كنوزمن الصدقات الجارية

كنوز من الأحاديث الصحيحة ،والقرآن وأقوال السلف على شكل بطاقات لمشاركتها على المواقع

هذه قاعدة من القواعد المحكمة في أبواب التعامل بين الخلق، الذين لا تخلو حياة كثير منهم من بغي وعدوان، سواء على النفس أو على ما دونها.

وهذه القاعدة القرآنية العظيمة جاءت بعد قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ ثم قال تعالى -مبينًا هذه القاعدة العظيمة في باب الجنايات-: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:١٧٩]، ولنا مع هذه القاعدة القرآنية المحكمة وقفات:

• الوقفة الأولى:

إن من تأمل في واقع بلاد الدنيا عمومًا -مسلمها وكافرها- فسيجد قلة القتل في البلاد التي يُقتلُ فيها القاتل -كما أشار إلى ذلك العلامة الشنقيطي، وعلل ذلك بقوله-: «لأن القصاص رادع عن جريمة القتل؛ كما ذكره الله في الآية المذكورة آنفًا، وما يزعمه أعداء الإسلام من أن القصاص غير مطابق للحكمة؛ لأن فيه إقلال عدد المجتمع بقتل إنسان ثان بعد أن مات الأول، وأنه ينبغي أن يعاقب بغير القتل فيحبس، وقد يولد له في الحبس فيزيد المجتمع كله كلامٌ ساقط، عارٍ من الحكمة؛ لأن الحبس لا يردع الناس عن القتل، فإذا لم تكن العقوبة رادعةً فإن السفهاء يكثر منهم القتل، فيتضاعف نقص المجتمع بكثرة القتل» (*١*). 

• الوقفة الثانية:

مع قوله ﷻ -في هذه القاعدة القرآنية المحكمة- ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ : ذلك أن «الحياة أعز شيء على الإنسان في الجبلة، فلا تعادل عقوبة القتل في الردع والانزجار، ومن حكمة ذلك: تطمين أولياء القتلى بأن القضاء ينتقم لهم ممن اعتدى على قتيلهم، قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا﴾ [الإسراء:٣٣] أي: لئلا يتصدى أولياء القتيل للانتقام من قاتل مولاهم بأنفسهم؛ لأن ذلك يفضي إلى صورة الحرب بين رهطين فيكثر فيه إتلاف الأنفس» (*٢*).

• الوقفة الثالثة:

مع تنكير كلمة (حياة) في هذه القاعدة القرآنية: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ :

فهذا التنكير «للتعظيم، أي: في القصاص حياة لنفوسكم؛ فإن فيه ارتداعُ الناس عن قتل النفوس، فلو أهمل حكم القصاص لما ارتدع الناس؛ لأن أشد ما تتوقاه نفوس البشر من الحوادث هو الموت، فلو علم القاتل أنه يسلم من الموت لأقدم على القتل مستخفًا بالعقوبات كما قال سعد بن ناشب لما أصاب دمًا وهربَ فعاقبه أمير البصرة بهدم داره بها:

سأغسلُ عني العار بالسيف جالبًا

عليَّ قـضـاء الله مـا كـان جالبا

وأذهل عن داري، وأجعل هدمها

لعِرضيَ من باقي المذمة حاجبا

ويصغر في عيني تلادي إذا انثنـت

يميني بإدراك الذي كنتُ طالبا

ولو ترك الأمر للأخذ بالثأر -كما كان عليه في الجاهلية- لأفرطوا في القتل وتسلسل الأمر كما تقدم، فكان في مشروعية القصاص حياة عظيمة من الجانبين» (*٣*).

• الوقفة الرابعة:

هي مع ختم هذه القاعدة بقوله تعالى: ﴿يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ ففي ذلك «تنبيه على التأمل في حكمة القصاص؛ ففي توجيه النداء إلى أصحاب العقول إشارة إلى أن حكمة القصاص لا يدركها إلا أهل النظر الصحيح؛ إذ هو في بادئ الرأي كأنه عقوبة بمثل الجناية؛ لأن في القصاص رزية ثانية لكنه عند التأمل هو حياة لا رزية؛ للوجهين المتقدمين.

ثم قال: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ إكمالا للعلة، أي لأجل أن تتقوا، فلا تتجاوزوا في أخذ الثأر حد العدل والإنصاف» (*٤*).

• الوقفة الخامسة:

أن هذه القاعدة العظيمة فاقت ما كان ساريًا مسرى المثل عند بعض المتأخرين (*٥*)، وهو قولهم: (القتل أنفى للقتل).

