د.علاء البسيوني

يهتم الموقع بنشر الثقافة العلمية خاصة في مجال العلوم الاقتصادية والاجتماعية، والاقتصاد الإسلامي.

    بقلم د.علاء بسيوني

إن من الخصائص الجوهرية لتنظيم الإسلام للملكية تتمثل في إقامة الإسلام لهذا التنظيم على دعامتين رئيسيتين هما: الملكية الخاصة والملكية العامة. ووكل أمر إدارة كل نوع منهما إلى جهة معينة فوكل إدارة الكلية الخاصة إلى الأفراد، كي يمارس الفرد صلاحياته ويقوم بواجب عبادة الله تعالى بعمارة ما بيده من مال الله. ووكل إدارة الملكية العامة بأشكالها المتعددة إلى الدولة، تتصرف فيها بالطريقة التي تحقق مقصود الله تعالى من خلقها وهو عمارة الأرض لإشباع الحاجات وتحقيق التنمية الاقتصادية.

فهل يؤدى هذا التنظيم إلى تحقيق هذه الأهداف فعلا؟ هل إقامة الملكية على دعامتين متساندتين هما الملكية الخاصة والملكية العامة أكثر قدرة على تحقيق العمارة من اتخاذ الملكية الشكل الواحد سواء أكان الشكل الخاص أم الشكل العام؟

تنظيم الإسلام للملكية وتحقيق التنمية الاقتصادية:

    يعترف التنظيم الإسلامي للملكية بفطرة الإنسان فيقر الملكية الخاصة، كما يعترف بعجز الأفراد عن إدارة مرافق معينة أو عدم تحقق الصالح العام من وراء إدارتهم لها ومن ثم يقيم الملكية العامة، كما يفصل بين الملكية العامة وملكية الدولة ويحدد صلاحيات الدولة في إدارة الملكية العامة، ويفسح المجال أمام الملكية التكافلية لتقوم بدور رئيسي في تحقيق التكافل الاجتماعي بين أعضاء المجتمع، وكل هذا في إطار مفهوم الاستخلاف وعمارة الأرض. فلماذا اختار الإسلام هذا التنظيم للملكية؟

جانب من الفكر الإسلامي يرى أن السبب الجوهري لهذا الاختيار القاضي بربط ملكية بعض الأموال على بعض الأفراد والبعض الآخر على الجماعة أو الدولة هو اعتبار هذا التنظيم وسيلة إنمائية وحافزاً من حوافز التنمية.

فتنظيم الملكية في الإسلام بما يتضمنه من ملكية خاصة وعامة وما يتبع ذلك من حق للفرد والجماعة في الملكية الخاصة، وواجبات كل من الأفراد والدولة في إدارة الأموال التي بأيديهم وطرق اكتساب الملكية الخاصة كلها إجراءات تدور في حدود اعتبار التنظيم الإسلامي للملكية وسيلة لتحقيق التنمية الاقتصادية.

ومن ثم فإنه كلما كان القطاع أكثر قدرة على الإسهام في تحقيق التنمية كلما تمكن من أن يضم بين دفتيه قدراً أكبر من موارد المجتمع، وكلما قلت كفاءته كلما كان ذلك مدعاة لأن يتقلص دوره نسبياً، محافظة على القوى الدافعة لتحقيق التنمية الاقتصادية مع ملاحظة جوهرية هنا وهى أن الإسلام لا يبيح إلغاء واحد من أشكال الملكية، فوجود جميع أنواع الملكية في الاقتصاد الإسلامي جنباً إلى جنب هدفاً مقصوداً في حد ذاته، حيث يحقق وجود كل شكل مصالح لا يمكن أن تتحقق بدونه حتى إن المجتمع الذي ينكر أحد أنواع الملكية في الاقتصاد الإسلامي لا يعد مجتمعاً ملتزماً إسلامياً، وليس الإسلام في ذلك بدعاً من النظم فنمط الملكية كما بينا من قبل يحدد سمات النظام ويجعله اشتراكياً أو رأسمالياً أو إسلامياً، فالمجتمع الذي ينكر الملكية العامة لا يكون اشتراكياً، والذي ينكر الملكية الفردية لا يمكن أن يكون رأسمالياً، فكذلك من ينكر أحد أنواع الملكية في الاقتصاد الإسلامي لا يكون ملتزماً إسلامياً.

