الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد.. فذكر الله تعالى هو جنة الدنيا فما أحوجنا إليه بعد أن دأبت هذه الدنيا على أن تكوينا كل يوم بنارها
وذكر الله تعالى هو روح الأعمال كلها
وهو قوت القلوب واطمئنانها (أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) وهو دواؤها وشفاؤها..
إذا مرضنا تداوينا بذكركم ونترك الذكر أحيانا فننتكس
وقد اختار لنا النبي صلى الله عليه وسلم مجموعة من الأذكار نواظب عليها كما واظب هو وهو صلى الله عليه وسلم حكيم في اختياره خبير بالنفوس وما يصلحها فضلا عن كونه مؤيدا بالوحي من ربه والسنة التي يشرعها لنا هي من الوحي.
ونحن لا نستطيع أن نحصر الفوائد والثمرات العظيمة التي يجنيها كل من يواظب على هذه الأذكار.
ولكنني سأحاول أن أسجل ما يتيسر وما يمكن التعبير عنه فالمواظبة على هذه الأذكار له في تربية المؤمن ثمار وآثار وفوائد وفضائل لا يمكن حصرها منها:-
1. هذه الأذكار ترسخ العقيدة وخصوصا عقيدة التوحيد وتجددها وتؤكد عليها وتوثقها في القلب بأساليب مختلفة فمرة بتكرار كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) ومرة بتكرار سورة الإخلاص وبإقرارات متنوعة يقرها الإنسان بلسانه ويستحضر قلبه مثل (لا إله إلا أنت) (فمنك وحدك لاشريك لك) (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن) (خلقتني وأنا عبدك) (إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت).
والتوحيد هو روح القلب وحياته وصحته وقوته وهو غذاؤه ودواؤه والتوحيد كذلك هو نور العقل الذي يبدد الغشاوات فيترك العقل بصيرا بالغا في الفكر مداه.
التوحيد يعيد الإنسان إلى فطرته التي فطره الله عليها فقد فطره على توحيده ومحبته فيعيد إليه صفاءه وقراره وانسجامه الذي تسلبه منه الحياة اليومية.
التوحيد يقوى الإنسان لأنه يطرد عنه كل مخاوفه من غير الله الذي خلقه وخلق الكون كله وحده سبحانه.
2. هذه الأذكار تربط على القلوب برباط الإيمان وتسكب فيها السكينة والرضا وتشد عليها بقوة التوكل على الله والثقة فيه سبحانه وتذكرها بالآخرة وتمدها بقوة وقدرة على الصبر والثبات لا يمكن وصفها ولذلك فهي زاد ضروري للصبر على الشدائد وهى ومثلها من الأذكار شقيقة القرآن في رفقة المؤمن في المحن والابتلاءات ولا يتصور أن ينجو العبد من الفتن معافى في دينه من غير أن تكون مع الأذكار صحبته ورفقته وعمله ودأبه وديدنه وشغله.
ولقد صنعت الأذكار في المحن والأهوال في الماضي وفي حاضرنا من العجائب مالا يصدقه إلا المؤمن بل لا يعرفها إلا من جرب أو رأى فما صارت النار بردا وسلاما على إبراهيم عليه السلام النار إلا بذكر الله وما صارت بطن الحوت وعاء ونجاة ليونس عليه السلام إلا بذكر الله وما انفلق البحر يابسا لينجو لموسى عليه السلام إلا بذكر الله ولقد رأيت بعيني من كان يستغرق في سجدة واحدة ساعة كاملة، ومن كان يقضى ليلة كاملة في ركعتين من الساعة الواحدة حتى الخامسة، ورأيت من وقف يتضرع لربه أربع ساعات بغير تكلف ولولا أذان الفجر ما قطع دعاءه.
إنك تقرأ القرآن فلا تكاد ترى وصية من رب العالمين بالصبر إلا وبعدها وصية بالذكر (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) فالصبر والرضي يرببيهما الذكر (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ) (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ* وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) فالذكر يعين على الصبر.
