مصرنا الحبيبة

الماضي والحاضر والمستقبل

العام الهجري الجديد.. فرصة المسلم لمراجعة أدائه

 

يجدر بكل مسلم مع بداية أيام العام الهجري الجديد أن يقف مع نفسه، ليرى كيف كانت علاقته بربه، وبكتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبمن حوله خلال العام الماضي، يقف وقفة محاسبة مع النفس يعقد خلالها العزم على أن يكون في هذا العام أكثر طاعة وقربا لله- عز وجل - وإتباعا لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، يسعى لعمل كل ما فيه الخير لدنياه وآخرته يحاسب نفسه قبل أن يحاسب

هذا ما حثنا عليه المولى عز وجل في كتابه الحكيم، وأوصنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم  وهكذا كان يفعل صحابته  رضوان الله عليهم أجمعين

فعلى الجميع أن يخشى اليوم الذي قال عنه رب العباد: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا وَيُحَذّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءوفُ بِالْعِبَادِ}... [آل عمران : 30]. وأن يجعل بداية العام تجديد للعهد على الطاعة والتزام بشرع الله وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم

محاسبة النفس
يوضح فضيلة الشيخ فرحات السعيد المنجى وكيل بوزارة الأزهر الشريف سابقا: أن على المؤمن الفطن أن يحاسب نفسه حيث أن الطاعة والفروض تمثل رأس المال للمسلم، والمعاصي هي الخسائر، والنوافل هي الأرباح وليعلم أنّ كل نفس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة يمكن أن يشتري بها كنز من كنوز الآخرة

ويقول: أن أول ما يجب أن يلفت انتباهنا تلك السرعة الزمنية العجيبة التي مر بها العام، فبالأمس القريب كنا نستقبل العام الذي مضى من أيام قليلة، وها نحن وبهذه السرعة نبدأ أيام عام هجري جديد، وفي هذا دليل واضح على سرعة انقضاء الأعمار وفناء الدار، الأمر الذي يجب إن يجعلنا أكثر حرصا على محاسبة أنفسنا

والمحاسبة كما قال عنها قال الماوردي: أن يتصفّح الإنسان في ليله ما صدر من أفعال نهاره، فإن كان محموداً أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذموماً استدركه إن أمكن، وانتهى عن مثله في الـمستقبل

وقال ابن القيم: المحاسبة أن يميز العبد بين ما له وما عليه فيستصحب ما له ويؤدي ما عليه؛ لأنه مسافرٌ سَفَرَ من لا يعود

ويشدد المنجى: على أن المحاسبة من أهم المهمات التي يجب على العبد المداومة عليها؛ لأن غياب محاسبة النفس نذير غرق النفس في لجج من بحار الفساد والتيه المنتهية بنار وقودها الناس والحجارة، وأن الفساد في الدنيا إنما يكون ظاهراً جلياً حينما لا يتوقع حساباً من رب قاهر أو من نفس لوامة، وحينما لا يتوقع الفرد حساباً على تصرفاته فإنه ينطلق في حركاته كما يحب ويموج كما يشتهي وكما تهوى نفسه فيتقلب على الحياة ودروبها بلا زمام فيتشبه بأهل النار من حيث يشعر أو لا يشعر {إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً وَكَذَّبُواْ بآياتنا كِذَّاباً}... النبأ : 27 - 28

ويضيف بقوله: وعلى العبد عند محاسبة نفسه البدءُ بالفرائض، فإذا رأى فيها نقص تداركه. والنظر في المناهي، فإذا عرَف أنه ارتكب منها شيئاً تداركه بالتوبةِ والاستغفارِ والحسناتِ الماحية. وكذلك محاسبةُ النفس على الغفلةِ، ويتدارك ذلك بالذكر والإقبالِ على الله

أيضا محاسبة النفس على حركاتِ الجوارح، وكلامِ اللسان، ومشيِ الرجلين، وبطشِ اليدين، ونظرِ العينين، وسماعِ الأذنين، ماذا أردتُ بهذا؟ ولمن فعلته؟ وعلى أي وجه فعلته؟

