تأتي هذه القاعدة القرآنية المحكمة لتبين سنة من سنن الله تعالى في تعامل الخلق مع بعضهم، وقد جاءت هذه القاعدة القرآنية في سياق آيات في سورة فاطر، يحسن ذكرها ليتضح معناها، يقول تعالى عن طائفة من المعاندين (*١*): ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾ [فاطر:٤٢-٤٣].
ومعنى هذه القاعدة باختصار:
أن هؤلاء الكفار المعاندين أقسموا «بالله أشد الأَيْمان: لئن جاءهم رسول من عند الله يخوِّفهم عقاب الله ليكونُنَّ أكثر استقامة واتباعًا للحق من اليهود والنصارى وغيرهم، فلما جاءهم محمد ﷺ ما زادهم ذلك إلا بُعْدًا عن الحق ونفورًا منه، وليس إقسامهم لقَصْد حسن وطلبًا للحق، وإنما هو استكبارٌ في الأرض على الخلق، يريدون به المكر السيِّئ، والخداع والباطل، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، فهل ينتظر المستكبرون الماكرون إلا العذاب الذي نزل بأمثالهم الذين سبقوهم، فلن تجد لطريقة الله تبديلًا ولا تحويلًا فلا يستطيع أحد أن يُبَدِّل، ولا أن يُحَوِّل العذاب عن نفسه أو غيره» (*٢*).
وهذا المعنى الذي قررته هذه القاعدة، جاء معناه في آيات أخر من كتاب الله تعالى، كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ ، وقولِه تعالى: ﴿فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ بل قد قرر الله تعالى أن هذا الأسلوب -وهو المكر- إنما هو منهجٌ من مناهج أعداء الرسل مع الأنبياء والرسل، فقال ﷻ: ﴿وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [الرعد:٤٢]، وقال : ﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾ [إبراهيم:٤٦].
وأما الأمثلة الفردية التي تبين معاني هذه القاعدة، فكثيرة في كتاب الله تعالى، لكن حسبنا أن نشير إلى بعضها، فمن ذلك:
١- ما قصه الله تعالى عن مكر إخوة يوسف بأخيهم، فماذا كانت العاقبة؟ يقول تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ﴾ [يوسف:١٠٢] صحيح أن إخوته تابوا، لكن بعد أن آذوا أباهم وأخاهم بأنواع من الأذى، فعاد مكرهم على غير مرادهم، وفاز بالعاقبة الحسنة، والمآل الحميد من صبر وعفا وحلَم.
٢- قوله الله تعالى عمن أرادوا كيدًا بنبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [آل عمران:٥٤]!
٣- ولما تحايل المشركون بأنواع الحيل لأذية نبينا ﷺ قال الله عنهم: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال:٣٠]، فكانت العاقبة له عليه الصلاة والسلام.
وأما في السُنة، وفي التاريخ فكثيرٌ جدًّا، ومن قرأ التاريخ قراءة المتدبر المتأمل؛ وجد من ذلك عِبرًا، وأدرك معنى هذه القاعدة القرآنية المحكمة: ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾ .
ولهذا لما كان المكر برسول الله ﷺ كثيرًا، والكيدُ له عظيمًا؛ سلاه الله بآية عظيمة، تبعث على الثقة والطمأنينة، والأمل والراحة، ليس له ﷺ وحده، بل لكل داعية يسير على نهجه ممن قد يشعر بكيد الكائدين ومكر الماكرين، فقال ﷻ: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل:١٢٧-١٢٨].
«فالله حافظه من المكر والكيد، لا يدعه للماكرين الكائدين وهو مخلص في دعوته، لا يبتغي من ورائها شيئًا لنفسه، ولقد يقع به الأذى لامتحان صبره، ويبطئ عليه النصر لابتلاء ثقته بربه، ولكن العاقبة مظنونة ومعروفة: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ ومن كان الله معه فلا عليه ممن يكيدون وممن يمكرون» (*٣*)، والمهم أن يحفظ سياج التقوى، ولا يقطع إحسانه إلى الخلق، ثم ليبشر بعد ذلك ببطلان كيد الماكرين.
ولعلك تلاحظ في هذه القاعدة القرآنية: أن المكر أضيف إلى السوء ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾ ، وهذا يوضح أن المكر من حيث هو لا يُذم ولا يُمدح إلا بالنظر في عاقبته، فإن كان المكرُ لغاية صحيحة فهو ممدوح، وإلا فلا.
ومن بلاغة البيان القرآني: التعبير بالحَيق مع كلمة المكر، في قوله: ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ﴾ فالعرب تقول: حاق به المكروه يحيق به حيقًا، إذا نزل به وأحاط به، ولا يطلق إلا على إحاطة المكروه خاصة، فلا تقول: حاق به الخير، بمعنى: أحاط به (*٤*).
ولعلك تتأمل في الحكمة من اتباع هذه القاعدة القرآنية بقوله ﷻ: ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾ ليتبين أن هذه القاعدة القرآنية مطردة، وفي ذلك من التحذير من مكر السوء ما فيه.
