرير، والتلوين، والسفن، والمنتجات الحربية) والتي توجد لها أثار في جميع المعابد والمقابر.
<!--ازدهار أنشطة مختلفة من العلوم مثل (الهندسة، والطب والتحنيط، والفلك) والتي توجد لها أثار في المعابد والمقابر، غير أنهم لم يستغلوا هذه العلوم في أنشطة يستفيد منها المجتمع كبناء السدود التي تقيهم الفيضان وتؤمن لهم المياه في فترات الجفاف والاتساع في المساحة الزراعية بقدر ما استخدموها في إنشاء المقابر والصروح العملاقة التي ليست لها جدوى كبيرة من الناحية الاقتصادية. ولعل السبب في ذلك عدم شعورهم بالحاجة إلى مثل هذه المشروعات نظراً لوفرة الخير والرخاء في معظم الفترة التي عاش فيها الفراعنة.
<!--الانقسام الطبقي الحاد: حيث كان المجتمع ينقسم إلى الفرعون الذي يمتلك مصر (وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) (الزخرف: الآية: 51)، وطبقة قوم الفرعون (حاشيته وجنده) وهؤلاء كانوا طبقة الحظوة والنفوذ، أما باقي المجتمع فكانوا فئة من المستضعفين الذين يحكم فيهم الفرعون كيف يشاء وفي ذلك قال تعالى (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (القصص: الآية: 4). كما كان هناك فئة من الأثرياء الذين وصلوا إلى مرتبة الغنى الفاحش مثل قارون الذي قال القرآن الكريم عنه (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) (القصص: الآية: 76).
هذا وقد تجلت مظاهر هذا الانقسام الطبقي الحاد في المغالاة في تشييد المعابد والقصور والقبور وتحنيط الموتى وإنشاء صروح ضخمة لتخليد الذكرى، وإهمال المشروعات العامة التي تفيد صالح المجتمع، فمن النظر في الأثار المصرية المتعلقة بهذه الفترة نجد أن معظمها متمثل في المعابد القبور التي كان يتم شحنها بكميات كبيرة من الموارد الاقتصادية من الذهب والتماثيل والأطعمة وكل ما كان يستخدمه المتوفي في حياته اليومية، بالإضافة إلى تكاليف التحنيط. بينما لم يخلد لنا التاريخ من هذه الفترة أي إنشاء متعلق بالمصلحة العامة بالرغم من وصول المعرفة العلمية للتشييد والبناء في هذه الفترة إلى مستوى لم يصل إليه العلم في العصر الحديث، كذلك لا يوجد أثر للبيوت التي كان يعيش فيها المصريون في هذه الفترة في الوقت ذاته الذي تخلدت فيه مقابرهم.
<!--تذبذب معدلات النمو الاقتصادي والحالة الاقتصادية وفقاً لمستوى الفيضان ومنسوب مياه النيل والآفات التي أرسلها الله تعالى عليهم: وفي ذلك قال تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ((الأعراف: الآية: 130) أي الفقر والجوع نتيجة لنقص الثمرات وانخفاض إنتاجية المحاصيل الزراعية، بالإضافة إلى ابتلائهم بالعديد من الآفات التي تصيبهم وتصيب محاصيلهم الزراعية نتيجة لتكبرهم وعدم خضوعهم لأوامر الله كما جاء في قوله تعالى )فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ) (الأعراف: الآية: 130) أي الطوفان الذي يفسد زراعتهم، والجراد الذي يأكل محاصيلهم، والقمل الذي ملء رؤوسهم رجال ونساء مما اضطرهم إلى حلق رؤوسهم والاستعاضة عن شعرهم بشعر مزيف لعجزهم بالرغم من علمهم الواسع عن التخلص من القمل، والضفادع التي كانت تزعجهم وتمنعهم من النوم، والدم (احتمال فطر معين ينتج مادة لزجة تشبه الدم) الذي كان يصيب كل شيء يلمسونه فيقززهم ويمنعهم عن الطعام والشراب. ولعل ذلك استجابة لدعوة نبي الله موسى عليه السلام في قوله تعالى (وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ ۖ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) (يونس: الآية: 88) ومن ثم فإن الاقتصاد المصري في عهد الفراعنة قد تعرض لكثير من الأزمات الاقتصادية أو التي كانت لها آثار اقتصادية.
كما أن العقاب قد شمل بعض الأشخاص الذي كانت لهم قوة اقتصادية كبيرة أيضاً مثل ما جاء في قصة قارون الذي كان يمتلك كنوز كثيرة جداً امتنع عن أداء حق الله فيها فجاء العقاب من الله في قوله تعالى (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ) (القصص: الآية: 81) ولا شك أن فقدان هذا القدر الهائل من الكنوز كانت له آثار اقتصادية على الاقتصاد المصري ككل في ذلك الوقت.
6. الحالة الاقتصادية والغذاء: فقد تأثرت بالانقسام الطبقي وهو ما ظهرت ملامحه ويبدوا واضحاً في قصة موسى عليه السلام مع بني إسرائيل بعد الخروج من مصر في فترة التيه، فبنوا إسرائيل بعد الخروج من مصر هرباً من فرعون ورحلتهم في الصحراء ظلل الله تعالى عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى وهى من اللحم والرزق الطيب الذي يحصلون عليه بسهولة ويسر، قال تعالى (وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ ۖ كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ۖوَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) وبالرغم من ذلك كان طلب بنوا إسرائيل من موسى عليه السلام أن يطلب من الله تعالى أن يرزقهم طعام غير ذلك هو أدنى منه منزلة وهو ما ورد في قوله تعالى (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ۖ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ۚ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ ۗ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ) (البقرة: الآية: 61) وهو ما استنكره موسى عليه السلام بقوله (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) ولا شك أن السبب في طلبهم هذا هو أنهم اعتادوا على مثل هذه الأطعمة طوال مدة مكوسهم في مصر، فهي من المكونات الرئيسية للكشري الوجبة الرئيسية عند المصريين القدماء، فقد غلبهم طابعهم أو ما اعتادوا عليه، أما موسى عليه السلام فقد تربى في قصر فرعون بين الخيرات والنعم لذلك استنكر عليهم طلبهم هذا.
<!--[endif]-->
<!--)) تجدر الإشارة إلى أن سيدنا يوسف عليه السلام جاء إلى مصر في عهد الهكسوس واستقر فيها هو وأخوته، بينما بعث النبي موسى عليه السلام في عهد الفراعنة والدليل على ذلك أن الله تعالي عندما تحدث عن قصة سيدنا يوسف وحاكم مصر حينها قال (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ) (يوسف: الآية: 54) ونظام الملك كان معمولاً به عند الهكسوس، أما عندما تحدث عن قصة سيدنا موسى ذكر حاكم مصر دائماً على أنه الفرعون (اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ) (طه: الآية: 24)، والظاهر أن يوسف عليه السلام وأفراد أسرته استقروا في مصر في عهد الهكسوس وكانت لهم مكانه عالية بها بعد أن تمكن من انقاذ أهلها من الهلاك والقحط العظيم، وبعد هزيمة الهكسوس على يد الفراعنة استزل الفرعون ابني إسرائيل عليه السلام (يعقوب) واستعبدوهم لما كان لهم من مكانة عالية في عهد الهكسوس، فبعث الله تعالى موسى عليه السلام لإخراج بني إسرائيل من مصر وانقاذهم من ظلم الفرعون) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فقولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ ((الشعراء: الآية: 17).