د.علاء البسيوني

يهتم الموقع بنشر الثقافة العلمية خاصة في مجال العلوم الاقتصادية والاجتماعية، والاقتصاد الإسلامي.

      بقلم د.علاء بسيوني       

يهدف هذا الفصل إلى تعريف الدارس بطبيعة الحكم الفقهي في الاقتصاد الإسلامي، وكيف أن الحكم الفقهي ينبثق من القواعد الفقهية العامة ويهدف إلى تحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية، بالإضافة إلى معرفة طبيعة التشريع في فقه الاقتصاد الإسلامي، ومنطقة الحل والحرمة وتأثيرات ذلك على الاقتصاد، وكيف أن طبيعة التشريع في فقه المعاملات تجعل غالبية الأحكام في الاقتصاد الإسلامي تقع في منطقة الإباحة وأنها قابلة للاجتهاد والتغيير عبر الزمان والمكان وظروف كل عصر من العصور، بالإضافة إلى معرفة طبيعة الحكم الفقهي في الاقتصاد الإسلامي وطبيعة هدفه وتفاعله في تحقيق العدل وتأمين التقدم الاقتصادي، ونحاول من خلال هذا الفصل استعرض بعض تطبيقات الأمور الفنية الاقتصادية في الحضارة الإسلامية.

أولاً: طبيعة التشريع في فقه الاقتصادي الإسلامي:

يعمل فقه الاقتصاد الإسلامي على تطبيق القواعد والمبادئ الرامية إلى دفع وتوجيه الموارد الاقتصاد لتحقيق مقاصد الشريعة وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، ومقاصد الشريعة: هي الأهداف التي يرمي إليها الشارع الحكيم أو هي المقصود بالتكاليف الشرعية، فالله سبحانه وتعالى لم يخلق هذا الكون عبثا ولم يتركه سدى، بل خلق الإنسان لعبادته وحده لا شريك له، وسخر هذا الكون لأداء وتسهيل هذه المهمة العظيمة فقال تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" (الذاريات: الآية: 56) وقال : " وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" (الجاثية: الآية: 13)، وهذا من مظاهر تكريم الله تعالى للإنسان، كما قال تعالى: " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا " (الإسراء: الآية : 70).

ولقد شرع الله للإنسان هذه الشرائع التي تهدف إلى تحقيق مصلحته الدنيوية والأخروية وتسهل عليه القيام بأداء المهمة التي كلفه بها والتي من أجلها خلق. وفي ذلك يقول الإمام الشاطبي؛ إن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً، والمحافظة على الضروريات والحاجيات والتحسينيات.(<!--)

ويهدف الاقتصاد الإسلامي إلى تحقيق العدل وتأمين التقدم، وينقسم من يعارض الاقتصاد الإسلامي إلى فريقين:

الفريق الأول: وهو من يعارض الإسلام من غير المسلمين، وهؤلاء يصنفون على أنهم يعارضون الاقتصاد الإسلامي صراحة وضمناً.

الفريق الثاني: هو من يعارض الاقتصاد الإسلامي من المسلمين، وينقسم هذا الفريق إلى مجموعتين:

<!--المجموعة الأولى: ترى أن إسهام الإسلام في الاقتصاد إنما يتمثل في الجانب الأخلاقي فحسب.

<!--المجموعة الثانية: ترى أن الاقتصاد الإسلامي بأحكامه الثابتة كانت له صلاحيته التطبيقية في العصر الذي جاء فيه التشريع الإسلامي، وقد انقطعت هذه الصلاحية في العصر الحاضر.

وهذا الفريق بقسميه أعلن صراحة أن الاقتصاد الإسلامي لا يمكن أن يصبح نظاماً، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن تطبيقه يؤدي إلى تخلف الحياة الاقتصادية والعودة بها إلى ما كانت عليه عندما جاء الإسلام (في القرن السابع الميلادي).