3. أذكار الصباح والمساء تبعث في الإنسان الروح والحياة والقوة والإقبال على الحياة وعلى العمل والصبر عليه وتخطى العقبات وتحمل المتاعب.
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر ربه ذكرا كثيرا وكانت أذكار الصباح والمساء جزءا من أذكاره اليومية الدائمة وكان الذكر الكثير هو سر قوته وجهاده وعطائه وروح الشباب والحيوية التي كانت تتدفق في حياته كلها صلى الله عليه وسلم وكل من اقتدى به في ذكره كانت له هذه الحياة والقوة فهؤلاء أصحابه الكرام نعجب نحن لما تحقق على أيديهم من المعجزات وما ذلك إلا لكثرة ذكرهم لله تعالى و كما يذكر عن ابن تيمية رحمه الله أنه كان يجلس بعد صلاة الفجر يذكر ربه حتى ترتفع الشمس ويقول: (هذه غدوتى لو ذهبت سقطت قوتي) ولذلك كان زملاؤه يكتبون كراسا فإذا به قد كتب سبعة كراريس وكانوا يذكرون أن هذا بسبب وجبته الوفيرة من الذكر.
لقد وصى القرآن بذكر الله تعالى في أوقات الجهد والجهاد والتضحية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ) ولذلك لو فطن المهتمون بالتنمية البشرية لربوا النشء على المواظبة على ذكر الله عامة وأوله الصلاة وعلى أذكار الصباح والمساء خاصة باعتباره جزءا من خطط التنمية فهذه الأذكار تطلق قوة الإنسان وتستخرج طاقته وتشرح صدره وتعلى همته.
4. أذكار الصباح والمساء توجه الإنسان وتضبط حركته بوازع من تقواه ومراقبته لربه وتمسكه بالعهد الذي بينه وبين خالقه ذلك العهد الذي يجدده كل يوم (وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت)، ويشهد الله وملائكته وجميع خلقه على إيمانه (اللهم إني أصبحت أشهدك واشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك أنك أنت الله) ويستعيذ بالله من شر نفسه ومن أن يقترف سوءا على نفسه أو يجره على غيره (أعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان وشركه وان أقترف على نفسي سوءا أو أجره على مسلم).. وبذلك توفر الأذكار أقوى وأوفر نوع من الرقابة وهو الرقابة الذاتية.
5. أذكار الصباح والمساء وقاية من الاكتئاب بل وفيها علاج منه فما الاكتئاب؟؟ قالوا عنه: (الاكتئاب غول، وحش كاسر، بئر عميق، بحر ظلمات بلا شاطئ، شيء يعتصر الروح ويكوى النفس ويحرق البدن، لا أمل،!لا أحلام،! لا مستقبل،! بل التعاسة، والحزن، واليأس، والانسحاب، والهزيمة) لماذا كل ذلك؟؟!! لأن المكتئب فد أنسته المصائب نعم الله عليه وأصبح وأمسى وهو لا يرى إلا مصائب الدنيا كلها فوق رأسه الآن، وأما غدا فالويل كله في انتظاره والهلاك بعد غد فتأتى هذه الأذكار لتعالجه علاجا شاملا يحتوى على التوحيد وعلى التذكير بنعم الله عليه وأخذ إقرار من لسانه بذلك يعيده ويؤكده (أصبحت منك في نعمة وعافية وستر).
ويفتح له باب الرجاء والأمل في المزيد من النعم (فأتم على نعمتك وعافيتك وسترك) ليس غدا أو بعد غد وإنما في عمره كله (في الدنيا) بل بعد انتهاء العمر (وفي الآخرة).. فالآخرة موصولة بالدنيا ومكملة لها فمن نقصت دنياه فصبر كملت آخرته ومن حرمته الدنيا أعطته الآخرة (وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا) ومن كسرته الدنيا جبرته الآخرة ومن أبكته الدنيا وأحزنته أضحكته الآخرة (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ* ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ) (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ).