     والهدف الأن أن نبين كيف أن تنظيم الملكية في الاقتصاد الإسلامي يمثل أداة لتحقيق التنمية الاقتصادية؟ وذلك من خلال النقاط التالية:

<!--نشر نطاق الملكية الخاصة وتحقيق التنمية الاقتصادية.

<!--ملكية الاستخلاف ودورها في تحقيق التنمية الاقتصادية.

أولاً: نشر نطاق الملكية الخاصة وتحقيق التنمية الاقتصادية:

في البداية لا يعرف الإسلام سبباً لنشأة الملكية الخاصة ابتداء إلا العمل الذي يبذله الفرد فيدخل به الحياة والنماء على مرفق أو مورد تنقصه هذه الصفة، ويتحقق بذلك إضافة إلى رأس مال المجتمع والثروة المتاحة لأفراده، ومن ثم فإن نشأة أي ملكية خاصة في ظل الإسلام مرتبط لا محالة بزيادة ثروة المجتمع وبالتالي دخله القومي فهناك تلازم لا ينفك بين نشأة الملكية الخاصة ابتداء وتحقق عمارة على ظهر الأرض.

ولقد كانت طريقة اكتساب الملكية الخاصة هذه الوسيلة التي سلكتها الدولة الإسلامية في صدرها الأول لتحقيق التنمية الاقتصادية استغلالاً للتلازم بين نشأة الملكية الخاصة وتحقيق العمارة، ولقد عرفت هذه الوسيلة باسم "إحياء الموات" وما دلالة اللفظ على تحقيق التنمية الاقتصادية ببعيدة.

ولقد سلك النبي (صلى الله عليه وسلم) عدة طرق تصل كلها إلى نهاية واحدة تتمثل في جعل الملكية الخاصة للأرض مكافأة لكل من يدخلها حلبة الإنتاج. ولقد اتخذ النبي ﷺ العديد من الخطوات العملية لنشر نطاق الملكية الخاصة لتحقيق التنمية الاقتصادية وتحقيق التوازن الاقتصادي بين المهاجرين والانصار بعد الهجرة، من أهمها ما يلي:

<!--إصدار أمر تنفيذي بحق كل إنسان في ملكية الأرض الميتة التي يتمكن من إحيائها: فقال: (من أحيا أرضا ميتة فهي له)(<!--) وفي رواية أخرى (فهو أحق بها). والإحياء هو نقل الأرض من حالة تكون فيها غير منتجة لأي سبب من الأسباب إلى حالة تكون فيها منتجة، وبهذا جعل النبي ﷺ العمل المنقذ للأرض من عدم الاستغلال سبباً في تملكها ملكية خاصة.

<!--أضاف حافزاً معنوياً إلى جانب الحافز الاقتصادي والتملك بإحياء الموات: حيث لم يكتف النبي ﷺ بالملكية الخاصة في الأرض حافزاً على التنمية وإحياء الموات، وإنما أضاف إلى ذلك حافزاً معنوياً ذا أثر كبير في نفوس المسلمين بقوله: (مَن أحيا أرضًا ميتةً فله بها أجرٌ وما أكَلتِ العافيةُ فله بها أجرٌ)(<!--) فبعد أن أقر أن من أحيا أرضاً ميتة فهي له وهو أحق بها أضاف حافز معنوي لمن يقوم بعملية الأحياء أن له بذلك أجر عند الله سبحانه وتعالى لقاء ما عبد الله تعالى ببذل المجهود في تحقيق عمارة الأرض. وهذا شيء منطقي في ظل النظرية الإسلامية التي تقوم على أن البشر خلقوا لعبادة الله تعالى بعمارة الأرض، ومن يعبد الله تعالى له أجره الأخروي إلى جانب الأجر الدنيوي المتمثل في ملكية الأرض التي تم إحياؤها، وملكية ما ينتج عنها من ثمرات.

