وجدت أمى فى صحن الدار عاكفة على كنسه بالمقشة البلح، لابد أنها المرة العاشرة منذ صبحية ربنا التى تكنس فيها صحن الدار، فهذا الصحن كما تردد على مسامعنا دائماً هو مرآة الدار، سألتنى لما رأتنى: «اتأخرت ليه يا مضروب؟ دا الكتّاب زمانه قافل بقى له ساعتين؟» ثم تصدت للرد بنفسها على سؤالها قائلة: «تلاقيك كنت بتلعب فى الشارع مع الموكوسين اللى زيك! ما أنا عارفة اللعب فى الشوارع غية عندك»
- «وأنا هارجع الدار بدرى أعمل ايه؟»
- «تعمل ايه؟ كان زمانى بعتك تقضى لى مصلحة بدل ما أنا لايصة لوحدى ومش لاقية حد ابعته»
- «كنت بعتى حد من أخواتى، هوه مفيش إلا أنا تبعتيه مشاوريك اللى ما بتخلصش دى»
- «أخواتك البنات؟! ولا أخواتك اللى بيشتغلوا مع أبوك فى الغيط؟»
- «يوووه بقى أنا جاى تعبان من الكتّاب، مش ناقص تزهقى فيا اكتر ما انا زهقان!»
- «وحفظت يعنى حاجة النهارده فى الكتّاب؟»
- «ايوه حفظت ومقرئ الكتاب سمع لى»
- «مالك ابن فوزية! أصل أنا موصياه عليك من الصبح»
- «ما أنا عارف ياامه انك موصياه بامارة العلقة اللى ختها على ايديه بسببك»
- «بسببى أنا والاّ تلاقيك عملت عملة هباب زى عوايدك؟ ما أنا عرفاك وحفظاك»
لم أرد عليها هذه المرة وسرت إلى الغرفة التى أنام فيها مع أخوتى إلا أن أمى قالت قبل أن أصل إلى بابها وافتحه.
- «أسخن لك شوية المعمّر اللى جوه تاكلهم؟»
- «لأ! أنا داخل أنام ومفيش حد يصحينى ولو حتى السما انطبقت على الأرض»
- «يا واد المعمّر اللى انت بتحبه، دا أنا شيلاهولك من امبارح دوناً عن اخواتك عشان تتغذى وتعرف تحفظ فى الكتّاب كويس».
التفت إليها قائلاً: «معدتش حافظ، ومعدتش رايح الكتّاب من أصله».
لم انتظر منها رداً ودخلت الحجرة ورزعت الباب ورائى، هكذا هى أمى ما إن ترانى حتى لا تتوقف عن استفزازى دوناً عن أخوتى الذين أدعوا انها تحبنى أكثر منهم والسبب عندهم هى طريقة تعاملها وكلامها معى تلك.. ألقيت بنفسى على السرير وظننت أنى سأغيب فى جياهب النوم فور أن أضع رأسى على المخدة (التى بز القطن من الثقوب المتعددة فيها) بسبب التعب الذى حل على طيلة اليوم إلا أننى لم أنم، هبت على رأسى كلمات خادم المقام عن المصير المحتوم لصديقى عمار ومصيرى أيضا المرتبط به، فمازلت أذكر ما رأيته فى منامى وأنا فى المقام وكيف أن الخادم الشيخ عطوة أيقظنى فى تلك اللحظة التى همّ فيها عدو مولانا أبى غنام بأن يكشف لى عن وجهه، صحيح أننى لم أر وجهه ولكنى نظرت إلى عينيه فلابد إذاً أن يلحقنى شيىء من آذاه. حدثتنى نفسى «لابد أن أفعل شيئاً ما لانقاذه» قمت مرة أخرى وخرجت من الغرفة فوجدت أمى فى وجهى حاملة طاجن المعمّر (الذى) يتصاعد منه البخار: «اقعد بقى علشان تاكل، انا سخنت لك المعمّر اهوه!» قالت وهى تبتسم لى، فجلست على الأرض ووضعت الطاجن بين يديى فأكلت حتى وصلت إلى قعر الطاجن المحروق فأجهزت عليه، إذ أن هذا القعر هو أكثر ما أحب من المعمر، يبدو أن أمى قد شالته لى لعلمها بذلك، خرجت بعدها قاصداً الجامع فوجدت هناك خيامًا أخرى قد أقيمت بجوار الخيمة السابقة، كما وجدت عربات النقل المملؤة بالغرباء عن البلدة والمحملة بخيامهم وأعلامهم وراياتهم وقد عكفت كل فرقة على تفريغ حمولة العربة والإعداد لضرب الخيام، دخلت إلى المقام فرأيت خادمه متعلقاً بقضبانه النحاسية ويتمتم بكلمات لم أفهم منها شيئاً سوى كلمة (مدد! مدد!) التى على بها صوته بين الوقت والآخر، فلما انتهى نظر إلى فى مكانى وكأنه أدرك من بادئ الأمر أنى كنت واقفًا، سألته:
«ازاى انقذ عمّار صاحبى ياشيخ عطوة؟»
«لو أنقذته هتروح مكانه، اختار لأنت لاهوه!»
«هوه مترصدنا يعنى ياشيخ؟»
«مش انتوا اللى جيتو له برجليكو»
«احنا جينا للمقام وصاحب المقام، ايه عرفنا ان له عدو وان العدو ده بيقتل العيال اللى زينا»
«جيتوا لقدركم يا ابنى، والقدر ما فيه منه مهرب».
«انت ياشيخ ماتعرفش عمّار صاحبى واللى يقدر يعمله، أنا متأكد إنه هيهزم عدو ابو غنام لو قابله فى أى مكان»
«بس اللى متعرفوش ان ده مفيش حد من البشر يقدر يغلبه»
«ليه ياشيخ عطوة هوه يطلع إيه؟»
«هوه أصله لا أنسى ولا جان، أبوه أنسى وأمه من الجآن»
«وتيجى ازاى دى ياشيخ عطوة؟»
«أصل أبوه لافت عليه جنيّة واتوزجته وخلفت منه، بس ملك الجآن طردها هى وابنها لما عرف الخبر»
«وعاشوا فين بعد كده؟»
«عاشت مع جوزها الأنسى فى بيته، البيت اللى على جدا بيت صاحبك من الناحية القبلية».
«آه! قصدك على البيت المقفول على طول ده؟»
«ايوه هوه ده»
«بس ازاى عاشت الجنيّة فى البيت وسط البشر»
«ما هو ما كانش حد يعرف عنها ولا عن ابنها أى حاجة، جوزها بس كان بيطلع ويخرج ولما كان حد يخبط على الباب كانت تجرى تستخبى مع ابنها فى الفرن اللى كان يقعد مولع صبح وليل»
«انا شفت الفرن ده ياشيخ لما دخلت مع عمار البيت المهجور»
«دخلتوا البيت لوحدكو؟»
«ايوه ياشيخ عطوة! وكمان عمّار قال لى ساعتها إن جده هوه اللى طرد صاحب الدار دى».
«الظاهر ان صحبك يعرف حاجات كتيرة، ومش كل حاجة لازم الواحد يعرفها، ومش كل بيت لازم الواحد يخشه، بالذات لو كان مهجور يا ابنى»
«اشمعنى البيت المهجور بالذات ياشيخ عطوة؟»
«علشان بيبقى مسكون»
«بس اللى محيرنى ازاى عرف جد عمار ساعتها إن الجنيّة عايشة فى الدار دى مع ابنها؟»
«ما هو ابنها لما كبر كان بيخطف العيال وياكلهم لدرجة ان مرات جدك كانت كل ما تخلف يخطف الجنى ابنها، علشان كده ماكانش بيعيش له عيال»
«وعمل ايه جد عمار؟»
«جالى فى يوم ودخلته على أبو غنام فى قبره وقعد يشكى له همه، وفى ليلة والبلد كلتها نايمة وما كانش حد صاحى غيرى أنا والحآج احمد لقينا مولانا أبو غنام جاى فوق حصانه الأبيض وماسك سيفه اللى بطول المدنة وهجم على الدار وقتل أبو العفريت الأنسى وقتل أمه الجنيّة، بس العفريت هرب ساعتها بسبب أمه اللى قعدت تحارب مولانا الليل بطوله وكانت تبخ فيه النار من بقها عشان تحرقه وتحرقنا فيفرد عبايته الخضرا ويصد بيها النار عنه وعنا، وبعدين وقفت تصرخ فى وشه صريخ ما سمعتش أبداً زيه وطلعت ضوافرها، كل ضافر بطول الراجل فينا وحاولت تغرزهم فى جسم مولانا ابو غنام بس هوه طيرهم بضربة واحدة من سيفه، وفى آخر الليل قضى عليها ونصها جوه الفرن ونصها التانى براه وبكده سدت الطريق و ماعرفش مولانا يوصل لابنها اللى لحق يهرب قبل ما مولانا يخلص عليه، ومن يومها ياجى فى نفس الميعاد ويخطف له عيل أو عيلين من أهل البلد»
«قصدك إن العفريت بيخطف العيال عشان ينتقم لأمه وأبوه؟»
«ايوه يا ابنى»
«بس أنا شفت فى المنام مولانا ابو غنام وهوه بيحاربه، يبقى ازاى ياخد عمار والاّ ياخدنى من غير ما مولانا يتصدى له ويمنعه؟»
«ما هوه ما بيظهرش من تحت الأرض إلا فجأة يخطف العيل فى لمح البصر قبل ما مولانا ياخد خبر والاّ يتمكن منه »
«ومولانا بيبقى فين ساعتها؟»
«بيبقى مشغول»
«مشغول فى إيه ياشيخ عطوة؟»
أدار لى ظهره وسار مبتعدًا دون أن يجيب على سؤالى مكتفيًا بقوله «مش كل حاجة الواحد لازم يسأل عنها»
عمرو زين
نشرت فى 5 إبريل 2016
بواسطة chichkhane1947
أقلام مبدعة
تهتم مجلة أقلام مبدعة بنشر ما تراه صالحا من انتاج أعضاء مجموعة ملتقى الأقلام و الإبداع بقابس و ما يتبعها من مواقع أدبية ولك تشجيعا لهم و تحفيزهم لمواصلة الكتابة و الإبداع خدمة للأدب العربي و لغة الضاد كما نعمل على تشجيع الأقلام الناشئة و اكسابها الثقة في النفس. »
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
41,890
ساحة النقاش