وإذا تقرر أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ فإنه يدخل في هذه الآية كل مكرٍ سيء، يقول العلامة ابن عاشور مبينًا علة اطراد وثبات هذه القاعدة ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾ : «لأن أمثال هذه المعاملات الضارة تؤول إلى ارتفاع ثقة الناس بعضهم ببعض، والله بنى نظام هذا العالم على تعاون الناس بعضهم مع بعض؛ لأن الإنسان مدني بالطبع، فإذا لم يأمن أفراد الإنسان بعضهم بعضًا تنكر بعضهم لبعض، وتبادروا الإضرار والإهلاك؛ ليفوز كل واحد بكيد الآخر قبل أن يقع فيه؛ فيفضي ذلك إلى فساد كبير في العالم، والله لا يحب الفساد، ولا ضر عبيده إلا حيث تأذن شرائعه بشيء.
وكم في هذا العالم من نواميس مغفول عنها، وقد قال الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ ، وفي كتاب ابن المبارك في «الزهد» بسنده عن الزهري بلغنا أن رسول الله ﷺ قال: «لا تمكر، ولا تُعِن ماكرًا؛ فإن الله يقول: ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾ ».
ومن كلام العرب: من حفر لأخيه جبًا، وقع فيه منكبًا!
فكم انهالت من خلال هذه الآية من آداب عمرانية، ومعجزات قرآنية، ومعجزات نبوية خفية» (*٥*).
وإذا أردنا أن ننظر في آثار هذه القاعدة القرآنية على أهلها في الدنيا والآخرة، فلنتأمل هذه القصص التي ذكرها ربنا في كتابه عن أهل المكر بأوليائه والدعاة إلى سبيله، فبالإضافة إلى ما سبق ذكره عن جملة من الأنبياء، نجد أمثلة أخرى لأتباعهم، نجاهم الله فيها من مكر الأعداء، ومن ذلك:
- فرعون! كم كاد لبني إسرائيل لمّا آمنوا به! ومن جملتهم ذلك الرجل الذي عرف بـ «مؤمن آل فرعون» الذي قصّ الله خبره في سورة غافر! تأمل قوله تعالى: ﴿فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [غافر:٤٥-٤٦] فنجى الله المؤمن، وأما فرعون وجنوده فهم الآن -بل منذ ماتوا - وهم يعذبون، وإلى يوم القيامة.
- وهذا الإمام البخاري -صاحب «الصحيح»-، كان كثير من أصحابه يقولون له: إن بعض الناس يقع فيك! فيقول: ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ [النساء:٧٦]، ويتلو أيضًا: ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾ [فاطر:٤٣]، فقال له أحد أصحابه: كيف لا تدعو الله على هؤلاء الذين يظلمونك ويتناولونك ويبهتونك؟!
فقال: «قال النبي ﷺ: «اصبروا حتى تلقوني على الحوض» (*٦*)، وقال ﷺ: «من دعا على ظالمه، فقد انتصر» (*٧*)» (*٨*).
- وقد ذكر ابن القيم -رحمه الله- أمثلةً تطبيقية وعملية من واقع الناس لهذه القاعدة في سياق حديثه عن المتحايلين على الأحكام الشرعية، كالمتحايلين على أكل الربا ببعض المعاملات، أو يحتالون على بعض الأنكحة، وأمثال هؤلاء، فقال:
«فالمحتال بالباطل مُعَاملٌ بنقيض قصده شرعًا وقَدَرًَا، وقد شاهد الناس عيانا أنه من عاش بالمكر مات بالفقر؛ ولهذا عاقب الله من احتال على إسقاط نصيب المساكين وقت الجداد بحرمانهم الثمرة كلها (*٩*)، وعاقب من احتال على الصيد المحرم بأن مسخهم قردة وخنازير، وعاقب من احتال على أكل أموال الناس بالربا بأن يمحق ماله، كما قال تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ فلا بد أن يُمحق مال المرابي ولو بلغ ما بلغ، وأصل هذا: أن الله سبحانه جعل عقوبات أصحاب الجرائم بضد ما قصدوا له بتلك الجرائم،… وهذا بابٌ واسعٌ جدًا عظيمُ النفع، فمن تدبره يجده متضمنًا لمعاقبة الرب سبحانه من خرج عن طاعته؛ بأن يعكس عليه مقصوده شرعًا وقدرًا، دنيًا وأخرى، وقد اطردت سنته الكونية سبحانه في عباده بأن: من مكر بالباطل مُكر به، ومن احتال احتيل عليه، ومن خادع غيره خُدِعَ، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ ، وقال تعالى: ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾، فلا تجد ماكرًا إلا وهو ممكورٌ به، ولا مخادعًا إلا وهو مخدوع ولا محتالا إلا وهو محتال عليه» (*١٠*).
قواعد قرآنية
ساحة النقاش