 يستنتج من هذا الحديث أيضاً أن الإحياء هدف في ذاته قبل أن يكون وسيلة للملكية، وأن الإسلام يستغل فطرة الإنسان التي فطر عليها من حب التملك وحب الحصول على ناتج عمله في تحقيق الهدف المقصود، بمعنى أن الإسلام لا يهتم بنشر الملكية الخاصة لذاتها وإنما لأنها الوسيلة التي تغرى الأفراد على بذل الجهد لتحقيق التنمية. ووجود الوعد بالأجر الأخروي على إحياء الأرض يجعل من المتصور إسلامياً أن يوجد من يمارس عملية الإحياء عبادة وطلباً للأجر الأخروي بجانب الأجر الدنيوي.

<!--مارس اقطاع الموات لبعض من رأى فيهم القدرة على عمارة الأرض: لم يكتفي النبي ﷺ بالدعوة النظرية إلى إحياء الموات، وحفز الهمم للقيام بها، وإنما سلك مسلكا عملياً أخر عندما مارس إقطاع الأرض لبعض من رأى فيهم القدرة على عمارة الأرض، والجديد في هذا الطريق أنه يضع الفرد الذي لديه القدرة على عملية الإحياء في مواجهة عملية الإحياء مباشرة، أي هو تكليف بالإحياء وليس مجرد دعوة إليه وسيحاسب الفرد على هذا التكليف بعد ثلاث سنوات فقد روى علقمة بن وائل عن أبيه (أَنّ النَّبِيَّ أَقْطَعَهُ أَرْضًا بِحَضْرَمَوْتَ)(<!--) وبعث معه معاوية ليقطعها إياه، وما ورد عن بلال بن الحارث أن النبي ﷺ أقطعه العقيق أجمع، وما روى عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ : (أَقْطَعَ فُرَاتَ بْنَ حَيَّانَ الْعِجْلِيَّ أَرْضًا بِالْيَمَامَةِ)(<!--).

فلماذا كان الإقطاع مع أن أي مسلم لديه الإذن بإحياء الأرض الموات وتملكها؟ الإجابة أن ذلك كان رغبة من النبي ﷺ في أن يضع الأفراد الذين يرى فيهم القدرة على تحقيق العمارة أمام مسئولية محددة يحاسبون عليها بعد فترة. والإقطاع هنا جهد ايجابي من الدولة تذهب به لتحقيق ما أوجب الله تعالى عليها من عمارة الأرض إلى مدى أبعد مما هو في الإحياء، فهي تسعى لتحقيق هذا الواجب باختيار ذوي المواهب في التعمير، فلا تنتظر أن يقوموا بأنفسهم بل تختارهم كأنها تكرمهم وتعرف لهم قيمة مواهبهم مستغلة ما لديهم من طموح فهو ضرب من التكليف سلكت إليه الدولة مسلك التشريف.