ونحاول أن نثبت أن تطبيق الاقتصاد الإسلامي يحقق العدل والتقدم ويجيء ذلك من طبيعة التشريع فيه، وعندما يثبت أن الاقتصاد الإسلامي يحقق التقدم الاقتصادي ويدعمه، فإنه يثبت معه عدم صدق القول إنه يؤدي إلى العودة بالحياة الاقتصادية إلى الماضي وبالتالي إلى تخلفها، وقبل أن نتعرف على العناصر المحددة لطبيعة التشريع في الفقه الاقتصادي الإسلامي نتعرف على النقاط التالية:

أولاً: أسباب الاهتمام بطبيعة التشريع في الفقه الاقتصادي:

يوجد العديد من الأسباب التي تدفع الباحث في الاقتصاد الإسلامي نحو الاهتمام بطبيعة التشريع في الفقه الاقتصادي من أهمها ما يلي:(<!--)

<!--أن فهم الاقتصاد الإسلامي وصحة تطبيقه هما وليدا الفهم الصحيح لطبيعة التشريع في فقه هذا الاقتصاد، وقد اتفق الفقهاء على أن فقه المعاملات له طبيعة خاصة مقارنة بفقه العبادات، حيث أن العبادات الأصل فيها التوقف على ما جاء به الشرع والتقيد بالصورة التي أمر بها لأن الغرض منها هو التعبد والتقرب إلى الله، أما المعاملات فإن الأصل فيها تحقيق مصالح العباد في المعاش والحياة ورفع الحرج عنهم بعيداً عن الباطل والحرام.

<!--أن فقه المعاملات كان واحداً من الموضوعات التقليدية التي حاول أعداء الإسلام أن ينتقدوه من خلال هذا الفقه، حيث أشاع المستشرقين جمود هذا الفقه وعدم قدرته على مواجهة التطورات التي تستجد في المجتمعات الإسلامية، وأنه سبب التوتر الجوهري الناشئ بين أحكام الفقه وما استقر عليه العرف في موضوعات المعاملات المدنية، وهذا ما تجب مواجهته من خلال الفهم الصحيح لطبيعة فقه المعاملات.

<!--أن موضوع فقه المعاملات ألا وهو الاقتصاد الإسلامي قد تعرض أيضا للهجوم على الإسلام بالقول بأن الإسلام ليس به نظام اقتصادي، أو القول بأن الإسلام ليس له نظام اقتصادي كامل ومتناسق يقود به الحياة الاقتصادية، وإنما يكون النظام الاقتصادي ثم يكون للإسلام رأي فيه، وهذا ما يتطلب الفهم الجيد لطبيعة التشريع في فقه الاقتصاد الإسلامي للرد على هؤلاء.

وهذا ما يشير إلى ضرورة التعرف على طبيعة التشريع في الفقه الاقتصادي لفهم الاقتصاد الإسلامي والرد على هذه الشبهات.

ثانياً: العناصر المحددة لطبيعة التشريع في الفقه الاقتصادي:

هناك العديد من العناصر المحددة لطبيعة التشريع في الفقه الاقتصادي من أهمها ما يلي: (<!--)

<!--أن الأصل في المعاملات العفو (الإباحة):

يقول الإمام ابن تيمية: إن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان؛ عبادات يصلح بها دينهم، وعادات يحتاجون إليها في دنياهم.(<!--) وباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع، أما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه والأصل فيه عدم الحظر فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى، وذلك لأن الأمر والنهي هما شرع الله، والعبادة لابد أن يكون مأموراً بها، فما لم يثبت أنه مأمور به كيف يحكم عليه بأنه عبادة ؟!، ولهذا كان الإمام أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون: إن الأصل في العبادات التوقيف فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله تعالى وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ } (الشورى: الآية:21)

أما العادات فإن الأصل فيها العفو (الاباحة) فلا يحظر منها إلا ما حرمه الله وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ ۖ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} (يونس: الآية: 59)، فما لم يثبت من العادات أنه منهي عنه كيف يحكم عليه أنه محظور؟! لذلك فالناس يتبايعون ويستأجرون كيفما يشاءون ما لم يرد نصاً في الشريعة يحرم عليهم بعض الأعمال أو يحد من تصرفاتهم، فيبقون على الإطلاق الأصلي إلا إذا ورد نص يقيد حرياتهم. والعادات مصطلح يشمل كل ما يتعلق بأمور الحياة الدنيا من اقتصاد وسياسة وغيرها، وبذلك فإن الأصل في أغلب أمور الاقتصاد أنها مباحة.

