إن الفرق بين قصة الومضة والقصة القصيرة المعهودة هي كلمة "جدا" (القصة القصيرة جدا)وهذه اللفظة تحيلنا على تصنيف نوعي يجعل لقصة الومضة حدودا ومقومات خاصة تميزها عن القصة القصيرة رغم اشتراكهما في العناصر ذاتها :المكان , الزمان, الشخصية , الحدث, المعنى.
ويعجبني ما قاله عمران أحمد حول القصة القصيرة جداً فهي " قصة الحذف الفني, والاقتصاد الدلالي الموجز , وإزالة العوائق اللغوية والحشو الوصفي ... والحال هذه أن يكون داخل القصة شديد الامتلاء , وكل ما فيها حدثاً وحواراً وشخصيات وخيالاً من النوع العالي التركيز, بحيث يتولد منها نص صغير حجماً لكن كبير فعلاً كالرصاصة وصرخة الولادة وكلمة الحق ".
وإحدى الحقائق المهمة التي ينبغي أن نفطن إليها هو أن القصة القصيرة جداً (القصة الومضة) جنس أدبي ممتع، ولكن يصعب تأليفه , كما يقول هارفي ستابرو. ولذا فإن كثيرًا من النصوص التي تكتب باختزال واقتضاب ويُظن أنها قصة ومضة, لا يعد من قبيل قصة الومضة. ولذا أكد د. فايز الداية أن يكون المسهم في هذا اللون القصصي متمكناً في الأصل من الأداء اللغوي والفني ومن أساليب السرد , وعنده رؤى يقدمها في الحياة وفي المجتمع وفي جوانب الفكر والسياسة وما إلى ذلك.
وهذا الارتباك في كتابة قصة الومضة يوازيه ارتباك في الرؤية النقدية لدى كثير من النقاد أيضا , إلى حد جعل الناقد ياسر قبيلات يذهب إلى أنها تبدو محيرة وملتبسة , تكاد لا تجد تقعيدها الحقيقي , في قائمة الأنواع الأدبية إلا بصفتها عنوانا جديدا يضاف إلى فهرست التباس الأنواع الأدبية.
فما هي مقومات قصة الومضة التي اشترطها النقاد؟
كيف تكتب قصة الومضة الناجحة؟
إن القصة القصيرة جداً والمتميزة بإبداعٍ وتقانة تنهض على أربعة مقومات رئيسة هي:
1- التكثيف والتركيز :
أي الاقتصاد في الكلمات والاكتفاء بالقليل منها مما يفي بالغرض. فقصة الومضة مكثفة جدًا , وخالية من الزوائد والحشو الوصفي والاستطرادات والانثيالات الواعية وغير الواعية ، إضافةً إلى تركيزها على خط قصصي هام يتمثل في النقاط والكلمات التي توصل إلى الموقف. ورصدها بمهارة شديدة حالات إنسانية شديدة الصدق. ويشبه خليل خلف سويحل التكثيف بـ" قطرة عطر فواحة".
وقد أسدى هارفي ستانبرو في مقاله"اكتب قصة قصيرة جدا" عدة نصائح تمكن الكاتب من تكثيف لغته , وتخليصها من الترهل:
1- استعمل أفعال الحركة والاختصارات وتجنب استعمال الصفات والظروف
كما في أية قصة.
2- استخدم أفعال الحركة القوية حيثما يكون ذلك ممكناً(لجأ , مشى , تذكر), وقلل من استخدام أفعال الوصل(الأفعال الناقصة) مثل: صار ويبدو والفعل الدال على الكينونة, أو لا تستخدمها أبدا. وعندما تستخدم أفعال الحركة فسوف تسقط الصفات والظروف وحدها. وإن استخدمت أيـًّا من هذه الصفات فليكن ذلك لتلوين عمل ما، أو مشهد ما، أو شخصية ما.والاختصارات أمور رئيسة. تذكر أن القصة القصيرة جداً تدريب على الاقتصاد بالكلمات.
3- استخدم الحوار بدل السرد:لأن الحوار يجعل القارئ شخصية في القصة ـ كمسترق للسمع ـ فإنه يشغل القراء مباشرة، ويمكنهم من معرفة ما يجري من الشخصيات مباشرة، بدلاً من أن يقوم شخص آخر من خارج القصة (الراوي) بنقل ذلك. وحيث إن الأمر متعلق بالاقتصاد في الكلام ، فإن الحوار بصورة عامة أكثر جدوى من السرد بالنسبة إلى الإيحاء والتلميح والغمز من قناة الأشخاص. وينبه هارفي ستانبرو إلى أن هذه المقترحات مجرد دليل , لأن قصة الومضة قد تبنى كاملة على السرد وتكون جيدة.
4- تجنب إخبار القارئ بكل شيء، واستخدم التلميح أو الغمز وثق بأنّ القارئ يرى المشهد.
ويجدر بالكاتب ألا يتورط بدعوى التكثيف في خطأ تغييب البطل "فغياب البطل غياباً تاماً يقرب القصة من جو الخاطرة, فالبطل هو "حامل للحدث والفعل والكثير من الأوصاف في القصة, وغيابه يعني تقليلاً من قيمة القصة كفن. ويخطئ من يحاول الابتكار من خلال إلغائه البطولة والتحرك في جو من تراكم الوصف دون التقدم إلى الأمام...ومشكلة النماذج الجديدة أنها تغزل كثيراً على التكثيف حد الوقوع في إشكالية اللعب وتجاوز القص إلى الافتعال. يأتي هذا من باب ابتداع الإيجاز كغاية لا كوسيلة".
2- الإيحـاء :
يفضي التكثيف الناجح إلى لغة مشعة بالإيحاءات والدلالات فتكون رشيقة في إيصال المعنى والمضمون.والإيحاء هو "أن تجعل قارئك يعرف ما تتحدث عنه ـ أو أن تقوده إلى الاعتقاد بأنه يعرف عما تتحدث، من دون إعلامه ذلك بصورة مباشرة. وكلما جعلت قارئك يستنتج، زاد انشغاله بقصتك". إن الإيحاء هو عكس المباشرة والتقريرية , وعلى الكاتب ألا يسلك بلغته - في سبيل الإيحاء- التنميقَ الأسلوبي المفتعل .
3-المفارقة: وتعني "في أبسط صورها القصصية: جريان حدث بصورة عفوية على حساب حدث آخر هو المقصود في النهاية، أو هي تعرّف الشخصية تعرّف الجاهل بحقيقة ما يدور حوله من أمور متناقضة لوضعها الحقيقي، فالمفارقة هنا درامية، والمفارقة عمومًا صيغة بلاغية تعني: قول المرء نقيض ما يعنيه لتأكيد المدح بما يشبه الذم، وتأكيد الذم بما يشبه المدح.
وفي القصة القصيرة جداً لعبة فنية أو تقنية قصصية لا غاية لها إلاّ الخروج على السّرد، وهو خروج يبعث على الإثارة والتشويق" الذي يتحقق من ثنائية المفارقة التي من الممكن أن تحمل أبعاد التقابل أو التضاد، الرفض أو القبول، الواقعي وغير الواقعي المؤمل أو المتخيل.
إن المفارقة خلاصة موازنة ومقارنة بين حالتين يقدّمهما الكاتب من تضاد واختلاف يُلفتان النظر، وليس بالضرورة أن يكون ذلك معلناً، بل يمكن أن يُستشف من النص، وهذه الثنائيات في صورة ما معطى لغوي، حمل دلالات في الموقف والمضمون، ولذا فإنّ مثل هذه الثنائيات قد تُضحكنا من جهة، لكنها تنغرز في جدران أرواحنا تحريضاً من جهة أخرى. والمفارقة تزيد إحساسنا بالأمر، إنها تُسهم في تعميق فهمنا للأمور وإيصالها بطريقة إيحائية أجدى من الطريقة المباشرة.
4- الخاتمة المدهشة : وتشكل في قصة الومضة الغاية والهدف، ولذلك فهي تختلف عن أساليب الخاتمة في القصة القصيرة التي من الممكن أن تكون واضحة، أو مرمزة، أو مفتوحة على احتمالات كثيرة، أما في القصة القصيرة جداً فإن الخاتمة فيها ليست وليدة السرد، أو إحدى مفرزاته، كما أنها ليست معنية بالمضمون الذي من الممكن أن يفرض خاتمة ما، بل هي الحامل الأقوى لعناصر القصة القصيرة جداً، فهي قفزة من داخل النص المتحفز إلى خارجه الإدهاشي والاستفزازي فهي "مجلى النص في داله ومدلوله ويتوشج كلاهما دون أن يحاول أحدهما تعويم الآخر، أو الإساءة إليه أو تقزيمه" .وعلى الرغم من الإيجاز في القصة القصيرة جداً فإنها ليست مجرد مقدمة لقصة أطول،ولابد أن يشعر القارئ بالرضا عن النهاية؛ فلا يتساءل وماذا بعد؟ مهم جدا في القصة الومضة ألا يترك القارئ منتظرًا المزيد.
إن قصة الومضة لا يهمها الانشغال كثيرًا بالحدث والأحداث بقدر ما يهمّها أن تؤدي غرضها الفني في أن تبرق وتشع داخل النص القصصي أولاً ، ثم في داخل وجدان المتلقي ثانياً . وإذا ما توافرت على هذه الشروط وهي : التركيز والتكثيف والاقتصاد في الكلمات والموحيات والدلالات, ومعها المفاجأة الصادمة التي تصل حدّ الإثارة وتحفيز مخيلة القارئ وهواجسه تجاه ما يقرأ ويتفاعل معه وينفعل به , فهي قصة ومضة بامتياز.
# # #
المصدر: منقول عن جسد الثقافة ..
شيفرة دافنشي
نشرت فى 13 إبريل 2016
بواسطة dalalbilal
خديجة قرشي
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
18,866