<!--تشريع حق الدولة في رفع يد المتحجر بعد ثلاث سنوات عن المورد الإنتاجي الذي لا يقوم بعمارته خلال هذه المدة، حتى يتيح الفرصة أمام يد أقدر على العمل والعمارة، فالإسلام لا يضع حدا أعلى للملكية الفردية من الناحية القانونية ولكنه يضع لها تحديد في مقدارها من زاوية أخرى، وهو قدرة الشخص على العمارة والاستغلال، فلا يبيح الفكر الإسلامي للفرد أن يتملك ما تعجز قدراته عن عمارته وإبقائه في حلبة الإنتاج على الدوام. ذلك أن تجاوز الملكية لهذا الحد فيه عدوان على السبب الذي شرعت من أجله ألا وهو تحقيق العمارة، فتملك الفرد ما لا يقدر على عمارته بوسيلة من الوسائل وبأكفأ الأساليب فيه افتيات على جهود التنمية وتعطيل لموارد لا ينبغي أن تتعطل وعلى الدولة أن تراقب ذلك. ودليل ذلك ما فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع بلال بن الحارث، فعَنِ الْحَارِثِ بْنِ بِلالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ " أَقْطَعَهُ الْعَقِيقَ أَجْمَعَ "، قَالَ: فَلَمَّا كَانَ زَمَانُ عُمَرَ, قَالَ لِبِلالٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يُقْطِعْكَ لِتَحْجُرَهُ عَنِ النَّاسِ، إِنَّمَا أَقْطَعَكَ لِتَعْمَلَ، فَخُذْ مِنْهَا مَا قَدَرْتَ عَلَى عِمَارَتِهِ وَرُدَّ الْبَاقِيَ.(<!--)

هذا هو موقف الإسلام ممن يستحوذ على موارد يعجز عن عمارتها، لأن الهدف من وضع الموارد تحت تصرف الفرد هو أن يعمل (أقطعك لتعمل) فإن لم يكن قادراً على جعل هذه الموارد داخل حلبة الإنتاج على الدوام، فإن الحل هو (خذ ما قدرت على عمارته)، ولا يحل لأحد أن يستحوذ على ما يعجز عن عمارته، إذ لو كان كذلك لما منعه عمر، وذلك لأنه يعد تضييعاً للمال والله ينهانا عنه ويكرهه لنا. وفضلاً عن ذلك فإن هذا الوضع يمثل "حمى" حرمه الإسلام عندما قال النبي ﷺ (حَمى النَّقيعَ، وقالَ: لا حِمى إلَّا للَّهِ ورسولِه)(<!--) أي أن الحمى لا يكون إلا لمصلحة عامة، ولا يكون لمصلحة خاصة.

وهكذا نرى هذا التوجيه يقوم دليلاً على أن تنظيم الملكية في الإسلام يهدف إلى تحقيق التنمية الاقتصادية، حيث لا يقبل الإسلام تحديداً لها بقدر تنتهي عنده إلا القدرة على العمارة وتحقيق التنمية.

<!--تكليف الدولة بأن تجعل تحت يد كل راغب ما يستخدم فيه قدرته على التعمير؛ وذلك بأن تنشر نطاق الملكية الخاصة بشتى السبل حتى تقيم بذلك الوضع الذي يطلبه الإسلام وتبتعد عن الوضع الذي يحذر منه. والوضع الذي يطلبه هو أن يكون المال متداولاً بين الناس جميعاً، والوضع الذي يحذر منه هو أن يكون المال دولة بين الأغنياء فقط، فهمهما كان سبب الاستحواذ عليه مشروعاً فإنه بوضعه الذي صار إليه يصبح غير مشروع، يقول الله تعالى معللاً قسمة الفيء على وجه خاص يشمل معظم فئات المجتمع (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ) (الحشر: الآية: 7). أي حتى لا يكون المال وقفاً على فريق من الناس دون غيره، فاحتجاز المال لدى البعض وحرمان الأكثرية منه أمر محرم في الإسلام ونقيضه المتمثل في نشر نطاق الملكية الخاصة، أمر مقرر ومطلوب في الإسلام. ولكن ما السبيل إلى تنفيذ هذا التوجيه؟ هل تسلك الدولة إلى ذلك طريق نزع ملكيات الأغنياء وتوزيعها على الفقراء؟

إن الإسلام لو نصح بهذا ما كان أسلوبا إنمائيا، دافعا لجهود التنمية بالقدر المطلوب، ومن ثم " فلم يحدث في تاريخ الإسلام أن أخذ مال غنى وأعطى لفقير بغير رضاه مهما اشتدت الحاجة وبلغت الفاقة، والنبي ﷺ كان يقول (لألْقَيَنَّ اللهَ من قبْلِ أنْ أُعطِيَ أحدًا من مالِ أحَدٍ شيئًا بِغيرِ طِيبِ نفْسٍ، إنَّما البيْعُ عن تَراضٍ)(<!--).