يستنتج من ذلك أن الاقتصاد قسمان: القسم الأول يكون على الإباحة الأصلية، والقسم الثاني فيه أحكام، يفيد رأي الإمام ابن تيمية أن أغلب أمور الاقتصاد تصنف في القسم الأول، أي أنها مباحة. وبذلك فإن الإسلام قد ترك أكثر أمور الاقتصاد للإنسان يديرها بعقله وبتجربته ويطورها بنفسه، ويتفاعل معها وفيها بحيث يختار منها الأصلح والأنفع للحياة الاقتصادية، كما ترك أكثر أمور الاقتصاد لتتطور مع تطور كل مجالات الحياة بحيث لا تنقطع عنها، وتتفاعل معها للاستفادة من التراكم الحضاري للإنسان. وهذا يعني أن الاقتصاد الإسلامي لا يمنع التطور والتقدم الاقتصادي.

كما أن الاقتصاد الإسلامي ومع اعتباره للفقه ضمن مصادره يعمل على تأمين التقدم الاقتصادي، فهو يربط التقدم الاقتصاد بالتطور العام للإنسان، في ضوء ضوابط وتوجيهات كلية تعمل على تحقيق العدل وإقامة الأمور الاقتصادية على آداب حسنة تعمل على تحقيق التنمية والسلم الاقتصادي والاجتماعي، ويعني ربط الإسلام لهذه المنطقة في الاقتصاد بالتطور العام للإنسان أن الإسلام يؤمن التطور الصحيح فيها ويدعمه.

 

<!--طبيعة منطقة الإباحة وتفاعلها مع التقدم:

يقع الحكم الفقهي الاقتصادي في منطقتين هما؛ منطقة الإباحة، ومنطقة الأحكام، وهذا ما يجعل الاقتصاد الإسلامي يحقق العدل ويعمل على تحقيق التقدم والتطور الاقتصادي، وهذا ما يتضح بالتعرف على طبيعة كل من منطقة الإباحة ومنطقة الأحكام، حيث تنقسم أمور الاقتصاد إلى ما يلي:(<!--)

<!--أمور الاقتصاد التي تتعلق بعلاقة الإنسان بأخيه الانسان: وتشمل العقود والمعاملات والمواريث التي تحقق العدل أو تمنع الظلم، والعقود التي فيها غرر غير مقبول شرعاً، والعقود التي فيها جهالة تفضي إلى ظلم، والنشاط الاقتصادي الذي ينتج سلعة ضارة بالإنسان، هذه أمثلة لأمور الاقتصاد التي تتعلق بعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان، والتي يمكن القياس عليها والاسترشاد بها.

وتتميز هذه المنطقة بأنها جاءت فيها أحكام ثابتة، لأنها تعمل على تحقيق العدل وتأمين التقدم، ويعبر عنها الإمام الشاطبي بقوله: إنها لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الآخرة فوت النجاة والنعيم.(<!--)

<!--أمور الاقتصاد التي تتعلق بالجوانب الفنية للحياة الاقتصادية: وهي تشمل كل ما يتعلق بالفن الإنتاجي في الزراعة أو الصناعة أو غيرها، وكل ما يتعلق بوسائل الاتصالات في الاقتصاد من بيوع وغيرها، وكل ما يتعلق بأساليب الصياغة والتحليل في علم الاقتصاد، وكل ما يتعلق بالمؤسسات مثل الدواوين والوزارات والأشكال القانونية للشركة والمصارف، وهذه مجرد أمثلة للأمور الفنية في الاقتصاد والتي يمكن القياس عليها والاسترشاد بها.