أعرف شابا كان يعالج من الاكتئاب جلس إلى شيخ في المسجد وشكا إليه حاله وتكلم طويلا عن حياته التعسة فكلمه الشيخ ساعتين أو أكثر ثم رأيته بعد ذلك سعيدا مسرورا عاد إلى عمله بعد أن هجره فما سر كلمات الشيخ؟ ركز الشيخ على معنيين ذكره بنعم الله عليه وطمأنه بعدل الله في الآخرة وأن ظلمه لن يضيع وان ما نقصه في دنياه سيجده في آخرته والعجيب أن هذا الشاب لم يكن ينقصه شيء ولكن وقع تحت طائلة ظلم أظلم عليه دنياه وآخرته.
6. الارتباط بالطبيعة فالمؤمن ينتظر الصباح والمساء حتى يذكر ربه بهذه الأذكار لذا فهو متابع وملاحظ ومتأمل ومتأثر بأكبر ظاهرتين تأثر بها الخلق كلهم، جنهم وإنسهم، برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، بل الطير، والزهر، والبحر، والنهر، والسهل، والوعر، والغابات، والفلوت والديدان الحاسرة، والوحوش الكاسرة، كلها عنت وجوهها لربها عند هاتين الآيتين: (اللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) إنهما ظاهرتا الإصباح والإمساء أو الشروق والغروب فأي شعب, أي حضارة تلك التي لم يعبر أدباؤها وشعراؤها وفنانوها وكتابها بل وعوامها, ونساؤها بل حتى أطفالها عن فيض مشاعرهم التي أججها الشروق أو الغروب.
ألم تسمع لأطفال المدارس وهم يغنون نشيد الصباح:
تغرد الطيور فرحانة بالنور
تقول في سرور ما أجمل الضياء
ما أجمل الضياء
والرجل الكبير والولد الصغير
يقول في سرور ما أجمل الضياء
ما أجمال الضياء
وتأثر شاعر بمشهد الغروب كغيره فقال:
الشمس عانت الاحتضار وهناك أقبرها النهار
والسحب تبكى أمهــــــا والدمع يصبغه احمرار
والكون أظهر حزنـــــه وغدا السواد له الدثار
والكل يذكر وعظهــــــا إن الرحيل على انتظار
إن الرحيل على انتظار
لقد بلغ تأثير الغروب إلى حد أن بعض الديانات الباطلة تتعبد للشمس في هذا الوقت الساحر.
ولكن الإسلام بعظمته زكى الاندماج والتفاعل مع الطبيعة والتأثر بها والتأمل في ظواهرها (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ) (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى).
وصحح في الوقت نفسه علاقة الإنسان بالكون من حوله فمظاهر القوة التي ميز الله بها أي مخلوق من مخلوقاته لا تعنى أنه هو الله ولا تعنى أنه خارج سيطرة الله وقهره كما لا تعنى إنه عدو للإنسان فعليه أن يخشاه ويسترضيه ويتعبد له أو يقرب له القرابين كل هذه المعاني المفسدة لعقيدة الإنسان وبالتالي مفسدة لاطمئنانه وراحته يصححها المسلم مع نفسه بترديده للأذكار (أصبحنا أو أمسينا وأمسى الملك لله).
فكما أمسينا نحن وأصبحنا لله عابدين خاضعين تحت سلطانه وقهره وكذلك تحت رحمته سبحانه فالملك كله جباله وبحاره وليله ونهاره وماؤه وناره ووحوشه وشموسه وأٌقماره أصبحت, وأمست معنا لله خاضعة في انتظار أمره الذي تسير به (كُن فَيَكُونُ) بل إن: (أمسينا وأمسى الملك لله) تذكر الإنسان بالأمر المشترك بينه وبين المخلوقات جميعا فهو وهم (لله).