فالإسلام لا يتبنى أسلوباً يقوم على توزيع ما بيد الأغنياء على الفقراء وإنما يتبنى أسلوباً يقوم على خلق رؤوس أموال إنتاجية، تملك للفقراء وتوقفهم في صف الأغنياء، حتى يستوي الجميع في الغنى، وبهذا السلوك يكون نشر نطاق الملكية الخاصة وسيلة لتحقيق التنمية الاقتصادية، لا وسيلة لتبديد طاقات الأمة، كما يفعل من يوزع أموال الأغنياء على الفقراء. ولكن من أين لنا بهذا الفهم؟ وما الدليل على ذلك؟

الإجابة هي أن هذا الفهم مستسقى من سلوك عهد النبي صلى الله عليه وسلم. فلقد واجه ﷺ وضعاً اقتصادياً صعباً بعد الهجرة يتمثل في تركز الثروة في يد فئة من المسلمين هم الأنصار، دون بقية المسلمين وهم المهاجرين الذين اضطروا لترك أموالهم وممتلكاتهم لكفار قريش في مكة أثناء الهجرة هرباً بدينهم، فكيف عالج النبي هذا الوضع الاقتصادي؟ هل عالجه بتوزيع ما بيد الأنصار على المهاجرين؟ وما كانوا ليمانعوا لو أمر النبي ﷺ بذلك، بل هم من طلبوا ذلك منه، أم ماذا؟

الإجابة هي أن النبي ﷺ لم يقم بتوزيع ما بأيدي الأنصار على المسلمين (المهاجرين) جميعاً، وما كان الأنصار ليمانعوا، بل لقد سألوه ذلك فرفض عليه الصلاة والسلام، فقد روى عن أبى هريرة قال: (قَالَتْ الْأَنْصَارُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْسِمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا النَّخِيلَ، قَالَ: لَا، فَقَالُوا: تَكْفُونَا الْمَئُونَةَ وَنَشْرَكْكُمْ فِي الثَّمَرَةِ، قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا)(<!--) ولو كان الإسلام يقر نزع ملكية الأغنياء التي هي في حدود قدرتهم على العمارة علاجاً للتفاوت، لما اقر النبي ﷺ هذا التفاوت المؤقت في الوقت الذي لم يكن يجد فيه أدنى معارضة لو فعل، وكان ذلك سيكون بطيب نفس من الأنصار، أي أنه لا توجد عاقبة تخشى تتمثل في سخط الأغنياء لكن النبي ﷺ لم يفعل ذلك لأنه مشرع، فلا يجب أن يكون ذلك طريقاً يتبع من بعده وإنما لجأ ﷺ إلى الطريق التي يريد للمسلمين أن يتبعوه ألا وهو إيجاد مجالات جديدة وخلق رؤوس أموال إنتاجية جديدة، وتوجيه طاقات الناس نحو العمل المنتج وتشجيعهم على الإنتاج، بدلاً من التطلع إلى ما في أيدي الأغنياء حقداً وحسداً وتبديد طاقاتهم في هذا السبيل، وتلك هي سيرته العملية عليه الصلاة والسلام تتمثل في:

<!--دعا الناس إلى إحياء الموات: وهي دعوة إلى تعمير جديد وإحياء أرض ميتة تنمو بها الثروة العامة، ويحمل تشجيع الدولة للأفراد على الملكية الخاصة، وإثارة حوافزها في النفس فليس هو دعوة إلى تثمير ما بأيدي الناس من أموال بل دعوة إلى استحداث ملكيات جديدة باستحداث عمارة جديدة، ولقد كان لدعوته كبير الأثر، يدل على ذلك ما رواه أَسْمَرَ بْنِ مُضَرِّسٍ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ فَبَايَعْتُهُ، فَقَالَ: مَنْ سَبَقَ إِلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ لَهُ، فَخَرَجَ النَّاسُ يَتَعَادَوْنَ يَتَخَاطُّونَ)(<!--)