وقد اشتغل جمع من البلاغيّين في تحليل هذه القاعدة القرآنية: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ للبحث عن مواطن إيجازها المتقَن، ومقارنتِها بالمثل المشهور الذي تكرر وتردد على ألسنة كثير من الأدباء، والكُتَّاب والصحفيين، ذلكم هو قول العرب: (القتلُ أنفى للقتل) فزعم بعضهم أنه أفصح من هذه القاعدة التي نحن بصدد الحديث عنها ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ ، وقبل بيان المقارنة يحسن إيراد كلمة محررة ومتينة لأبي بكرٍ الباقلاني؛ حيث يقول كلامًا، هو كالقاعدة بين حال من يريد أن يقارن بين كلام الله وكلام خلقه، يقول: «فإن اشتبه على متأدب أو متشاعر أو ناشئ أو مُرْمَدٍ (*٦*) فصاحة القرآن، وموقع بلاغته وعجيب براعته فما عليك منه! إنما يخبر عن نفسه، ويدل على عجزه، ويبين عن جهله، ويصرح بسخافة فهمه وركاكة عقله»! (*٧*).

وبالمقارنة بين ما نحن بصدده من هذه القاعدة القرآنية: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ وبين ذلك المثل: «الْقَتْلُ أنْفَى لِلْقَتل» ظهر ما يلي:

١- إنّ حروف القاعدة القرآنية: ﴿فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ أقل عددًا من عبارة العرب: «الْقَتْلُ أنْفَى للقتل».

٢- القاعدة القرآنية ذكرت «القِصَاصَ» ولم تقل القتل، فشملت كلَّ ما تُقَابَلُ به الجناية على الأنفس فما دون الأنفس من عقوبة مُمَاثلة، وحدّدَتِ الأمر بأنْ يكون عقوبة وجزاء لخطأ سابق، لا مجرد عدوان، وهذا عين العدل.

أمّا عبارة العرب فقد ذكرت القتل فقط، ولم تقيّده بأن يكون عقوبة، ولم تُشِرْ إلى مبدأ العدل، فهي قاصرة وناقصة.

٣- القاعدة القرآنية ﴿فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ نصَّتْ على ثبوت الحياة بتقرير حكم القصاص، أما المثل العربي فذكر نَفْي القتل، وهو لا يَدُلُّ على المعنى الذي يَدُلُّ عليه لفظ «حياة».

٤- القاعدة القرآنية خالية من عيب التكرار، بخلاف المثل العربي الذي تكررت فيه كلمة القتل مرتين في جملة قصيرة.

٥- القاعدة القرآنية صريحة في دلالتها على معانيها، مستغنية بكلماتها عن تقدير محذوفات، بخلاف عبارة «العرب» فهي تحتاج إلى عدّة تقديراتٍ حتى يَستقيم معناها، إذْ لا بُدَّ فيها من ثلاثة تقديرات، وهي كما يلي: «القتلُ» قصَاصًا «أنْفَى» من تركه «لِلقَتْلِ» عمْدًا وعدوانًا.

٦- في القاعدة القرآنية سَلاَسة؛ لاشتمالها على حروف متلائمة سهلة التتابع في النطق، أمّا العبارة «العربية» ففيها تكرير حرف القاف المتحرِّك بين ساكنين، وفي هذا ثقل على الناطق (*٨*).

وبعد: فإن لهذه المقارنة البلاغية الموجزة قصةً أختم بها حديثي في هذه القاعدة القرآنية، وهي أن العلامة محمود شاكر -رحمه الله- قرأ مقالةً لأحد الصحفيين يقرر فيها أن عبارة «القتل أنفى للقتل» أبلغ من هذه القاعدة القرآنية المحكمة: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ ، فضاق صدر الشيخ محمود شاكر جدًّا، ووصف هذه الكلمة بأنها كافرة، فكتب -وقتها- إلى الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي -رحمه الله- يستحثه على الجواب عن هذه الدعوى المزيفة، يقول الشيخ محمود شاكر -رحمه الله-: «غلى الدم في رأسي حين رأيت الكاتب يلج في تفضيل قول العرب: «القتل أنفى للقتل» على قول الله تعالى في كتابه الحكيم: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ [البقرة:١٧٩]، فذكرت هذه الآية القائلة: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ﴾ [الأنعام:١٢١]… ففي عنقك أمانة المسلمين جميعًا لتكتبن في الرد على هذه الكلمة الكافرة؛ لإظهار وجه الإعجاز في الآية الكريمة، وأين يكون موقع الكلمة الجاهلية منها؛ فإن هذه زندقة إن تركت تأخذ مأخذها في الناس؛ جعلتْ البر فاجرًا، وزادتْ الفاجر فجورًا، هم ذئاب الزندقة الأدبية التي جعلت همها أن تلغ ولوغها في البيان القرآني…» إلخ كلامه.

فلما بلغ هذا الكلامُ الأديبَ الرافعي غضب غضبة مُضَرية، وانبرى للرد على هذه الكلمة الآثمة في بضع صفحات من كتابه الرائع «وحي القلم»، لخصنا شيئًا منها فيما ذكرته آنفًا، فجزاه الله خيرًا، وغفر له، وإلى هنا ينتهي ما أردتُ بيانه حول هذه القاعدة القرآنية الكريمة: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾.

 

 

 

قواعد قرآنية

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 135 مشاهدة
نشرت فى 5 ديسمبر 2017 بواسطة djana

ساحة النقاش

fadila

djana
شعارنا قول النبي صلى الله عليه وسلم أحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم نسعى لإدخال السرور عليكم ولو بكلمة طيبة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

174,988