ويشدد المنجى على أن تلك الدنيا التي ينغمس فيها كثير من النّاس ويضيعون من أجلها الآخرة لينالوا بعض متاعها، ويتمتعوا ببعض ملذاتها وشهواتها، ما هي إلا سراب خادع، ويقول: على المسلم إن يعلم جيداً أن الدنيا أيّام محدودة، وآجال مضروبة، وأعمال محسوبة، بل وأنها قصيرة جدا حتى وإن طالت في عين المخدوعين بزخرفها، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}... فاطر:5، {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ}...غافر 39

وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي وقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل". وكان ابن عمر يقول: إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح

حق الله في الطاعة
وتوضح د. الهام شاهين أستاذ العقيدة والفلسفة بكلية الدراسات الإسلامية جامعة الأزهر، أن المولى - جل وعلا - يقول في كتابه الحكيم: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}... [الإسراء : 13 - 14]، كما قال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}... [الكهف49  ]، وكذلك قوله سبحانه: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا}... [النبأ : 29]، وتقول

من هنا فالمسلم عليه أن يكون حريص في كل قول وفعل على محاسبة نفسه قبل أي عمل يقوم به، هل هو لله أم لدنيا أم لشهوة، فإن كان لله فيستعن بالله ثم يحاسب نفسه أثناء العمل ويخلص النية، وعليه أن يكون حريص على أن لا يخالطه عجب ولا رياء، ثم يقوم أيضا بمحاسبة نفسه بعد العمل بل وعليه أن يستغفر من كل نقص قد يكون اعترى عمله من دون إن يدري، ومحاسبة النفس بعد العمل تكون بمحاسبتها على طاعة قصرت فيها من حق الله فلم توقعها على الوجه الذي ينبغي

وحق الله في الطاعة ستة أمور، هي الإخلاص في العمل، والنصيحة لله فيه، وأتباع سنة رسول صلى الله عليه وسلم، وشهود مشهد الإحسان فيه، وشهود منة الله عليه، وشهود تقصيره فيه بعد ذلك كله. وأن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركه خيراً له من فعله. وكذلك أن يحاسب نفسه على أمر مباح، أو معتاد: يفعله؟ هل أراد به الله والدار الآخرة؟ فيكون رابحا، أو أراد به الدنيا وعاجلها؟ فيخسر ذلك الربح ويفوته الظفر به

 وتبين د. الهام، أنه قد تسيطر على الإنسان بعض العادات والسلوكيات الخاطئة، وتقول: مهما كان عمقها في نفس الإنسان والتصاقه بها؛ فإن الإرادة أقوى من العادة، ولذلك على المسلم وهو يبدأ عامه الجديد نفض وترك العادات السيئة الخاطئة. ويستفيد من محاسبة نفسه حق محاسبة، ويقوم بالانفتاح على ذاته، وإصلاح أخطائه وعيوبه، وسد النواقص والثغرات في شخصيته؛ فيراجع أفكاره وآراءه، ويدرسها بموضوعية، ويتأمل صفاته النفسية ليرى نقاط القوة والضعف فيها فلحظات التأمل ومكاشفة الذات تتيح للمسلم فرصة التعرف على أخطائه ونقاط ضعفه، وتدفعه لتطوير ذاته نحو الأفضل؛ حيث يقول الإمام علي: ثمرة المحاسبة إصلاح النفس

وليجعل كل مسلم بداية العام الهجري الجديد نقطة تحول لحياته فيكون فيها أفضل عما مضى في عبادته وعلاقاته بالله وبكل من حوله أكثر حرصا على المحافظة على حق الله