والقرآن يؤكد ذلك (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ) فالمؤمن وأي مخلوق شريكان في تسبيحهما لله تعالى فليس غريبا إذا أن نسمع قول نبي من أنبياء الله للشمس: أيتها الشمس إنك مأمورة وأنا مأمور ثم طلب منها أن تؤخر غيابها قليلا حتى ينتصر على أعداء الله فتأخرت بإذن الله، ولاعن الأسد الذي رأى بعض أصحاب النبي في طريقهم للجهاد فسكن ولم يؤذهم، و لاعن الكلب الذي أدخلوه على الشيخ في سجنه لينهشه فرآه يصلى فهدأ وجلس بجواره، ولا عن الغبار الذي ثار ليدارى المجاهدين عندما انكشفوا لأعدائهم فهم جنود لله وهو كذلك من جنود الله.
7. المواظبة على أذكار الصبح والمساء تعود الإنسان المواظبة على بعض العادات الطيبة التي تفيده في حياته العملية مثل:
التوجه إلى الله تعالى قبل بداية اليوم وكذلك قبل بداية العمل والتعلق به سبحانه ودوام الصلة به واصطحاب معيته وتوفيقه وإمداده والاستعانة به سبحانه ولاشك أن هذا من أسباب النجاح والتوفيق.
التبكير واغتنام البكور فمن يواظب على أذكار الصباح والمساء غالبا ما يحب أن ينتظر شروق الشمس وإن سمح مكانه بمتابعتها وهى تشرق فسينتظرها حتى يمتع روحه وقلبه وبصره وكيانه كله بهذه الآية الخلابة المذهلة.
وفي التعود على التبكير فوائد كثيرة وعظيمة في دين الإنسان ودنياه:
عن صخر بن وداعة الغامدى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم بارك لأمتي في بكورها) رواه أبو داوود والترمذي والدارمى وغيرهم.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيشا بعثهم أول النهار.
وكان صخر تاجرا فكان يبعث تجارته من أول النهار فأثرى وكثر ماله.
قال ابن القيم: ومن المكروه عندهم اى السلف رحمهم الله النوم بين صلاة الصبح وطلوع الشمس فانه وقت غنيمة وللسير ذلك الوقت عند السالكين مزية عظيمة حتى لو ساروا طول الليل لم يسمحوا بالقعود عن السير ذلك الوقت حتى تطلع الشمس..
ـ فانه أول النهار ومفتاحه.
ـ ووقت نزول الأرزاق، وحصول القسم، وحلول البركة.
ـ ومنه ينشأ النهار.
ـ (وينسحب حكم جميعه على حكم تلك الحصة فينبغي أن يكون نومها كنوم المضطر) زاد المعاد 4/241.
ـ تعوده أن يبدأ يومه وكذلك كل عمل من أعماله الكبيرة من نقطة جمع وليس من نقطة تفرقة أقصد أن يجمع شتات قلبه ونفسه إن كان فردا وشتات أعوانه إن كانوا جماعة وفي هذا الجمع الهام يتفقد أحوال قلبه واستعداده النفسي للعمل ويؤكد على المعاني الهامة التي سيحتاجها في عمله هذا ويتمم على الأمور اللازمة قبل الشروع في العمل شأنه في ذلك شأن المسافر والمقاتل فكل عمل وكل مرحلة هي مسافة يقطعها الإنسان في طريقه إلى الله تحتاج إلى جمع الهمة .
لقد كان النبي صلى الله عليه وسام يحب أن يلتقي بجيشه قبل أن يخرج للقتال يتفقد أحوالهم ويوصيهم ويؤكد على بعض الأمور الهامة والمعاني الضرورية ثم يودعهم وينتظر حتى يمضوا وكان في هذا الجمع إمداد لهم بقوة معنوية تتدفق في قلوبهم فكذلك الإنسان خصوصا في عصرنا هذا الذي أصبحت الحياة اليومية فيه معركة وصراعا على أكثر من جبهة فلابد للعبد من هذه الجلسة التي يجمع فيها قلبه وروحه ونفسه وأعضاء مع أذكار الصباح قبل أن يبدأ كفاحه مع أساب الدنيا ومع الناس.
