( قصة واقعية )
بقلم / على الدينارى
لا توجد فرحة في الدنيا تساوى فرحة المسجون بالفرج.. إنها المثال المصغر لفرحة روح المؤمن وهي تفارق سجن الدنيا وبلائها إلى رضوان الله تعالى وجنة الآخرة.
فرحة المؤمن بلقاء الله هي التي تنير وجهه فيشفى من مرضه فجأة بلا أسباب!
وهى التي تترك على وجه البائس بسمة لم تنفرج شفتاه عنها منذ سنين!! فيسميها الناس: "حلاوة روح"!!
ربما لأن الروح تتلقى من عالم الغيب بشرى الإفراج عنها من سجن الدنيا.
ولا يمكنك أن ترى فرحة أشرقت وجه صاحبها فلم يعد هو الذي تعرفه.. كما تراها على وجه المفرج عنه!!
فرحة الفرج أعادت للضرير بصره.. وأقامت المقعد من شلله.. وأطلقت الدماء في جسد يستعد للموت.
ولا يوجد خبر يمكن أن يهز السجن ويزلزل رتابة الأيام والأحوال ويسيطر على حديث المعتقلين كما تفعل أي همسة عن الإفراج والمفرج عنهم !!
الفرحة رحمة.. حين يرسلها الرحمن الرحيم على مجتمع من المؤمنين فهي تلف الجميع كالنسمة الرقيقة قبيل الغيث (بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) تسرى خلال القلوب فتحرك النشوة وتملأ المكان بعطر السرور وروح البشرى وسعة الأمل.
ولا فرق هنا ـ في معتقلنا ـ في الفرحة بين المفرج عنه وبين من ينتظر!!
فقلوب الأحباب هنا (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ) من رذاذ الفرج.. وبشراه.. ونداه.
سرى خبر الإفراج عنه في السجن كله سريان الفرحة في مجتمع ظمآن إليها.
أصبحوا جميعا ً وأمسوا يتدارسون خبر قرار صدر وفى انتظار التنفيذ.
الخبر يبشر بالإفراج عن دفعةٍ جديدةٍ من المعتقلين على رأسها هو.
ومن هو؟!!
إنه القلب الذي دمع كثيرًا لمآسي هؤلاء الأحباب.
بل هو من ضحى من أجل أن يرى فرحة الفرج على وجوههم.. بعد أن عاش معهم أشد الأحزان.
إنه الروح التي فرحت لفرح الجميع.. وهاهو قد جاء الدور عليه.
لقد تعود هذا المجتمع الصغير على ابتسامته.. وعلى تمشيته كل يوم في طرقات السجن ذهابًا وإيابًا .. لعل هناك من يحتاج إلى علمه في سؤال فيجيبه.. أو يريد أن يفضى إليه ببعض همومه فيجد منه نصيحة.. أو سلوى يتصبر بها عل بلائه.
ومن يوم أن طرق الخبر السعيد باب السجن وكل من يلقاه يبادره بالسؤال :
هل من جديد؟!!
ألم تأت الإشارة بعد بتحديد يوم الخروج؟!!
فيجيب في هدوء ووقار:
لا تشغل بالك.. ثم يردف مبتسما بالمثل القائل:
عريان سنة اشتكى الخياط على يوم؟
ويعجب البعض من سكونه وثباته والدنيا تهتز حوله.. ولكن لا عجب فكم دقت على الرأس طبول؟
وكم أشرقت شمس كاذبة تُمنى النفوس بالأمل فإذا بإشراقها ليس إلا الغروب.
في حياته كم أشرقت شمس الفرج ثم عادت ولم تستكمل المسير؟
وكم أشرقت شمس من مغربها لتقوم قيامة أفراح ماتت وشبعت موتاً.. ولتسوق الأحزان زُمَرا إلى غيابات النسيان.
قالوا إن هذا العدد الذين صدر الإذن بالإفراج عنهم سيخرجون على دفعات.. كل يوم خمسين منهم.
عندما بدأ تنفيذ الإفراج توقع الجميع أن يخرج هو في أول يوم.. ولكنه توقع أن يكون خروجه في آخر أيام الدفعة.