<!--مارس إقطاع الأرض لبعض من رأى فيهم القدرة على العمارة: وقد بينا أن ذلك تكليف بالإحياء، وليس مجرد دعوة إليه، وأنه تكليف سلك إليه ﷺ مسلك التشريف، وهو ينتهي بخلق موارد جديدة، توقف القائم بذلك في صفوف الأغنياء.

<!--رفع يد المتحجر بعد ثلاث سنوات عن المورد الإنتاجي الذي لا يقوم بعمارته خلال هذه المدة، حتى يتيح الفرصة أمام يد أقدر على العمل والعمارة.

<!--دعوة صاحب الملكية إلى أن يحافظ عليها فلا يبددها، وينضم إلى ركب الفقراء: فإن باع عقاراً أو رأس مال منتج، فليكن هدفه من ذلك الحصول على أفضل منه، فإن لم يفعل فقد نزع البركة من هذا المال، لأن البركة تتمثل فيما تدره الأموال الإنتاجية من عائد، فإن حولها إلى مال استهلاكي، ضاع العائد الدوري، فكان ذلك هو عدم البركة، وفي ذلك يقول عليه الصلاة والسلام (مَنْ بَاعَ دَارًا أَوْ عَقَارًا فَلَمْ يَجْعَلْ ثَمَنَهُ فِي مِثْلِهِ كَانَ قَمِنًا أَنْ لَا يُبَارَكَ فِيهِ)(<!--)، وفي رواية : (لَا يُبَارَكُ فِي ثَمَنِ أَرْضٍ وَلَا دَارٍ لَا يُجْعَلُ فِي أَرْضٍ وَلَا دَارٍ)(<!--) وعلى هذا الهدى النبوي سار الخلفاء الراشدون، بدعوة الناس إلى العمل ويرشدونهم إلى استحداث ملكيات جديدة بإقطاعهم الأرض ومساعدتهم على عمارتها والعمل فيها. يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرشداً المسلمين الذين ينالون أعطيات دورية من الدولة : (فلو أنه إذا خرج عطاء أحد هؤلاء ابتاع منه غنما فجعله بسوادهم، فإذا خرج عطاءه ثانية ابتاع الرأس والرأسين فجعله فيها، فإن بقى أحد من ولده كان لهم شيء قد اعتقدوه)(<!--)، فهذا هو الادخار الذي يتحول إلى استثمار فيكون رأس مال، يضيف إلى الدخل القومي، وينشر نطاق الملكية الخاصة، ويحقق التنمية الاقتصادية.

كما أصدر عمر بن عبد العزيز أمراً تنفيذياً يقول فيه، انظر من قبلك من أهل الذمة قد ضعف عن أرضه، فأسلفه ما يقوى به على عمل أرضه. وكان سيدنا عمر بن الخطاب يستغل أرض الصوافي لحساب بيت المال مباشرة، فلما كان سيدنا عثمان أقطعها إقطاع إجارة، فزادت عائداتها من 9 مليون درهم إلى 50 مليون درهم، وخلق بذلك آلاف الفرص التي أغنت الآلاف من الناس.

تلك هي سبيل الإسلام في إقامة التوازن بين فئات المجتمع، سبيل تعمل على أن يكون لكل فرد في المجتمع ملكية ولا تسلك لذلك طريقاً تجرد فيه البعض لتعطى البعض الآخر، وإنما تحافظ على ملكية من يملك وتساعد من لا يملك على أن يمتلك بخلق الفرص الجديدة أمامه، وإغرائه على أن يبذل جهده في الإضافة إلى رأس مال المجتمع، فيا معشر الفقراء اعملوا فقد وضح الطريق، ولا تكونوا عالة على المسلمين.