لابد أن يجمع قلبه قبل أن يدخل في التفرق والشتات.
لابد أن يجدد عهده مع الله قبل أن تفاجئه أحوال الدنيا وفتنها المعتادة بما ينسيه هذا العهد والميثاق.
لابد أن يجلس جلسة يمنح فيها القلب فرصته ويخلى سبيل الروح كي تنال نصيبا من سعادتها كماستنال كل الأعضاء نصيبها ولا سعادة للروح إلا في ذكر ربها ومحبته والقرب منه والاستئناس به من وحشة الخلق ومعاملتهم.
إنني بعد أن جربت العمل وهمومه ومشاكله وعشت التعامل مع الزملاء خيارهم وشرارهم والجمهور كذلك والرؤساء أدعو كل عامل وموظف ومحترف أن يبدأ يومه بأذكار الصباح بعد أن يصلى الفجر.. ولا يحرم نفسه من هذه الوجبة القلبية العظيمة أول النهار ولا يغفل أن يتأمل ويعيش مع الأذكار التي تداوى جراحه وهو بالتأكيد سيتأثر كثيرا وهو يقول (حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم) (أعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان وشركه وأن أقترف على نفسي سوءا أو أجره على مسلم) (ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها) (وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت) ولو تأمل كل الأذكار فسيعتقد أن هذه الأذكار ما شرعت إلا من أجله هو.
وإنني بعد أن جربت الإدارة وأعباءها وطوارئها وأزماتها أدعو كل مدير أعمال وأفراد أن لا يبدأ يومه قبل أن يتأمل أذكار الصباح ليجد فيها ما يعينه على إدارته ويلهمه رشده ويثبت أقدامه ويعافيه من المكايد والدسائس وأن ينتظر المساء لكي يغسل عن قلبه وروحه ركام يومه وما حدث فيه حتى يقبل على ليلته وهو جديد النفس.
إن القيادات الوسطي بالذات تحب أن تلتقي برؤسائها لعلها تجد لديهم نصيحة أو معلومة أو حلا لمشكلة أو بشرى خير وهذا الالتقاء المستمر والقرب من القيادة كثيرا ما يفيد ويميز المدير عن زملائه البعيدين عن قيادتهم فما بالك بعبد قريب من ربه يرجع أليه كل يوم قبل بداية يومه يسأله ويدعوه ويستعيذه ويستعينه ويجدد عهده معه ويستغفره مما مضى ويسأله التوفيق فيما هو آت؟؟!!
أذكر من أيام الجامعة أن الإخوة أعدوا معرضا صحفيا كبيرا استغرق في إعداده فترة وجهدا كبيرا فما إن انتهوا منه حتى طلبوا أن يعرضوه فورا ولكن الشيخ قال لا نعرض حتى نعتكف ليلة في المسجد يحضرها الجميع نتوسل إلى الله وتشاور فيما بيننا ونتواصى ونؤكد على كل ما تجب مراعاته في هذا الأمر الهام ثم ننطلق من هنا وقد كان ووفق الله هذا المعرض توفيقا عظيما في ظروف صعبة وامتدت فترة العرض أطول من المتوقع وصار مبدأ البداية من جمع وليس من تفرق معمولا به وكان هذا الشيخ يقول إنه تعلم هذا المبدأ من أذكار الصباح والمساء التي علمته أن يجمع قلبه قبل الدخول في العمل.
الاهتمام بالبداية بل وما قبل البداية وإحسانها وإحكامها لأن عليها تترتب بقية الخطوات.
