كنوزمن الصدقات الجارية

كنوز من الأحاديث الصحيحة ،والقرآن وأقوال السلف على شكل بطاقات لمشاركتها على المواقع

هذه قاعدة من القواعد القرآنية المحكمة في أبواب المعاملات، والعلاقات بين الناس.

وهذه القاعدة القرآنية جاءت في سياق قصة موسى مع صاحب مدين -في سورة القصص-، والذي كان عاجزًا عن طلب الماء فخرجت ابنتاه للسقيا، بيد أنهما تأخرتا انتظارًا لصدور الناس عن البئر، إلا أن مروءة موسى وشهامته حملته على أن يبادر -من غير أن ينتظر سؤالهما- بقضاء حاجتهما، والسقيِ لهما، فأعجبَ هذا الفعلُ الفتاتين، فذكرتاه لوالدهما المقعد عن العمل، فأرسل في طلبه، فلما جاء وحدثه بخبره، قالت له إحداهما -وهي العالمة بعجز والدها عن القيام بمهام الرجال-: ﴿يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾ [القصص:٢٦] فقولها: ﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾ تعليل لطلبها، فالقوة: في العمل، والأمانة: في أدائه على الوجه المطلوب.

وهذا التنصيص على هذين الوصفين هو من وفور عقل هذه المرأة التي رأت اكتمال هاتين الصفتين في موسى، فإنهما من المطالب التي يتفق عليها عقلاء البشر في جميع الأمم والشرائع.

وقد أخذ العلماء -رحمهم الله- هذه الآية مأخذ القاعدة فيمن يلي أمرًا من الأمور، وأن الأحق به هو من توفرت فيه هاتان الصفتان، وكلما كانت المهمة والمسؤولية أعظم، كان التشدد في تحقق هاتين الصفتين أكثر وأكبر. 

إن من تأمل القرآن الكريم وجد تلازمًا ظاهرًا وبيّنًا بين هاتين الصفتين (القوة والأمانة) في عدة مواضع، ومن ذلك:

- ما وصف الله به مبلِّغ الوحي والرسالات إلى الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام: جبريل، في قوله ﷻ: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ۝ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ۝ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ﴾ [التكوير:١٩-٢١] فانظر كم وصفًا وصف الله به هذا الرسول الملكي الكريم! ومن ذلك وصفه بالقوة والأمانة، وهما من أعظم عناصر النجاح والكمال فيمن يؤدي عملًا من الأعمال.

- الموضع الثاني هو قول يوسف -عليه الصلاة والسلام- للملِك: ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ [يوسف:٥٥].

«أي: حفيظ للذي أتولاه، فلا يضيع منه شيء في غير محله، وضابط للداخل والخارج، عليم بكيفية التدبير والإعطاء والمنع، والتصرف في جميع أنواع التصرفات، وليس ذلك حرصًا من يوسف على الولاية، وإنما هو رغبة منه في النفع العام، وقد عرف من نفسه من الكفاءة والأمانة والحفظ ما لم يكونوا يعرفونه» (*١*).

ولا يخفى أن إدارة أموال مجموعة من الأيتام تحتاج إلى هاتين الصفتين، فكيف بإدارة أموال تتعلق بجماعة؟! أم كيف بإدارة أموال دولة بأكملها؟! ولهذا أبرزَ يوسفُ -عليه الصلاة والسلام- هاتين الصفتين، ومدح نفسه بهما، لا لذات المدح، بل لأن الوضع الاقتصادي في مصر آنذاك يقتضي مبادرة في ضبط إدارة أموالها، خصوصًا وقد كانت مقبلة -بحسب الرؤيا- على سنين عجاف مجدبات، تحتاج إلى حكمة وتعقل في الصرف.

- أما الموضع الثالث فهو:

ما جاء في قصة سليمان -عليه الصلاة والسلام-، وهو يعرض على من كان عنده أمرَ إحضار عرش بلقيس ملكة سبأ: ﴿قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ۝ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ﴾ [النمل:٣٨-٣٩].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية معلقًا على هذه المواضع الثلاثة بكلام نفيس، أنقل منه ما يناسب المقام:

«وينبغي أن يعرف الأصلح في كل منصب؛ فإن الولاية لها ركنان: القوة والأمانة كما قال تعالى: ﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾ … والقوة في كل ولاية بحسبها: فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب وإلى الخبرة بالحروب والمخادعة فيها، فإن الحرب خَدْعَةٌ، وإلى القدرة على أنواع القتال: من رمي وطعن وضرب وركوب وكر وفر… والقوة في الحكم بين الناس ترجع إلى العلم بالعدل الذي دل عليه الكتاب والسنة، وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام.