ثانياً: ملكية الاستخلاف ودورها في تحقيق التنمية الاقتصادية:

تبين فيما سبق أن إقرار الملكية الخاصة في إطار التنظيم الإسلامي للملكية، واستخدمها كحافز لتحقيق التنمية الاقتصادية استغلالاً لفطرة الإنسان التي فطره الله عليها، محباً للخير (الملك) ساعياً للحصول عليه والاختصاص به. وكذلك فإن التنظيم الإسلامي للملكية يقر كلا من الملكية العامة وملكية الدولة ليستخدمهما في تحقيق التنمية الاقتصادية، فالإنسان وقد فطر على الإحساس بفرديته قد فطر أيضا على الإحساس بالانتماء إلى بني جنسه وتعاونه معهم، بالإضافة إلى وجود حاجات عامة تنشأ عن هذا الإحساس الفطري لدى الإنسان مما اقتضى أن يحتوي التنظيم الإسلامي للملكية على الملكية العامة.

ومن ناحية أخرى فإن تنفيذ سياسة استخدام الملكية الخاصة في تحقيق التنمية الاقتصادية، عن طريق استغلال حافز الطموح وحب التملك لا يتحقق إلا في وجود ملكية الاستخلاف وباقي أنواع الملكية في الاقتصاد الإسلامي، ذلك أن المزايا التي بينا حصول المجتمع عليها من الملكية الخاصة لا يمكن تحققها بدون وجود ملكية الاستخلاف والملكية العامة وملكية الدولة، حيث أن اتخاذ الملكية الخاصة شكلاً وحيداً للملكية يقضى على المزايا التي نحصل عليها منها في ظل وجود باقي الأنواع من الملكية. فوجود هذه الأنواع إلى جانب الملكية الخاصة يدفع صاحبها إلى الاهتمام بما يملك ويراقب قيامه على عمارتها، حتى إذا أهمل من أحيا أرضاً مواتاً فخربت نزعت ملكيته عنها وعادت إلى أصلها ملكية الاستخلاف صالحة لأن يقوم عليها ملكية خاصة لشخص أخر أو ملكية عامة أو ملكية الدولة، فوجود مبدأ الاستخلاف وصلاحية باقي الأنواع من الملكية لأن تحل محل الملكية الخاصة إذا انقضى حق صاحبها فيها هو الذي يدفع المهمل إلى العناية بملكيته الخاصة إذا كان يأتيه من بعضها ما يكفيه وزيادة؟

غير أن دور الملكية العامة وملكية الدولة لا يقتصر على ذلك بل إن لها دوراً ذاتياً أكثر ايجابية وأهمية يستمد من الموارد التي جعلها الإسلام ميدانا للملكية المشتركة فهي تضم: جزءً كبيراً من الأرض الزراعية الحية، وجميع الأراضي التي تضمها الدولة وليست بها حياة، وكل المعادن والثروات الكامنة في باطن الأرض والتي يقوم عليها معظم الأنشطة الإنتاجية في عالم اليوم.

هذه الضخامة التي عليها الموارد التي تنضوي تحت لواء الملكية العامة وملكية الدولة، توضح دورها الفعال في مجال تحقيق التنمية الاقتصادية، ولقد وَكَلَ الإسلام إدارة هذه الموارد وملكيتها إلى الجماعة ومن يمثلها هادفاً إلى تحقيق التنمية الاقتصادية، ذلك أن ما تتصف به هذه الموارد من النفع العام وإمكانية سيطرتها على كل أنواع الإنتاج في المجتمع يجعل السيطرة الفردية عليها غير محققة لصالح المجتمع. ولهذا كان وجودها في إطار الملكية العامة أو ملكية الدولة هو الكفيل بجعل طاقاتها موجهة لصالح المجتمع وتحقيق التنمية الاقتصادية. والفكر الإسلامي لا يكتفي بهذا الوضع الطبيعي الذي يفترض فيه أن يجعل هذه الملكية موجهة لتحقيق التنمية الاقتصادية وإنما يكلف ولى الأمر بإدارة هذه الموارد بما يحقق أهداف العمارة والتنمية، كتكليف الفرد بإدارة ما بيده من موارد خاصة سواء بسواء.