الفاصل بين الأعمال والمراحل وبعضها فعدم وجود فاصل يؤدى إلى الخلط بين الأمور والخلط بين الأمور يضر الإنسان ضررا بالغا فهل تعلم أن من وسائل التعذيب أن لا يدرك الإنسان أفي ليل هو أم في نهار؟ ولذلك من أسباب الاكتئاب والله أعلم تذويب الفارق بين الليل والنهار وعدم الإذعان لفطرة الله الذي جعل (اللَّيْلَ سَكَناً) و(النَّهَارَ مَعَاشاً).
التدبر والتأمل والاستبصار والتذكر فيحيا المؤمن منتبها يقظان غير غافل أما المنافق فكما شبهه النبي صلى عليه وسلم بالبعير يعقله أهله ويطلقونه فلا يدرى فيم عقلوه ولا فيم أطلقوه.
التكرار والإعادة والتأكيد على بعض الأمور التي تحتاج إلى ذلك بلا ملل وخصوصا العقائد والمفاهيم والمبادئ الهامة.. إن هذا التكرار يرسخ المعاني قال تعالى (وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) وقد بلغ التكرار في بعض الأذكار كما تعلم مائة مرة إذ أن عددا كثيرا منها سيكفي فقط لمجرد تنبيه القلب واستحضاره قبل إن يبدأ تذكر المعاني الموجودة في الذهن وتمريرها على القلب و التأمل في المعنى، وتذوقه، ومحاولة الانتباه والوصول إلى معان جديدة موجودة في معنى الذكر ولكن القلب غافل عنها، ثم التأكيد بهذا التكرار على لوازم هذه المعاني وما توجبه على المتذكر، وهكذا تعلمنا الأذكار أن هناك من الأمور في حياتنا لا تكفي فيها مرة واحدة وخصوصا المبادئ التي نتربى عليها ونربى عليها أبناءنا.
المواظبة والمداومة على العمل الصالح والصبر على ذلك لأن الثمرة لا تجنى إلا بالمداومة ولا يدرك ذلك إلا من واظب على عمل ودأب عليه وعانى ذلك حتى اعتاد عليه ثم بدأ يجنى ثمرته كمثل بعض السلف الذي قال كابدت قيام الليل عشرين سنة ثم استمعت به عشرين سنة، وكمثل هؤلاء الذين يكابدون التعود على صلاة الفجر حتى يعتادوها ثم يصبح لها طعم يضطرهم إلى الخروج إليها وأنت تسمع كثيرا عن ظاهرة الشيخ المسن الذي يصر على الصلاة في المسجد ويحاولون منعه فلا يستطيعون ثم في مرة تنزل الملائكة ومعها اسمه فتجده حيث يحب.
وفي المكان الذي يتمنى كل مؤمن أن تصعد روحه منه إلى مولاه راكعا أو ساجدا في الصف يرجو رحمة ربه فهنيئا له ثمرة مواظبته مرتين ففي دنياه يجد راحته فيما واظب عليه رغم أنه ثقيل على غيره وفي آخرته يختم له على ما دأب عليه.
دأب النبي صلى الله عليه وسلم على الشفقة على أمته والنصح لهم كما دأب على الجهاد في سبيل الله فمات صلى الله عليه وسام وهو يوصى أمته وصايا هامة لازالت تنتفع بها وستظل كم رحل من الدنيا والجيش متأهب للجهاد في سبيل الله.
وواظب عمر على إمامة المسلمين فختم له وهو يؤمهم.
وواظب على رضي الله عنه على صلاة الفجر فختم له وهو في الطريق إلي المسجد.
وكان عثمان رضي الله عنه مواظبا على قراءة القرآن فختم له وهو يقرأه.
وكان الشيخ العسال رحمه الله محبا للدعوة مواظبا على الخطابة فمات على المنبر.
