جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
يهيم أهل الهوى بكل ما يثير الشجن .
ويطير أهل الجراح وراء كل كلمة أو صورة تجتر جراحهم.
ويجد هؤلاء في اجترار جراحهم متعة ونشوة وطربا .
ولكن ...
ليس كل اهتزاز للروح وتحرك للنفس وطرب للوجدان يكون نعيماً.. ولا حتى يكون محررا لها ومخرجا لها من عالم اللا شعور الدفين إلى عالم الشعور الظاهر لتطهيرها.. بل يشترط أن يكون هذا التطهير أو الشفاء بحق.. كما قال ابن القيم:
من شفا غيظه بحق شفا ومن شفاه بباطل لم يزدد إلا غيظا
ولقد حرك القرآن كما حركت السنة القلوب.. وهيجت المشاعر.. وأثارت الوجدان إثارة تمهد للشفاء.. وتحول الجراح والعذابات إلى نعيم.
(كان بيتنا يمتلك زاوية البلد وهى في تقديري أهم زاوية .
فإذا جلستَ على سطحه ونظرت تجاه الغرب انكشفت لك الحقول الخضراء..
ومن ورائها التلال الصفراء
التي تختفي وراءها الشمس الحمراء
كل مساء..
في وقت بعينه من كل يوم كنت أجدني مشدوداً إلى فوق..
إلى سطح البيت لأجلس في مكاني المعتاد الذي يمكنني من رؤية الشمس وهى تودع الكون.
تودع الشمس الكون فيتحرك الكون ليودعها؛
فتتحرك وفود من سكانه متأثرة بوداعها.
الطيور تنتظم في السماء أسراباً أراها تتجه إلى الحقل المجاور لنا.
الدواب تهرول مسرعة في مساربها حاملة أصحابها عائدة من اتجاهات مختلفة.. كلها تنحدر إلى العمران طالبة للأمان الذي بدأ ينسحب مع خيوط الشمس ريثما تعود فينتشر مع شروقها من جديد.
الأمهات تقف أمام البيوت تنادى أبناءها متضجرة من تأخرهم في اللعب وبقائهم خارج البيت إلى هذا الوقت الذي تنتشر فيه الشياطين.
بمفردي أجلس في محراب الكون في خلوة مع آياته الباهرة ساكناً خاشعاً أتأمل.
كانت الشمس قبل غروبها في كل يوم تنسق مشهداً يختلف في روعته وجماله عن الأمس، لكنها في كل المشاهد تأخذ العقل وتذهله إلي حد يجعلني رابضاً مستمراً حذراً من أي أمر يقطع على هذه المتعة اللذيذة.. التي أندمج فيها اندماجاً كلياً مع هذا المشهد الطبيعي الساحر.
تصفر الشمس بلون المرض.
ثم تحمر السحب بلون الجراح.
فيرتدى الكون شعار الحزن.
في الوقت الذي كانت الشمس تنحدر فيه نحو الغروب كانت مسحة حزن خفيفة تتسرب إلي قلبي..
لا أدري من أين..
ولا أدري لماذا كنت أستلذها وأرحب بها فتدب رويداً رويداً.. حتى إذا بلغت حداً ما أحسّت بها الدموع فتجمعت في المآقي..
ثم تكورت وأخذت من العين مكان الشمس من الكون .
وفي الوقت الذي تتمايل فيه الشمس يميناً وشمالاً كأيدي غريق يلوح من بعيد؛ كانت قطرات الدموع تتأرجح تحت الجفون.. حتى إذا غطست الشمس هناك وراء التلال انحدرت دمعة هنا على سفح الوجه المخطوف.
تنتهي الآية الجاذبة بغروب الشمس فأهرول لأتابع بقايا المشهد وآثاره من مكان آخر.
أقف أمام البيت..
أتابع حركة البلد في هذا الوقت الذي بدأ الظلام يخيم فيه على البلد كلها.
أتابع بقية المشهد.
الظلام الخفيف الذي بدأ يسجى البلد كلها بغشاء خفيف وسواد شفيف.
الطيور العائدة إلى أوكارها ليجتمع شملها بصغارها.
المزارعون عائدون في إسراع وشوق كل قد ركب دابته وتبعته بهائمه.
الحاج فلان ثم الحاج فلان في الطريق إلي المسجد.
أصوات الأذان من أنحاء البلد "الله أكبر.. الله أكبر.. لا إله إلا الله".
في صمت وذهول أستسلم لهذه المشاهد كلها التي تتجمع في وجداني كأنها على موعد بالتقائها هاهنا فيستقبلها ويرحب بها.. ثم يسمح لها بأن تنظم بينها ألحانها ويبدأ العزف.
وحقيقة لا أدرى بالتحديد هل كانت هذه السواحر الجاذبة هي التي تلتقي على موعد في ساحتي.. أم أن شيئا ما في وجداني كان هو الذي يدعوها ويستحثها ويهيئ لها المقام؟
لكن الذي كان يهمنى في ذلك أنني كنت أطرب لهذه الألحان والأحزان.. وأستلذ لها طربًا ولذةً فريدة مخصوصة لا يمكن وصفها ولا ذوقها في طرب آخر.. وكانت تتسلل إلى قلبي الذي تعرف مجاريه جيدًا فتمتعني وتشجيني.
لكن الغريب أنني كنت أظل في طرب يتصاعد حتى أصل إلى منتهاه فإذا به ينقلب فأجد صدري ضيقاً حرجاً، ونفسي لا يكاد يخرج، وأحس انقباضا في قلبي وكأن أحداً قد أمسك به في قبضته.. ثم ها هو يعصره عصراً قوياً فيقطر حزنا وغماً يسيل على صدري كله فيعبئه.
ومن الغريب أن قلبي أو نفسي كانت تطلب المزيد من هذه الأشجان ـ وهى سبب دائها ـ لتتداوي بها!!..
وكنت أظل خاضعا لطلبها فأمكنها من المزيد والمزيد حتى يشتد الألم ولا أتحمله.. فأبحث له عن دواء عدة أيام حتى يذهب لا أدرى كيف!!
ولكنى رغم عناء الهم والغم لا أكف عن العودة لممارسة هذا الإدمان في استدعاء النائحات الحسان لتنصب من جديد في أعماقي مأتم الأحزان.
والغريب كذلك أنني كنت عندما لا أجد في مشاهد الغروب ما يكفيني من طرب الأحزان أسارع إلى ذاكرتي.. فاستخرج منها مشاهد حزينة، ومقاطع أشعار أشبه بالنواح تقطع القلوب لتساعد في استدرار الدموع .
أستحث هذا النواح في داخلي إلي أن تنساب الدموع.. عندئذ يمكن أن أستريح ويكون الغروب قد انتهي فأدخل إلي بيتنا.
كل ذلك كان يحدث وكل هذه الحيرة في تفسير الأشجان التي يثيرها الغروب كنت واقعًا فيها وأنا لا أدري شيئا عن أذكار الغروب أو ما يسمى "أذكار المساء" أو "ذكر طرفي النهار".
أذكار المساء كانت هي أكبر هدية ومفتاح للنفس هداني إليه "الإخوة السُنّية" فقد أهدوها إليَّ في ورق مطبوع.. ثم في كتيب صغير.. كنا نحتفظ به في جيوبنا جمعه شيخ يسمى " محمود وفا ". اللهم أنعم عليه برضاك ومتعه برؤياك آمين.
كانت بالنسبة لي مفاجأة أن أجد أن هناك أذكاراً وأدعية مخصصة تناسب هذا الوقت بالذات.. وقد جاء الأمربذكر الله في القرآن فى هذا الوقت مصرحاً بلفظ الغروب.
(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) طه.
(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) ق.
وهذه الأذكار والأدعية كان الرسول (صلي الله عليه وسلم) يرددها ويتأملها ويعطى وجدانه الفرصة ليتشرب معانيها.. ولروحه الفرصة لتعيش في ظلالها..
ولقلبه الفرصة ليستمتع بعطائها وروائها..
فيكررها مرات ومرات ويفعل ذلك كل مساء.
