علي الديناري

موقع دعوي يشمل نسمات من القرأن وشروح بعض الأحاديث ومدرسة الدعوةأسرة المسلمة والفكر والقضايا المعاصرة


قطوف من بستان الفوائد لابن القيم

اقتطفها على الدينارى

أعظم ما يحبب المؤمن في القرآن أنه يجد فيه دائما ً حاجته وشفاء جراحه أيا كانت؛ فما من حال يمر بك فتلجأ إلى القرآن إلا وتجده يحدثك عن همك وكأنه لم ينزل إلا لأجل حالك هذا!!

ومن العلماء من استنار بنور القرآن ففاض عليه وعلى كلماته ومؤلفاته فكان كذلك.. وكانت مؤلفه كالبستان لا تمل زيارته، ولا تعدم أبدا ً إذا زرته من جمال يناسب حالك.

ومن هؤلاء الإمام ابن القيم الذي تحن دائما ً إلى حكمه ومقالاته في مثل هذه الأيام المباركة بما فيها من صيام وقيام وقرآن وزكاة واعتكاف.

إننا بحاجة إلى بعض المعاني المقتبسة من نور القرآن تهيئ القلوب وتحدو النفوس.. فلنتنسم سويا ً نسمات من كتاب الفوائد لابن القيم ولنمتع القلوب ببعض قطوفه:

هموم الدنيا وعذاباتها

في الحديث: (من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له).

ومن أبلغ العذاب في الدنيا: تشتيت الشمل وتفريق القلب وكون الفقر نصب عيني العبد لا يفارقه ولولا سكرة عشاق الدنيا بحبها لاستغاثوا من هذا العذاب وفي الترمذي أيضا عن النبي قال:

يقول الله تبارك وتعالى: "ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك وإن لا تفعل ملأت يديك شغلا ولم أسد فقرك".

وهذا أيضا من أنواع العذاب.. وهو اشتغال القلب والبدن بتحمل أنكاد الدنيا ومحاربة أهلها إياه ومقاساة معاداتهم كما قال بعض السلف: من أحب الدنيا فليوطن نفسه على تحمل المصائب.

ومحب الدنيا لا ينفك من ثلاث: هم لازم، وتعب دائم، وحسرة لا تنقضي.

وذلك أن محبها لا ينال منها شيئا إلا طمحت نفسه إلى ما فوقه كما في الحديث الصحيح (لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى لهما ثالثا).

وقد مثل عيسى بن مريم عليه السلام: محب الدنيا بشارب الخمر كلما ازداد شربا ازداد عطشا ً.

سجن الروح

خلق بدن آدم من الأرض وروحه من ملكوت السماء,فإذا أجاع بدنه وأسهره (في طاعة الله) وجدت روحه خفة وراحة, فتاقت إلى الموضع الذي خلقت منه, واشتاقت إلى عالمها العلوي.

وإذا أشبعه ونعّمه ونومه واشتغل بخدمته وراحته, أخلد البدن إلى الموضع الذي خلق منه, فانجذبت الروح معه, فصارت في السجن, فلولا أنها ألفت السجن لاستغاثت من ألم مفارقتها وانقطاعها عن عالمها الذي خلقت منه كما يستغيث المعذّب.

شقاء البدن أهون من شقاء الروح

أشق البدن بنعيم الروح ولا تشق الروح بنعيم البدن, فان نعيم الروح وشقاءها أدوم وأعظم, ونعيم البدن وشقاءه أقصر وأهون, والله المستعان.

تجويع القلب

يحذرنا ابن القيم من إهمال تغذية القلب بالذكر وتحميله الهموم فيقول:

"إذا حملت على القلب هموم الدنيا وأثقالها, وتهاونت بأوراده التي هي قوته وحياته, كنت كالمسافر الذي يحمل دابته فوق طاقتها ولا يوفيها علفها, فما أسرع ما تقف به".

قدرك عند الله

ويلمح إلى دلالة مقلقة لمن لم يكن له شاغل من شواغل الآخرة فيقول:

"من أراد من العمال أن يعرف قدره عند السلطان فلينظر ماذا يوليه من العمل وبأي شغل يشغله.؟؟!!!

كن من أبناء الآخرة ولا تكن من أبناء الدنيا.. فإن الوليد يتبع الأم!

لو عرفت قدر نفسك عندنا ما أهنتها بالمعاصي.

إنما أبعدنا إبليس إذ لم يسجد لك وأنت في صلب أبيك, فوا عجبا كيف صالحته وتركتنا؟!".

أدرك السوق قبل أن ينفض

ويرغب ابن القيم في الاهتمام بهذه الأيام وإعطاء هذه الفرصة حقها قبل أن تضيع فيقول:

"اشتر نفسك اليوم, فان السوق قائمة, والثمن موجود, والبضائع رخيصة, وسيأتي على تلك البضائع يوم لا تصل فيه إلى قليل ولا كثير "ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ" (التغابن 9) "وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ" (الفرقان 27).

إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى         وأبصرت يوم الحشر من قد تزودا

ندمت على أن لا تكون   كمثله         وأنك لم ترصد كما كان أرصـــــدا

اللجوء إلى الحصن

فهذه الأيام هي الحصن من سطوة الدنيا المسيطرة:

"لما رأى المتيقظون سطوة الدنيا بأهلها, وخداع الأمل لأربابه, وتملك الشيطان قياد النفوس, ورأوا الدولة للنفس الأمارة, لجأوا إلى حصن التضرّع والالتجاء, كما يأوي العبد المذعور إلى حرم سيده".

عكوف القلب

وفرصتنا في هذه الأيام في العكوف على الطاعة حتى تنيب قلوبنا إلى الله وترجع من شتاتها الطويل وأسفارها البعيدة في مطالب الدنيا قبل أن تستعبدها:

"الإنابة هي عكوف القلب على الله عز وجل كاعتكاف البدن في المسجد لا يفارقه.

وحقيقة ذلك عكوف القلب على محبّته, وذكره بالإجلال والتعظيم.

وعكوف الجوارح على طاعته, بالإخلاص له, والمتابعة لرسوله (صلى الله عليه وسلم), ومن لم يعكف قلبه على الله وحده, عكف على التماثيل المتنوعة, كما قال إمام الحنفاء لقومه: "مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ" آل عمران67.

والتماثيل جمع تمثال, وهي الصور الممثلة.. فتعلق القلب بغير الله, واشتغاله به, والركون إليه, عكوف منه على التمائيل التي قامت بقلبه, فإذا كان في القلب تماثيل قد ملكته واستعبدته بحيث يكون عاكفا عليها, فهو نظير عكوف الأصنام عليها, ولهذا سمّاه النبي (صلى الله عليه وسلم عبدا لها ودعا عليه بالتعس والنكس فقال:

"تعس عبد الدينار, تعس عبد الدرهم, تعس وانتكس وماذا شيك فلا انتقش"

هجر العوائد وقطع العلائق

ويخشى ابن القيم على القلوب من الارتباط بالعوائد والتعلق بالعلائق إلى درجة تقطع العبد عن طاعته لربه فلا يصل إلى غايته فيقول:

"الوصول إلى المطلوب موقوف على هجر العوائد وقطع العوائق.. فالعوائد السكون إلى الدعة والراحة وما ألفه الناس واعتادوه من الرسوم والأوضاع التي جعلوها بمنزلة الشرع المتّبع, بل هي عندهم أعظم من الشرع.. ونصبوها أندادا للرسول صلى الله عليه وسلم يوالون عليها ويعادون.. فالمعروف عندهم ما وافقها والمنكر ما خالفها".

وأما العلائق.. فهي كل ما تعلق به القلب دون الله ورسوله من ملاذ الدنيا وشهواتها ورئاستها وصحبة الناس والتعلق بهم, ولا سبيل له إلى قطع هذه الأمور الثلاثة ورفضها إلا بقوة التعلق بالمطلب الأعلى والتعلق بالمطلوب هو شدة الرغبة فيه.

نتاج الشهوة وعقابها

والصبر عن الشهوة مر لكنه أسهل من الصبر على نتائجها يقول الإمام:

"الصبر عن الشهوة أسهل من الصبر على ما توجبه الشهوة, فإنها:

إما أن توجب ألما وعقوبة.

وإما أن تقطع لذة أكمل منها.

وإما أن تضيع وقتا إضاعته حسرة وندامة.

وإما أن تلثم عرضا ً توفيره أنفع للعبد من ثلمه.

وإما أن تذهب مالا ً بقاؤه خير له من ذهابه.

وإما أن تضع قدرا ً وجاها ً قيامه خير وضعه.

وإما أن تسلب نعمة بقاؤها ألذ وأطيب من قضاء الشهوة.

وإما أن تطرق لوضيع إليك طريقا لم يك يجدها قبل ذلك.

وإما أن تجلب هما وغما وحزنا وخوفا لا يقارب لذة الشهوة.

وإما أن تنسي علما ذكره ألذ من نيل الشهوة.

وإما أن تشمت عدوا ً وتحزن وليا ً.

وإما أن تقطع الطريق على نعمة مقبلة.

وإما أن تحدث عيبا ً يبقى صفة لا تزول".

الشهوات حجاب

القلوب المتعلقة بالشهوات محجوبة عن الله بقدر تعلقها بها.

العوض عن الشهوات

(من ترك لله شيئا عوضه الله خيرا منه).

والعوض أنواع مختلفة, وأجلّ ما يعوض به الأنس بالله ومحبته, وطمأنينة القلب به, وقوته ونشاطه وفرحه ورضاه عن ربه تعالى.

لنا الله ونسأله السلامة

وابن القيم يواسينا يا أخي فيما نحن فيه كما يدلنا على الحل فيقول:

"كيف يسلم (بفتح الياء) من له زوجة لا ترحمه, وولد لا يعذره, وجار لا يأمنه, وصاحب لا ينصحه, وشريك لا ينصفه, وعدو لا ينام عن معاداته, ونفس أمارة بالسوء, ودنيا متزيّنة, وهوى مرد, وشهوة غالبة له, وغضب قاهر, وشيطان مزين, وضعف مستول عليه.

فإن تولاه الله وجذبه إليه انقهرت له هذه كلها, وإن تخلى عنه ووكله إلى نفسه اجتمعت عليه فكانت الهلكة".

اللهم أنت أعلم بضعفنا فتولنا وأنت أعلم بنفوسنا فلا تكلنا إليها فإنك إن وكلتنا إليها وكلتنا إلى عجز وخطيئة وعورة فضعنا وهلكنا.

العقبات تزيد المؤمن قوة

ويطمئننا ابن القيم عن عاقبة القواطع التي تكاثرت علينا فيقول:

"القواطع محن يتبين بها الصادق من الكاذب, فإذا خضتها انقلبت أعوانا لك توصلك إلى المقصود.

من خلقه الله للجنّة لم تزل هداياها تأتيه من المكارة, ومن خلقه الله للنار لم تزل هداياها تأتيه من الشهوات.

من تلمح حلاوة العافية هانت عليه مرارة الصبر".

لا تيأس

ويقول ابن القيم:

"لا تسأم الوقوف على الباب (أي باللجوء إلى الله) ولو طردت,

ولا تقطع الاعتذار (أي التوبة والاستغفار) ولو رددت.

فإن فتح الباب للمقبولين دونك فاهجم هجوم الكذابين (أي فأكثر توبتك وطلب العفو).

وادخل دخول الطفيلية (غير المدعوين).

وابسط كف "وتصدّق علينا" (أي كف الذل لله).

أعرف قدر ما ضاع منك وابك بكاء من يدري مقدار الفائت".

متى المستراح؟!

وإذا كنت تشعر أنك في مجاهدة دائمة للحفاظ على دينك فهذا أمر طبيعي:

"ليس للعابد مستراح إلا تحت شجرة طوبى, ولا للمحب قرار إلا يوم المزيد".

شروط الانتفاع بالقرآن

ويوصينا ابن القيم بعدة أمور أولها القرآن وحتى ننتفع بتلاوته فلنستمع إلى نصيحته:

"إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه, وألق سمعك, واحضر حضور من يخاطبه به من تكلّم به سبحانه منه إليه, فإنّه خطاب منه لك, على لسان رسوله, قال تعالى: "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ" (سورة ق 37).

أهمية الخلوة

ويوصينا ابن القيم بالخلوة والقرب من الله:

"المخلوق إذا خفته استوحشت منه وهربت منه, والرب تعالى إذا خفته أنست به وقربت إليه.

غرس الخلوة يثمر الأنس.

إذا اجتمع العقل واليقين في بيت العزلة,واستحضر الفكر وجرت بينهم مناجاة:

أتاك حديث لا يمل سماعـــــه               شهى إلينا نثره ونظامــــــــــه

إذا ذاكرته النفس زال عناؤها              وزال عن القلب المعنى ظلامه

استوحش مما لا يدوم معك, واستأنس بمن لا يفارقك.

لو استنشقت ريح الأسحار لأفاق منك قلبك المخمور. 

المحب يهرب إلى العزلة والخلوة بمحبوبه والأنس بذكره كهرب الحوت إلى الماء والطفل إلى أمه.

وأخرج من بين البيوت لعلني     أحدث عنك القلب بالسر خاليا

الشوق إلى الله ولقائه نسيم يهب على القلب يروح عنه وهج الدنيا".

مواساة المحتاجين عبادة

كما أن هذه الأيام أيام مواساة ولم يحرم الله أحدا ً من شيء يواسى به:

"المواساة للمؤمنين أنواع: مواساة بالمال, ومواساة بالجاه, ومواساة بالبدن والخدمة, ومواساة بالنصيحة والإرشاد, ومواساة بالدعاء والاستغفار لهم, ومواساة بالتوجع لهم. وعلى قدر الإيمان تكون هذه المواساة.

فكلما ضعف الإيمان ضعفت المواساة, وكلما قوى قويت, وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أعظم مواساة لأصحابه بذلك كله, فلأتباعه من المواساة بحسب إتباعهم له".

حرمان الدنيا والآخرة

"البخيل فقير لا يؤجر على فقره".

وإلى هنا انتهت جولتنا في بستان الإمام ابن القيم الذي سماه كتاب الفوائد نفعنا الله بها.. ورحم الله الإمام وجزاه عنا خيرا ً

المصدر: موقع الجماعة الاسلامية
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 157 مشاهدة
نشرت فى 11 نوفمبر 2013 بواسطة denary

ساحة النقاش

على الدينارى

denary
موقع خاص بالدعوة الى الله على منهج أهل السنة والجماعة يشمل الدعوة والرسائل الإيمانية والأسرة المسلمة وحياة القلوب »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

348,317