والأمانة ترجع إلى خشية الله، وألا يشتري بآياته ثمنًا قليلًا، وتركِ خشية الناس، وهذه الخصال الثلاث التي اتخذها الله على كل من حَكم على الناس في قوله تعالى: ﴿فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة:٤٤]» إلى أن قال: 

«اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل، ولهذا كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: اللهم أشكوا إليك جلد الفاجر وعجز الثقة، فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها، فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة، والآخر أعظم قوةً، قدم أنفعهما لتلك الولاية، وأقلهما ضررًا فيها، فتقدم في إمارة الحروب الرجل القوي الشجاع وإن كان فيه فجور، على الرجل الضعيف العاجز وإن كان أمينًا، كما سئل الإمام أحمد: عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو، وأحدهما قوي فاجر، والآخر صالح ضعيف مع أيهما يُغزى؟ فقال: أما الفاجر القوي فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين، فيغزى مع القوي الفاجر…».

ثم قال -رحمه الله- مبينًا منهج النبي ﷺ في هذا الباب: 

«ولذلك كان النبي ﷺ يستعمل الرجل لمصلحةٍ مع أنه قد كان يكون مع الأمير من هو أفضل منه في العلم والإيمان».

ثم لخص كلامه الطويل في تعليقه على هذه الآية بقوله: «والمهم -في هذا الباب- معرفةُ الأصلح، وذلك إنما يتم بمعرفة مقصود الولاية، ومعرفة طريق المقصود، فإذا عُرِفَتْ المقاصد والوسائل تَمَّ الأمر» (*٢*).

وكان -رحمه الله- قد قال كلمة تكتب بماء الذهب، وهي: 

«أن المؤدي للأمانة -مع مخالفة هواه- يثبته الله، فيحفظه في أهله وماله بعده، والمطيع لهواه يعاقبه الله بنقيض قصده، فيذل أهله، ويذهب ماله، وفي ذلك الحكاية المشهورة، أن بعض خلفاء بني العباس سأل بعض العلماء أن يحدثه عما أدرك؟ فقال: أدركت عمر بن عبد العزيز، فقيل له: يا أمير المؤمنين أقفرتْ أفواه بنيك من هذا المال، وتركتهم فقراء لا شيء لهم -وكان في مرض موته- فقال: أدخلوهم علي، فأدخلوهم، وهم بضعةَ عشر ذكرًا، ليس فيهم بالغ، فلما رآهم ذرفت عيناه، ثم قال: يا بَنَيّ! والله ما منعتكم حقًا هو لكم، ولم أكن بالذي آخذ أموال الناس فأدفعها إليكم، وإنما أنتم أحد رجلين: إما صالح، فالله يتولى الصالحين، وإما غير صالح، فلا أترك له ما يستعين به على معصية الله، قوموا عني!

قال هذا العالم -الذي يحكي هذه القصة-: فلقد رأيت بعض بنيه، حمل على مائة فرس في سبيل الله، يعني أعطاها لمن يغزو عليها.

قلت (والكلام لابن تيمية): هذا وقد كان خليفة المسلمين، من أقصى المشرق بلاد الترك، إلى أقصى المغرب، بلاد الأندلس وغيرها، ومن جزيرة قبرص، وثغور الشام والعواصم، إلى أقصى اليمن، وإنما أخذ كل واحدٍ من أولاده، من تركته شيئًا يسيرًا، يقال: أقل من عشرين درهمًا -! قال - أي هذا العالم الذي يحدث بهذه القصة ويعظ ذلك الخليفة العباسي-: وحضرتُ بعض الخلفاء، وقد اقتسم تركتَه بنوه، فأخذ كلُّ واحدٍ منهم ستّمائة ألف دينار، ولقد رأيتُ بعضهم، يتكفف الناس!!» (*٣*). 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وفي هذا الباب من الحكايات والوقائع المشاهدة في الزمان والمسموعة عما قبله، ما فيه عبرة لكل ذي لب!» ا.هـ (*٤*).

ومن أراد أن يتوسع في فهم معاني هذه القاعدة القرآنية العظيمة، فليراجع ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه «السياسية الشرعية في إصلاح الراعي والرعية».

اللهم ارزقنا فهمَ كتابك والعمل به، واجعلنا ممن يقوم بحق ما ولاه الله عليه.

 

 

 

قواعد قرآنية

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 79 مشاهدة
نشرت فى 9 أكتوبر 2017 بواسطة djana

ساحة النقاش

fadila

djana
شعارنا قول النبي صلى الله عليه وسلم أحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم نسعى لإدخال السرور عليكم ولو بكلمة طيبة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

146,751