أيام سعيدة حالمة قضاها المعتقل في الاحتفال والوداع للمفرج عنهم تباعًا ولم يأت الدور على وداعه.
في اليوم المكتوب ناداه مأمور السجن.. وأخبره أن عليه أن يجهز نفسه للخروج اليوم.. فلم يبق سوى حضور الضابط المختص لاتخاذ إجراءات الخروج و..: (ألف مبروك).
هرول مسرعًا ليودع إخوة الإيمان.. رفقاء السجن.. وصحبة المحنة.. ولكن الخبر كان قد سبقه إليهم.. هرولوا نحوه وبدأ العناق وانطلقت الأناشيد:
الفرح هلّ بوادينا وأضاءت منه ليالينا
والله المولى أكرمنا ورسول الله هادينا
............
فرج الله على الأبواب يا بشرى أهل الإيمان
يوشك يطرقها كي تُفتح ولقد سطع بنورٍ دان
هذا وعد الله كفانا أصدق وعدٍ في القرآن
فرج الله قريبٌ حقاً ومع العسر أتى يُسران
ومع العسر أتى يسران
طاف السجن كله ليودع الجميع ولا يترك واحدًا دون أن يسلم عليه فصار موكبه زفافاً !!
جلس وجلسوا حوله ووزعوا الشربات والحلوى ابتهاجاً بخروجه.. ثم أجروا معه حواراً مفتوحاً من الحوارات التي اعتادوها في المعتقلات:
أول عهدك بالسجون؟
أول عهدي بالسجن سنة 80 19حيث قضيت عدة شهور ثم خرجت.
وبعدها؟
بعدها دخلت سنة 1981 وقضيت 10 سنوات ثم خرجت.
وهذه المرة متى اعتقلت؟
سنة 1994 يعنى منذ 10 سنوات.
حدثنا عن أسرتك الكبيرة.. عن الوالد أولا .
الوالد كان موظفا بهيئة الطرق والكباري وعمره الآن 74 سنة .
ما أثر الوالد عليك في تكوين شخصيتك؟
تأثيره على في كل شيء.. فكل صفة طيبة فهي في الحقيقة رباها في الوالد حفظه الله وكل صفة غير طيبة في فليست منه.
ما أبرز شيء أخذته منه؟
الوالد حفظه الله لا يقنعه إلا المنطق إذا كان الموضوع عليه أدلة تقنع العقل يقتنع به.. وإذا لم تكن عليه أدلة فالعاطفة لا تقنعه والعاطفة عنده لا تغير الحقيقة، وأنا كذلك.
هل يعنى ذلك أنك لا تتأثر بالمشاعر والعاطفة؟
لا طبعا أنا أتأثر بالمشاعر ولكنها لا تغير الحقيقة بمعنى أن الإنسان إذا لم يكن له حق في شيء مثلا فمهما بكى واستعطف فإن هذا لا يحوله إلى صاحب حق.
ما هو توقعك للخطوات التالية بعد خروجك من باب السجن .. وما هي استعداداتك لهذه اللحظة؟
لم أفكر في هذه الخطوات وأحب أتركها لوقتها.
ضحك الجميع إذ أن المعتاد من كل من يبشر بالفرج أن يعيش بأحلام اليقظة أدق تفاصيل ما سيكون لحظة المفارقة لقبر الأحياء.. وتجربة الأصدقاء.. وشماتة الأعداء.
وهكذا سار الحوار وتطرق إلى جوانب كثيرة كان طريفاً مرحًا أحياناً وجادًا أغلب الحوار.
أرسل إليه المأمور فقد حضر الضابط الذي سينفذ إجراءات الإفراج فارتبك المجلس السعيد.. ودقت قلوب في صدورها فقد حانت ساعة الفراق.. ولا عشرة أقوى ولا أعز من عشرة المحنة.. ولا معرفة بالأصدقاء يمكن أن ترتفع لمستوى معرفة الرجال في السجون.. ألم يصفها يوسف عليه السلام بأنها تجربة الأصدقاء؟
تركوه ليسرع إلى مقابلة الضابط لإتمام إجراءات الخروج بينما انصرف البعض إلى زنزانته لانتظاره هناك.