إن هذه الأذكار والأدعية لابد أن شفاء القلوب ( صلي الله عليه وسلم) قد انتقاها انتقاء بعناية حكيمة لتناسب هذا الظرف،
وهذا المشهد،
وهذه الحالة النفسية بعينها، أقصد ما يثور في النفوس في هذا الوقت من خواطر ومشاعر وهواجس ووساوس وأحزان.. وغير ذلك وما يترتب عليه من آثار.
ومن هنا بدأ تعلق جديد بيني وبين أذكار المساء مع مشهد الغروب ذو مذاق خاص وطعم ونعيم جديد.
إختفى ضيق الصدر وانقباض القلب، وانكدار النفس، وظلمات الأحزان !!
وحلت حركة قلب جديدة، حلت عُقداً كانت قاسية،
وجمعت عِقداً كان منفرطاً.
وأصبحت أتأمل مشهد الغروب سابحاً في بحره؛ ممتعا به نظري وفكري وقلبي وروحي في ظل الأذكار..
أو متأملا الأذكار مرطبا بها لساني مغذيا به فؤادي في ظل مشهد الغروب.. وأنا في أمان من هذا الشبح المصاحب له ـ شبح الغم والانقباض ـ الذي تعودته قبل أن أهتدي إلى هذه الأذكار.
وبدأت أتعود الاستعداد للأذكار قبل وقتها.. وأحبذ أن أمتع بها روحي وقلبي وأنا في رحاب آيات الله الباهرة وكونه الفسيح الجميل بجماله وكماله وبهائه وجلاله وعظمته سبحانه (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ).
فصرت أبحث عن صفحة جميلة أطالعها وأنا أردد الأذكار حيثما كنت.. فتارة أتوجه إلى المزارع والحقول والحدائق..
وتارة إلى الصحراء
ومرة إلى البحر أو إلى النيل.
وفى كل صفحة يجتذب نظري إليها وأنا أكرر وأتدبر الأذكار تتفتح لفكري معنى أو معان جديدة.
والمعنى الجديد حين يبرق ثم يتألق في سماء القلب يشده معه إلى فوق.. ثم يبقيه هناك معلقا بخيط المتعة مشدوها كطفل يرى مخلوقا لأول مرة.
يظفر القلب بالفكرة فيفرح بها فرح الكبد الظمآن بالماء البارد وفرح اليتيم بسيرة الوالد، ولا شيء يعيد الإنسان إلى براءته الأولى مثل الفكرة ولذتها ونشوتها.
وعند الظفر بالمعنى الغائب فلابد أن تذرف العين دمع الفرحة بعودته ودمع الحسرة على ما كان من فقده.
وكل معنى عن الله تعالى فالقلب بيته ومسكنه.. فهو أولى به لذا فهو يبأس بفراقه وفقده وشغور مكانه إذا طار بعيدا عنه، ويطير فرحا بلقائه إذا حام حوله ثم حط فيه.
ولم لا وكل محبوب يهيم بمحبوبه كلما طار طائر يذكره به.
وقد كان لهذه الصفحات وتلك المعاني التي حطت في وجداني فضل عظيم.. فقد طُبعت في ذاكرتي وقلبي هذه المشاهد الأخاذة.. وقد سكنت بين جناحي تلك البلابل الناعمة تشدو صباح مساء.. فأشدو معها وأحلق بتحليقها في سماء الإيمان.. وقد نفعني ذلك كثيراً في أشد الأيام وأقوى الفتن والمحن المزلزلة.
فقد كنت في خلوتي خلف الأسوار، وراء الشمس وأنا مقيد محبوس بين جدران أربعة أستعيد من ذاكرتي مشهد الغروب لينقلتي.. وأنا مقيد محبوس إلي الفضاء الرحب، أردد الأذكار فأجدني أجوب الأرض كلها، ثم الأرض لا تكفى لحركتي فتصعد بي الأذكار إلى السماء.
انتهت كلمات الأخ الكريم أسال الله تعالى أن ينفعنا بها
آمين
الثلاثاء الموافق
21-9-1431هـ
31-8-2010م
المصدر: موقع الجماعة الاسلامية إشراف د .ناجح إبراهيم
ساحة النقاش