التواضع صفة يحبها الله ورسوله
|
الرقي والتحضر لا يعنيان إطلاقاً الكبرياء والتعالي على الناس والسخرية من البسطاء منهم كما يعتقد بعض السفهاء هنا وهناك . . لكن التحضر الحقيقي والرقي الإنساني الصحيح يفرضان على صاحبهما أن يتعامل مع الناس بتواضع وأن يحترم مشاعرهم ويقدر إمكاناتهم لذا جاء الإسلام وهو مثل أعلى في الرقي والتحضر حاملاً قيمة عظيمة لها مفعول السحر في علاقة الناس بعضهم ببعض وهي قيمة “التواضع” التي تفرض على المسلم أن يتخلى عن رذيلة التكبر والتعالي على خلق الله وإهانة البسطاء منهم بإشعارهم بالدونية .
يقول الدكتور بكر زكي عوض عميد كلية أصول الدين في الأزهر: الإسلام غرس قيمة التواضع في نفوس أتباعه لإشاعة روح الثقة والمحبة بينهم وقرر أن الناس جميعا رغم اختلاف أجناسهم وألوانهم وعقائدهم ولغاتهم متساوون في الاعتبار البشري، لأنهم ينتسبون جميعاً إلى أصل واحد فكلهم أولاد آدم وحواء . ومن هنا فليس هناك مبرر معقول لتعالي فرد على فرد آخر أو جنس على جنس آخر، لأنه لا توجد فروق جوهرية بين بني الإنسان . ولكن هناك بطبيعة الحال فروق في المستوى الثقافي أو الاجتماعي أو المادي بصفة عامة وهذه أمور لا صلة لها بجوهر الإنسان من حيث هو إنسان . والإدراك الواعي لذلك كله أمر له أهمية بالغة في علاقات الناس بعضهم ببعض . فكلما كان هذا الإدراك واضحاً كان ذلك دافعاً للتواضع والتعامل مع كل الناس من المستويات كافة على أنهم بشر متساوون في القيمة الإنسانية . وكلما كان هذا الإدراك غائباً عن الوعي برزت في تعامل الناس بعضهم مع بعض الفروق الثانوية المشار إليها، مما يؤدي إلى غياب البعد الإنساني، وظهور نبرة التعالي والتكبر والاستعلاء في النظرة إلى الآخر .
ويوضح الدكتور بكر أن التواضع قيمة حضارية وليس قيمة سلبية أو مظهراً من مظاهر الضعف كما يتصور البعض، وهو لا يعني بأي حال من الأحوال أن يتنازل المرء عن شيء من كرامته، وإنما يعني القرب من الناس والتعامل معهم على أنهم بشر يتفقون في الجوهر، ويختلفون في الأمور الأخرى الثانوية التي هي بطبيعتها متغيرة ولا تثبت على حال .
ثراء داخلي
ويقول: التواضع يعني احترام آدمية الناس بصرف النظر عن أوضاعهم الأخرى ومن هنا فإنه لا يعني الضعف بأي حال من الأحوال، إنه على العكس من ذلك يدل على قوة الشخصية وثرائها الداخلي وعلى ثقة الشخص المتواضع بنفسه والتواضع صفة يحبها الله ورسوله ومن أجل ذلك دعا الإسلام إلى التواضع والبعد عن التعالي على الآخرين وفي ذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: “إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد” .
أما الاستعلاء على الآخرين فإنه دليل ضعف في الشخصية، لأنه يعني الفقر الداخلي لدى الشخص المتكبر وانعدام ثقته بنفسه ومن أجل ذلك يحاول أن يداري هذا الخلل في شخصيته بالتعالي على غيره من البشر ممن يرى أنهم أدنى منه، ناظراً إليهم باستعلاء، وربما بازدراء ويتصل بذلك ما نراه في حياتنا اليومية من نبرة الغرور لدى العديد من الناشئين في مجالات مختلفة حيث يزعمون أنهم لم يستفيدوا شيئاً من خبرات غيرهم، وكأن الخبرات قد سقطت عليهم من السماء .
جيل غريب
الدكتورة عزة كريم أستاذة علم الاجتماع في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية ترى أن الإسلام بحثه على فضيلة التواضع أرسى أسس العلاقات الطيبة بين الناس وتقول: من أخطر الرذائل التي شاعت في حياتنا المعاصرة الغرور والتعالي والكبر استناداً إلى مظاهر شكلية هشة تزرع في النفوس الأحقاد والضغائن وتغري بالظلم والعدوان .