ولمعرفة أثر هذا التقسيم الاقتصادي على موضوع التقدم الاقتصادي في ظل الاقتصاد الإسلامي، نبدأ بالتساؤل التالي: هل يقع التقدم الاقتصادي في منطقة الجوانب الفنية للحياة الاقتصادية أم يقع في منطقة العلاقة بين الإنسان وأخيه الانسان؟ الإجابة على هذا التساؤل تحدد العلاقة التي تقوم بين الاقتصاد الإسلامي والتقدم الاقتصادي، وهل أن الاقتصاد الإسلامي يعيق التقدم والتطور أم لا؟، والإجابة أنه لا شك أن التقدم والتطور يقع في الجوانب الفنية في الحياة الاقتصادية بما فيها من أساليب إنتاج ووسائل اتصالات ومواصلات، وبما فيها من مؤسسات، وبما فيها من أشكال ونماذج للصياغات في العلوم، وذلك هو موضع التطور، والتطور في هذه الجانب ملموس وواضح، بل إن التطور في هذا الجانب في تتابع واستمرار، والعالم المعاصر يشهد طفرة غير مسبوقة في تطور أساليب الإنتاج والاتصالات، ويشهد تطوراً واضحاً فيما يتعلق بالمؤسسات.

 وأمور الاقتصاد التي تقع في هذه المنطقة (الجوانب الفنية) تركها الإسلام للإباحة الأصلية، أي أنها ربطت بالتطور العام للإنسان، وما دام الأمر على هذا النحو فإنه لا يقبل القول: إن تطبيق الاقتصاد الإسلامي يعوق التقدم في هذا الجانب أو يؤدي إلى تخلفه، بل إن الصحيح أن يقال: إن الإسلام يحض المسلم ويدفعه ويحفزه للتطور في هذا الجانب، وذلك بأمره بتحقيق العمران الذي ألزمه الله به في قوله تعالى {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } (سورة هود: الآية 61)، ويترتب على ذلك أن المسلم مطالب بتحقيق التقدم في جميع المجالات ومنها الاقتصاد، والصحيح أن يقال أيضاً: إن الإسلام بجانب أنه يعمل على تحقيق التقدم فإنه يعمل في الوقت عينه على تأمين هذا التقدم وذلك بإعمال الآداب الإسلامية. وتأمين التقدم يشمل أنواعاً متعددة: تأمين التقدم بحيث لا يكون ضاراً بالإنسان، أو بالبيئة التي يعيش فيها الإنسان وهكذا.

 

يستنتج من ذلك أن الاقتصاد الإسلامي ومع اعتماده للشريعة مصدراً من مصادره يحقق التقدم الاقتصادي ويدعمه في أمور الاقتصاد التي تركت للإباحة الأصلية والتي تشمل؛ أساليب الإنتاج والاتصالات والمؤسسات والصياغات في العلوم وغير ذلك.

<!--طبيعة منطقة الأحكام وتحقيقها للعدل:

تبين مما سبق أن أمور الاقتصاد فيها منطقتان:(<!--)

 المنطقة الأولى: تشمل الجوانب الفنية، وقد استنتجنا في الفقرة السابقة أن الاقتصاد الإسلامي يؤمن التقدم الاقتصادي ويدعمه ويحفزه في هذا الجانب الفني للاقتصاد.

 المنطقة الثانية: أمور الاقتصاد تشمل علاقات الإنسان بأخيه الإنسان، وهذا الجانب هو الذي نناقشه في هذه الفقرة لنثبت به أن الاقتصاد الإسلامي بأحكامه الثابتة يحقق العدل، وسنحاول أن نتعرف على ذلك بالإجابة على أكثر من تساؤل:

<!--التساؤل الأول: ماذا يدخل في هذه المنطقة؟ هذا تساؤل عن العناصر التي تدخل في علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، إن الإجابة على هذا التساؤل تحدد العلاقات التي تقوم بين الإنسان وأخيه في عقود المعاملات الاقتصادية والمالية، أو العلاقات التي تقوم بين الإنسان وأخيه الإنسان في السلوك المتعلق بأمور الاقتصاد، أو النتائج التي تقع على الآخرين عندما يمارس الشخص نشاطه الاقتصادي، وهذه عناصر تدخل في الإجابة على التساؤل الخاص بالجانب الاقتصادي المتعلق بعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان، ونفضل أن نحدد العناصر التي تدخل في هذا الجانب (الإنساني) من مدخل آخر وهو مدخل القيم الأخلاقية التي تحكم علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، هذا التفضيل في الإجابة على هذا التساؤل له أسبابه، فعندما يكون الأمر متعلقاً بعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان فإننا لا نتحدث عن آلة وسرعتها وطاقتها الإنتاجية وهكذا وإنما نتحدث عن قيمة تحكم هذه العلاقة، أو قيمة تترتب على هذه العلاقة، أو قيمة تقوم بها هذه العلاقة، أو قيمة يوزن بها الإنسان بشأن هذه العلاقة، أو قيمة يتفاضل بها الناس بشأن هذه العلاقة. وهذه أسباب تجعلنا نفضل مدخل القيم لتحديد العناصر التي تدخل في الجانب الاقتصادي المتعلق بعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان.

    وتحليل التشريعات الاقتصادية التي جاء بها الإسلام تحليلاً قيمياً يكشف عن أنها تحمل العديد من القيم مثل: العدل وتكافؤ الفرص والمشروعية، وهذه أمثلة أو نماذج لقيم تحملها أو تحققها التشريعات الاقتصادية الإسلامية.

<!--التساؤل الثاني: هل هذه القيم متطورة أو تخضع للتطور؟، والتساؤل عن القيم على وجه العموم التي تدخل فيها القيم المتعلقة بالاقتصاد والتي ذكرنا بعضاً منها، فعلماء الإسلام يقولون عن القيم إنها ثابتة وعامة ودائمة، ويترتب على ذلك أن القيم لا تتطور، ولا تخضع للتطور. ونأخذ قيمة العدل كمثال فلا يمكن القول: إن العدل كان قديماً قيمة وهو الآن ليس قيمة أو يقال: إن العدل كان قديماً هو القيمة والآن مع التطور فإن الظلم أصبح هو القيمة المعتبرة، هذا هو المعنى الذي نريده بالقول: إن القيم لا تخضع للتطور.

معنى ذلك أن القيم لا تخضع للتطور، وبالتالي فإن موضوع هذا الجزء من الاقتصاد والذي يختص بعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان لا يخضع للتطور. وأن العدل الاقتصادي قيمة ولن يحدث مع التطور أن يكون الظلم الاقتصادي هو القيمة البديلة، فمنع الاستغلال الاقتصادي من إنسان لإنسان قيمة، ولن يحدث مع التطور أن يصبح الاستغلال الاقتصادي من إنسان لإنسان هو القيمة، وتأسيس العقود بين الناس على اليقين هو القيمة ولن يحدث مع التطور أن يصبح الغرر هو القيمة أو أن تصبح الجهالة هي القيمة. واكتساب الثروة بالحلال هو القيمة ولن يحدث مع التطور أن يصبح اكتساب الثروة بالحرام هو القيمة. وهذه أمثلة لقيم معتبرة في جزء الاقتصاد الذي يتعلق بعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان.

وهذا يدل على أن منطقة الأحكام الاقتصادية المتعلقة بالقيم بعيده كل البعد عن أن تكون معوقه للنشاط الاقتصادي.

<!--التساؤل الثالث: إذا كان الأمر متعلقاً بعلاقة الإنسان بالإنسان فمن الذي يأخذ الحكم على الآخر؟ لم يعط الإسلام الحق لإنسان لأن يحكم على الآخر ويتحكم فيه وإنما الحكم لله وحده سبحانه، والأمر على هذا النحو فيه كل الخير للبشرية، فالوقائع التاريخية قديماً وحديثاً شاهدة على أن الإنسان عندما أخذ حق الحكم في أمر هو فيه طرف فإنه لم يستطع أن يتجرد عن الهوى، وأن ينزع نفسه من مصالحه وارتباطاته وتحالفاته، ولذلك يكون الخير أن يبعد الإنسان أن يكون حكماً وأن يقبل أن يكون الحكم فوق الجميع ويحقق حكمه العدل للجميع وهذا الحكم هو الذي جاء به الإسلام في تشريعاته الاقتصادية.