لقد تحول المجلس إلى هناك لكنهم لم يجلسوا.
همّ البعض أن يحمل حقائبه إلى مكان قريب من البوابة ليسهل عليه حملها لكنها لم تكن كثيرة ولا ثقيلة.
لقد فرّق أكثر ما يملكه لإخوانه منذ أيام.
وقفوا في انتظاره وشرد بعضهم يتأمل الموقف المليء بالعبرة وبالمتعة أيضا.
من المتعة والعبرة معا أن تتخيل مشهد لقاء الأب الحنون بابنه الغائب.
ألم يصور القرآن اللقاء العزيز بين يوسف ويعقوب على نبينا وعليهما أزكى السلام؟
منذ قريب جاءه خبر مرضه بالمستشفى وخشي عليه.
إن أمنية كل منهما أن يلتقيا في الحرية قبل أن يفارق الأب دار الغربة التي أصبح فيها ضيفاً ليس إلا!!
الأب يتمنى ذلك لأنه يريد أن يلقى ربه وقد أدى رسالته المقدسة في الحياة وهى واجبه تجاه ولده المعتقل.
من أجل هذه الرسالة عرف طريق السفر قرب الفجر وعرف السجون بأسمائها في طول البلاد وعرضها.. ووقف في الطوابير منتظرا دوره على بوابات السجون ومن أجلها تحمل حماقات الصغار واستفزازات الكبار وتحمل وتحمل..
أما الابن فقد صارت أمنيته هي أمنية أبيه أن يفرج الله عنه ليرحم والده من تعذيب نفسه .. فكم توسل له أن يستريح.. فهو بخير.. لكنه كان يرفض لأنه لا يؤدي جميلا لأحد.. وإنما هو حق الله تعالى وهى رسالته الوحيدة التي لا رسالة له غيرها في الحياة.
اليوم سيضع هذا الأب رَحله وعصاه ويستريح.
اليوم سيطمئن أنه سيلقى ربه راضيا عن نفسه.
اليوم ينتهي قلقه من زيارة ملك الموت المرتقبة فليأت في أي وقت فقد أدى رسالته.. "كم أنت كريم يا رب" هذا ـ بالتأكيد ـ هو الموضوع كله في نظر الأب وهذه هي أكبر عبرة وأكبر فرحة في هذا الفرج.
لم يستطع أحد أن يستكمل تأملاته وسباحته بين أمواج العبر والخواطر التي تصاحب هذه المواقف عادة فقد.
أحسوا بخطواته قريبة فتأهبوا لمشاعر الفراق.. والسلام الأخير.. وفرحة الفرج.. والوداع السعيد.. وكذا لمساعدته في حمل حقائبه وتوصيله إلى أول بوابة.
لن ينسوا أن يطالبوه بتبليغ سلامهم وتهنئتهم للوالد العزيز الذي يعرف أكثرهم فقد التقى بهم في زياراته إنه يعتبرهم جميعا أبناءه ولهم عليه من الحق كما لابنه عليه.. لذا فلا ينسى دائما أن يسألهم في زيارته إن كان لأحدهم طلب يمكن أن يلبيه كما أنه يدعو لهم كلما دعا لابنه الغالي.
توقفت ثرثرتهم المبتهجة عندما راعهم هذا الانقلاب على ملامحه ...!
الشمس المشرقة على وجهه المستنير قد أفلت...!
الفرحة التي كست أعضاءه كلها قد تساقطت...!
في الأمر شيء غريب .. !
خريف هبّ عليه فجأة بعد أن أورقه الربيع! لكنه كما هو ساكن.. ثابت.. وقور كما هو !
سكت السرور على وجوههم جميعا فنطقوا: ما الحكاية؟
لا .. أبدًا .. ذاهب وسأعود.
أتركوا الأشياء كما هي!.
ستعود ؟؟ !!.. لماذا ؟؟ !!..، وكيف ؟ !!.. وهل...
هل كان خبر الإفراج شائعة؟
أبدا... ولكن أنا ذاهب لأتلقى العزاء في والدي الذي توفى فجر اليوم.
ساحة النقاش