وكان الشيخ إبراهيم فشور رحمه الله مواظبا على مراجعة القرآن فمات وهو يراجعه ولما ثقلت عليه القراءة قال: اسمعوني سورة ق ففاضت روحه وهو يسمعها وغير هؤلاء كثير.. (الشيخ إبراهيم فشور أحد دعاة الجماعة الإسلامية وهو الذي أسس الدعوة الإسلامية في دمياط في الثمانينات)..
الاستغفار عقب العمل وفي نهاية كل مرحلة من الزمن ومن العمر وهذا الاستغفار يحمى الإنسان من الغرور من ناحية ومن ناحية أخرى ينبهه إلى أنه لم يصل بعد إلى الكمال ففي عمله ثغرات يجب أن ينتبه إليها في المرة القادمة فالاستغفار يدعو إلى التطوير وفي نفس الوقت يمنع اليأس والإحباط.
أذكار الصباح والمساء تربى في وجدان الإنسان ملكة التذوق والتأثر بالجمال خصوصا إذا تأمل ما حوله من الطبيعة ولذلك فهذه الأذكار تصفي النفس وتقوى العاطفة التي يفقدها البعض فيشقون ويشقون من حولهم ولكنها في نفس الوقت تنبه الإنسان إلى نوع من الجمال الحلال يتعلق به فيتسع إدراكه للجمال ومجالاته وأنواعه ولذلك فتدبر هذه الأذكار مع تأمل جمال الطبيعة هام جدا للشباب الذين ضيق الشيطان ومعه الإعلام أفقهم وحصر لهم الجمال كله في نوع واحد محظور أو بعيد المنال.
إن مرضا كالعشق مثلا يفيد فيه جدا تدبر هذه الأذكار في أحضان الطبيعة وما أمتع هذا الوقت الذي يتابع فيها الإنسان لحظات الشروق أو الغروب ويندمج مع السماء وهى تجدد حللها البهية وتغير ألوانها من لون الفضة إلى الذهب ومن زرقة السماء إلى حمرة الورد ومن منظرها المعتاد إلى تشكيلات وتقاطيع تأخذ العقل وتسمو بالروح وتسيل الدمع وتسجد القلب وتطلق اللسان (سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم) فهنا يتسع قلب العاشق لإدراك جمال جديد تتمتع به روحه غير جمال إنسانه الذي ظلم روحه عندما حبسها في مربع ضيق هو جمال محبوبه وحده.
إن مرضا كالوسواس في العقائد مثلا (وهو يصيب الشباب) يفيد فيه جدا إطلاق البصر وإطلاع القلب على مشاهد الكون التي تتجدد في روعة بالغة أثناء الشروق والغروب فهو على الأقل يريح الأعصاب من الإرهاق الشديد والعناء الذي يعترى كل موسوس.
وهو ثانيا يخرج الإنسان من التعقيدات التي يلقيها إليه الشيطان وهو يجادله في إيمانه بالله إلى بساطة التوحيد الفطري الذي تفرح الروح عندما تشاهد أدلته في الطبيعة بعيدا عن الجدال وحتى الاجتهاد وقد جربت ذلك عندما أوصاني به العالم الجليل أستاذ تفسير الذكر (القرآن) الدكتور/عمر عبد الرحمن فرج الله كربته ونفع بعلمه المسلمين.
وإلى هنا نكتفي بهذا القدر من الإشارة فقط إلى أن في أذكار الصباح وحدها من التربية والتنمية الكثير الذي يستحق البحث والدراسة نحن في حاجة إلى العمل به كأفراد ومجتمعات وأحب أن أنوه إلى أن ما جاء في مقالي من أثر على التنمية لم يكن مقصودا وإنما جاء بالمناسبة ولو تناول أحد الدارسين هذا الموضوع في دراسة لوجدها واسعة فما بالك لو أفرد لكل عمل من أعمال الإيمان دراسة؟؟!!
وختاما أسال الله تعالى أن يمتعني وقارئي العزيز بذكره وأن يجعل مقالي هذا خالصا لوجهه الكريم.
ساحة النقاش