<!--التساؤل الرابع: ما طبيعة التشريع الاقتصادي الإسلامي لأمور الاقتصاد التي تختص بعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان؟ التشريع الإسلامي فيما يتعلق بهذه الأمور الاقتصادية جاء بأحكام محددة ثابتة، ومن أمثلة هذه الأحكام: الربا حرام، الاحتكار حرام، الرشوة حرام، البيع حلال، الزكاة ركن من أركان الإسلام، الميراث فريضة، وتحديد أنصبة الورثة ثابت ولا يتغير.

<!--التساؤل الخامس: ما طبيعة الملائمة بين أمور الاقتصاد التي تختص بعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان وطبيعة التشريع الاقتصادي المتعلق بهذه الأمور؟ الملائمة بين الاثنين كاملة وتامة، فهذه المنطقة في الاقتصاد ثابتة ولا تخضع للتطور والأحكام التشريعية العاملة عليها ثابتة ولا تخضع للتطور، فالأحكام التشريعية الإسلامية هي التي جعلت أمور الاقتصاد التي تختص بعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان قيماً ثابتة، وهذا يحقق الخير للمجتمع الإنساني.

<!--التساؤل السادس: هل ثبات الأحكام التشريعية التي تعمل على أمور الاقتصاد التي تختص بعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان يعطل التطور ويمنع التقدم الاقتصادي؟ هذه المنطقة في الاقتصاد ليست منطقة تطور وإنما منطقة قيم ثابتة ولذلك يكون ثبات الأحكام في هذه المنطقة لا يعطل التطور ولا يمنعه، بل إن ثبات الأحكام العاملة على هذه المنطقة يدعم التطور ويرشده ويحفزه، والقيم الاقتصادية التي أشرنا إليها مع قيم أخرى كثيرة تؤمن التقدم وترشده وتحفزه، ونستطيع أن نقول: إن الثبات في الأحكام أفاد التغير في الواقع، فعندنا أحكاماً ثابتة لا تتغير مع التطور كما أن عندنا واقعاً اقتصادياً مطلوب تغييره باستمرار إلى الأفضل.

يستنتج من ذلك؛ أن الأحكام الثابتة عملت بالإيجاب على تطور الواقع.


<!--[endif]-->

<!--))  أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد الشاطبي، الموافقات، ج 2، دار ابن القيم- دار بن عفان، د ط، 1424هـ/ 2003م، ص9.

<!--))   رفعت العوضي، فقه الاقتصاد الإسلامي وطبيعة التشريع فيه، حولية كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة قطر، العدد الخامس، 1407ه/ 1987م، ص295- 296.

<!--))   المرجع السابق، ص297.

<!--))  تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبدالحليم (بن تيمية)، مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق، عبدالرحمن بن محمد بن قاسم، الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة المنورة، السعودية، ج 29، ص 16، 17.

<!--))   رفعت العوضي، فقه الاقتصاد الإسلامي وطبيعة التشريع فيه، مرجع سابق، ص295- 296.

<!--))  الشاطبي، الموافقات، ج 2، مرجع سابق، ص 18.

<!--))   رفعت العوضي، فقه الاقتصاد الإسلامي وطبيعة التشريع فيه، مرجع سابق، ص295- 296.

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 599 مشاهدة
نشرت فى 4 إبريل 2019 بواسطة dralaabasuony

dralaabasuony

dralaabasuony
يهدف هذا الموقع إلى تنشيط الثقافة العلمية وفتح المجال المناقشات العلمية البناءة من أجل إثراء المعرفة والعلمية وخدمة المجتمع، وذلك من خلال مناقشة العديد من الموضوعات الاقتصادية والاجتماعية »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

29,848