فالدولة في الإسلام مكلفة بأن تبعث الحياة والنماء في الموارد التي تسيطر عليها سواء بإحيائها بنفسها أو بتمكين الأفراد من إحيائها ومراقبة تنفيذ ذلك يقول أبو يوسف؛ (لا أرى أن يترك أرضا لا ملك لأحد فيها ولا عمارة حتى يقطعها الإمام فإن ذلك أعمر للبلاد وأكثر للخراج)(<!--)، فمهمة الدولة في تلك الموارد أن تجد السبيل المحقق لعمارتها وإن هي قصرت في ذلك فقد عصت أمر ربها.

وتجدر الإشارة إلى أن وجود الملكية العامة وملكية الدولة وفق التنظيم الإسلامي للملكية لا يستلزم تدخل الدولة المباشر في الإنتاج أي أنه لا تَلاَزُمْ بين الملكية المشتركة وبين التدخل الحكومي البيروقراطي المقيد لحرية القطاع الخاص، فالحقيقة أن صدر الإسلام قد عرف الملكية المشتركة لكنه آثر أن يعهد بإدارتها إلى القطاع الخاص كلما أمكن ذلك وكان متاحاً. وعليه فإن البيروقراطية المتلازمة مع الملكية العامة الاشتراكية، لا وجود لها في الإسلام إذ لا يلزم من الملكية المشتركة الإسلامية التدخل الحكومي في الإنتاج.


<!--[endif]-->

<!--))  الخراج لأبي يوسف، د ن، د ت، ص61.


<!--[endif]-->

<!--))  محمد ناصر الدين الألباني، إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، المكتب الإسلامي، بيروت - لبنان، ط 1، 1399هـ، رقم الحديث: 1550.

<!--))  محمد بن حبان البستي، صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، مرجع سابق، برقم: 5203.

<!--))  محمد ناصر الدين الألباني، صحيح سنن الترمذي، مرجع سابق، رقم الحديث: 1381.

<!--)) أبي عبيد القاسم بن سلام، كتاب الأموال، تحقيق: خليل محمد هراس، دار الفكر، بيروت – لبنان، د ت، برقم: 582.

<!--))  أحمد بن الحسين البيهقي، السنن الكبرى، مرجع سابق، ج 4، ص152؛ الأموال للقاسم بن سلام، مرجع سابق، برقم: 607.

<!--))  عبدالحق بن عبدالرحمن الإشبيلي، الأحكام الشرعية الصغرى، تحقيق: أم محمد بنت أحمد الهليس، مكتبة ابن تيمية - القاهرة، ط 1، 1413هـ، ص699.

<!--))  محمد ناصر الدين الألباني، صحيح الجامع الصغير وزيادته، تحقيق: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت - لبنان، ط 3، 1408هـ، برقم: 5029.

<!--))  محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، مرجع سابق، رقم الحديث: 2325.

<!--))  سليمان بن الأشعث أبو داود السجستاني، سنن أبي داود، مرجع سابق، برقم: 3071.

<!--))  محمد ناصر الدين الألباني، صحيح سنن ابن ماجه، مكتب التربية العربي لدول الخليج، ط 1، 1407هـ، رقم الحديث: 2035.

<!--))  محمد ناصر الدين الألباني، سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها، مرجع سابق، ج 5، ص429.

<!--))  ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، د ت، ج ٤٤، ص 354.

dralaabasuony

dralaabasuony
يهدف هذا الموقع إلى تنشيط الثقافة العلمية وفتح المجال المناقشات العلمية البناءة من أجل إثراء المعرفة والعلمية وخدمة المجتمع، وذلك من خلال مناقشة العديد من الموضوعات الاقتصادية والاجتماعية »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

21,798