الأسباب المعينة للمحاسبة
ويؤكد د. حامد أبو طالب العميد الأسبق لكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، وعضو مجمع البحوث الإسلامية أنه يجب أن ندرك أن النفس من الأعداء الملازمين للإنسان، تزين له الباطل، وتدعوه إلى عدم العمل والكسل، وتسعى لإيقاعه في المعاصي والرذائل. ويقول: لذلك لزم أهل العقول والنهى محاسبتها، لإيقافها عند حدها، ومنعها عن زيغها، إتباعا للتوجيه الإلهي الكريم، والنداء الرباني العظيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}... (الحشر : 18)، أي حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وانظروا ماذا أدخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم، واتقوا الله تأكيد ثان، واعلموا أنه عالم بجميع أعمالكم وأحوالكم، لا تخفى عليه منكم خافية، ولا يغيب من أموركم شيء

ويضيف د. أبو طالب ويقول: هذا نبينا صلى الله عليه وسلم يحث على محاسبة النفس فيقول: (الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله )... رواه البيهقي

وقد ذكّر الصحابة الكرام بمحاسبة النفس، ودعوا إلى التأهب للعرض الأكبر، فعمر الفاروق رضي الله عنه يقول: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على من لا تخفى عليه أعمالكم" أي تعرضون على عالم السر والنجوى، الذي لا يخفى عليه شيء من أموركم بل هو عالم بالظواهر والسرائر والضمائر مذكراً بقول الله عز وجل: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}... الحاقة18

كما كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى بعض عماله: حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة عاد أمره إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته، وشغله أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة

فمحاسبة النفس أمر ضروري يعود بالنفع على صاحبه في الدنيا والآخرة، وهكذا كان هدي السلف الأبرار، والسابقين الأخيار، فهذا الحسن البصري يقول: "إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة من همته". وقال ميمون بن مهران: "لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه، ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوان، إن لم تحاسبه ذهب بمالك

ويوضح د. أبو طالب، أن من الأسباب التي تعين الإنسان على محاسبة نفسه وتسهل عليه ذلك: معرفته أنه كلما اجتهد في محاسبة نفسه اليوم استراح من ذلك غداً، ويقول: وكلما أهملها اليوم اشتد عليه الحساب غداً. ومعرفته أن ربح محاسبة النفس ومراقبتها هو سكنى الفردوس، والنظر إلى وجه الرب سبحانه، ومجاورة الأنبياء والصالحين وأهل الفضل

وكذلك النظر فيما يؤول إليه ترك محاسبة النفس من الهلاك والدمار، ودخول النار والحجاب عن الرب تعالى ومجاورة أهل الكفر والضلال والخبث. وصحبة الأخيار الذين يحاسبون أنفسهم ويطلعونه على عيوب نفسه، وترك صحبة من عداهم

أيضا النظر في أخبار أهل المحاسبة والمراقبة من سلفنا الصالح. وزيارة القبور والتأمل في أحوال الموتى الذين لا يستطيعون محاسبة أنفسهم أو تدارك ما فاتهم. وحضور مجالس العلم والوعظ والتذكير فإنها تدعو إلى محاسبة النفس. وقيام الليل وقراءة القرآن والتقرب إلى الله تعالى بأنواع الطاعات. والبُعد عن أماكن اللهو والغفلة فإنها تنسي الإنسان محاسبة نفسه. وذكر الله تعالى ودعاؤه بأن يجعله من أهل المحاسبة والمراقبة، وأن يوفقه لكل خير. وعدم حسن الظن الكامل بالنفس؛ لأن ذلك ينسي محاسبة النفس ويجعل الإنسان يرى عيوبه ومساوئه كمالاً

 

المصدر: موقع إسلام أون لاين
belovedegypt

مصرنا الحبيبة @AmanySh_M

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

636,215

عن الموقع

الموقع ملتقى ثقافي يهتم بالثقافة والمعرفة في كافة مجالات التنمية المجتمعية ويهتم بأن تظل مصرنا الحبيبة بلدآ يحتذى به في القوة والصمود وأن تشرق عليها دائمآ شمس الثقافة والمعرفة والتقدم والرقي

وليعلو صوتها قوياّ ليسمعه القاصي والداني قائلة

إنما أنا مصر باقية

مصرالحضارة والعراقة

مصرالكنانة  

 مصر كنانة الله في أرضه