وتضيف: الشعور بالكبرياء المرفوض يسيطر على كثير من شبابنا الآن، وليس غريباً أن تستمع إلى شاب لا رصيد له من العلم والفكر والثقافة وليس له خبرة في الحياة ولا وزن له بين الشباب المنتج المفيد لنفسه ولمجتمعه وهو يقول لك: “أنت عارف بتكلم مين”، وليس غريباً أيضاً أن يتعامل معك ولد في عمر أولادك أو أحفادك بكبرياء وغطرسة وغرور من دون أن ترى فيه أو تلمس منه أو تسمع عنه سوى أنه ابن زيد أو عبيد من الناس، وهذا الجيل الغريب لا يمكن أن يشعر بالاستقرار الاجتماعي والنفسي وهو يسيطر عليه هذا الشعور المدمر بالكبرياء، فالعلاقات الاجتماعية لا تنمو ولا تزدهر ولا تقوى إلا بين أناس يتعاملون مع الآخرين باحترام وتقدير متبادل، من دون الاستناد إلى اسم عائلة أو نفوذ أب أو سلطة أخ، ومن دون النظر إلى وضع الأسرة المادي أو شهرتها ومكانتها بين الأسر .
إن التعالي على الناس والتكبر عليهم واحتقار أوضاعهم المادية أو مكانتهم الاجتماعية آفة خطيرة في حياتنا المعاصرة، ولذلك لا يوجد الترابط الاجتماعي بين الناس، بل نجد دائماً التشاحن والتشاجر والعنف الدموي في الجامعات والنوادي والشوارع وميادين العمل بل حتى داخل البيوت نرى أنماطاً غريبة من العنف بين أفراد الأسرة الواحدة نتيجة عدم الالتزام بالآداب والأخلاقيات التي تضبط سلوك الأفراد وتفرض على كل واحد من أفراد الأسرة أن يتعامل باحترام وتواضع مع الآخرين .
وترى الدكتورة عزة كريم أن سوء التربية هو سبب هذا السلوك الاجتماعي المعيب وتقول: للأسف نحن الذين ربينا أولادنا على رذيلة الكبر والتعالي على الناس بما نفعله أمامهم، وبما نغرسه فيهم من قيم تربوية غريبة لا علاقة لها بتعاليم ومبادئ ديننا، ولا صلة لها بالقيم التربوية السليمة والسلوكيات الاجتماعية الراقية التي تربيهم على فضيلة التواضع وتدفعهم إلى التعامل مع الآخرين بالاحترام الواجب والتقدير المطلوب .
ميزان التفاضل
الدكتور عبدالله مبروك النجار الأستاذ في جامعة الأزهر والداعية الإسلامي يؤكد هو الآخر أن أخلاقيات الشباب الآن بعيدة كل البعد عما جاء به الإسلام من آداب وأخلاقيات وما أقره من قيم وسلوكيات فاضلة . لذلك ليس غريباً أن ترى الكبر يسيطر عليهم وينفّر الآخرين منهم ويجعلهم منبوذين من كل خلق الله، فالكبر رذيلة تفسد علاقة الناس بعضهم ببعض، وتجلب لصاحبها الكراهية، وتدفع الآخرين إلى النفور منه .
ويضيف: لقد جاء الإسلام والعرب أكثر الناس تفاخراً بالأنساب وأكثر الناس غروراً واستعلاء على الآخرين فحارب الإسلام هذه الرذيلة وقرر أن النسب الذي يتفاخر به الناس والأموال التي يستندون إليها ليس لهما عند الله وزن ومقدار، وأن ميزان التفاضل الوحيد بين الناس هو تقوى الله عز وجل . فقال الحق سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم” . وبالتقوى والإيمان رفع الله قوماً ليس لهم في الحياة نسب عريق، كبلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي الذي رفع رسول الله من قدره بين الناس عندما قال “سلمان منا أهل البيت”
ويوضح الدكتور النجار أن محاربة رذيلة الكبر والاستعلاء على الناس تبدأ من داخل البيت عن طريق القدوة الطيبة التي يراها الصغار في سلوكيات الكبار، فلا يمكن أن أقنع طفلي برفض سلوك وهو يراني أفعله أمامه كل يوم، ويقول: من واجبنا أن نربي أبناءنا على الاعتزاز بالنفس وعدم التدني في التعامل مع الناس والحفاظ على صورتهم والحرص على كرامتهم، فكل ذلك حثنا عليه الإسلام وتربينا عليه منذ الصغر في مجتمعاتنا العربية والإسلامية ذات العادات والتقاليد الاجتماعية الراسخة . . لكن هناك فارقاً كبيراً بين الاعتزاز بالنفس والكبر والغرور، فالاعتزاز بالنفس يصدر عن أناس أسوياء أعزاء فعلاً، أما الغرور فهو سلوك الضعفاء الذين يشعرون بالنقص دائماً ويحاولون تعويض هذا النقص بالتعالي على خلق الله .
ويقول الدكتور النجار: لا علاقة للاهتمام بالمظهر والحرص على الشكل العام بالكبر المذموم والمنهي عنه شرعاً، والرسول صلوات الله وسلامه عليه هو الذي أوضح لنا ذلك عندما قال “لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر” فقال رجل: يا رسول الله إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً فقال صلى الله عليه وسلم: “إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس”