نتائجه لمصلحة الإنسان والمجتمع
العمل المفيد قيمة رفعها الإسلام |
أعلى الإسلام من قيمة العمل المفيد المنتج وربط المسلم به وجدانياً ودينياً لكي يعمل برغبة وينتج برضا ويستفيد هو وكل المحيطين به بثمرة هذا العمل فيعيش الإنسان العامل المنتج في حالة رضا دائمة عن عمله وإنتاجه وتتحقق سعادته عندما يوفر له عمله مقومات الحياة الكريمة وعندما يستفيد الآخرون من ثمرة هذا العمل .
الدكتور عبدالله النجار أستاذ الشريعة الإسلامية وعضو مجمع البحوث بالأزهر يحدثنا عن قيمة العمل في الإسلام وما يحققه للإنسان من استقرار وسعادة فيقول: يُعد العمل في الإسلام قيمة إنسانية خلاقة يتوقف عليها إعمار الكون واستمرار الحياة، واستخلاف الإنسان، ومن دون العمل لا يكون للإنسان قيمة ولا للحياة معنى، لأن قيمة الإنسان بعقله، إذ العقل هو الدرة التي امتن الله بها عليه، وجعله مفضلاً على جميع المخلوقات، وبالعقل استحق الكرامة الإنسانية، وأن تكون حياته معصومة، وحرماته مصونة، وهو لم يعط كل ذلك لمجرد وجود العقل، وإنما لأن العقل يمثل طاقة الإبداع فيه، وبه يستطيع أن يعمل عملاً نافعاً في حياته، وأن يتعاون مع الآخرين من أجل صناعة الحضارة وتحقيق الرخاء، فإذا قعد الإنسان عن العمل يكون قد ضيع الثمرة التي من أجلها وهبه الله نعمة العقل، وألحق نفسه بالأشياء المهملة، والأمتعة الساكنة التي تأكل نفسها من دون أن تقدم نفعاً لغيرها، ولا تكتفي بذلك، بل تكلفه عناء بقائها، وعبء المحافظة عليها .
لماذا نعمل؟
ويضيف الدكتور النجار: وتقديراً لقيمة العمل في حد ذاته تعامل الإسلام معه على أنه فرض وواجب وفى منزلة العبادة جاءت النصوص القرآنية الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة، لتؤكد أن العمل مطلوب لذاته، وبصرف النظر عما يدره من عائد مادي للعامل، فالقادرون على العمل يجب عليهم أن يعملوا حتى لو كان العمل لا يحقق لهم المستوى المادي الذي يرجونه، كما يجب عليهم أن يعملوا حتى ولو كان لديهم فائض مادي يكفي معيشتهم ويقضي حوائجهم، وفي الموروثات الثقافية توصف اليد العاطلة عن العمل قصداً مع قدرتها عليه: بأنها نجسة، ومفاد ذلك أن العمل يطهر اليد ويكرم الإنسان ويسمو بالحياة، ويدرك هذا المعنى من يتأمل قول الله تعالى: “وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون” فقد طلب الله العمل أولاً بالأمر الدال على الوجوب، وإذا كان الأمر بالعمل صادراً من الله عز وجل فإنه لابد أن يكون عملاً نافعاً، وفي مجال من المجالات التي تعود بالخير على الإنسان في دينه ودنياه، فيكون العمل الفاسد الذي يلحق ضرراً بالنفس وبالناس وبالمرافق العامة أو بالكائنات النافعة مرفوضاً وممنوعاً، ومنهياً عنه بدلالة الآية الكريمة، لأن الله لا يأمر إلا بما هو خير ونافع للإنسان في دنياه وآخرته، أما العمل الضار فإنه لا يأمر به ولا يحب من يفعلونه .
بركة وثواب
ورؤية الله للعمل في أول ثمرة ترجى منه، فيها حض للعامل على أن يحسن عمله، وأن يتقي الله فيه، وأن يؤديه بالذمة والأمانة حتى لا يراه الله في مواطن يكرهها، ورؤية رسوله صلى الله عليه وسلم تفيد أن هذا العمل لابد أن يكون مستقى من هدي شرعه، وقائماً على مبادئ سنته، حتى لا يظلم أرباب الأعمال عمالهم، أو يخدع العمال أصحاب العمل بأعمال زائفة لا توافق المستوى المطلوب، ورؤية الله ورؤية رسوله سبب لما يناله من الثواب الأخروي والبركة الدنيوية، والثواب والبركة ليسا من العوائد المادية التي يتقاضاها العامل عداً ونقداً ويمضي بها الأسواق ليستحضر طعامه وشرابه، أو إلى الطبيب ليعالج بها أدواءه، أو إلى الخياط ليصلح بها ملبسه، ومن ثم لم يكن لهما من الاعتبار المقصود إلا عند من يرجون رضا ربهم من العاملين الصادقين الذين لا يبيعون الدنيا بالآخرة ولا يشترون العاجلة بالآجلة، ثم يجيء في النهاية ما يرجى من الأجر العاجل، وهو المستفاد من رؤية المؤمنين، فإن رؤيتهم للعامل المخلص في عمله، وإن كانت تثمر شهرة ورضا عنه، إلا أن كل ذلك سوف يصب في النهاية لمصلحة العائد المادي من العمل، ولهذا كان هو المستفاد من تلك الرؤية، وقد جاء في مؤخرة الثمار المرجوة من العمل ليفيد أن مرتبة العائد المادي لا يجوز أن تطغى على القيام بالعمل على نحو يرضي الله ورسوله، وأن ذلك العائد إذا كان بخساً في نظر العامل، فحسبه ثواب ربه، ومن ثم تستمر مسيرة الحياة .
والسنة النبوية الشريفة تؤكد هذا المعنى القرآني، وتدل عليه، يدرك هذا من يتأمل حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليغرسها”، حيث أفاد هذا الحديث أن العمل مطلوب لذاته، ولو لم يعد على صاحبه فائدة منه، لأن من يزرع فسيلة بعد قيام الساعة لن يرجى له أو لغيره من المخلوقات بقاء حتى تنمو تلك الفسيلة أو تثمر أو تظل فينفع بها، ورغم وضوح هذا المعنى من قيام الساعة الذي استفتح به الحديث الشريف، إلا أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، طلب غرس الفسيلة، وفي هذا ما يؤكد أن العمل مطلوب قصداً لذاته .
مصدر للسعادة
يؤكد الدكتور محمد كمال إمام أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الإسكندرية ارتباط عمل المسلم بعقيدته، فالنبي صلى الله عليه وسلم يجعل الأعمال الدنيوية التي يقوم بها الإنسان لمعيشته، والسعي على نفسه وأهله، من أبواب العبادة والقربات إلى الله، ولم يتعد نفعها دائرته الشخصية والأسرية . فالزارع في حقله، والعامل في مصنعه، والتاجر في متجره، والموظف في مكتبه، وكل ذي حرفة في حرفته، يستطيع أن يجعل من عمله المعاشي صلاة وجهاداً في سبيل الله، إذا التزم فيه الشروط الآتية:
أن يكون العمل مشروعاً في نظر الإسلام . أما الأعمال التي ينكرها الدين كالعمل في الربا والحانات، والمراقص ونحوها، فلا تكون ولن تكون عبادة أبداً . . إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً .
أن تصحبه النية الصالحة: نية المسلم إعفاف نفسه، وإغناء أسرته، ونفع أمته، وعمارة الأرض، كما أمر الله
أن يؤدي العمل بإتقان وإحسان، ففي الحديث: “إن الله كتب الإحسان على كل شيء”، “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه” .
أن يلتزم فيه حدود الله، فلا يظلم ولا يخون، ولا يغش، ولا يجور على حق غيره .
ألا يشغله عمله الدنيوي عن واجباته الدينية كما قال تعالى: “يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله، ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون”، (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة) .
شقاء الكسالى والعاطلين
المفكر الإسلامي الدكتور محمود حمدي زقزوق الأستاذ بجامعة الأزهر وعضو مجمع البحوث الإسلامية يؤكد أن التعطل عن العمل أو التكاسل عنه يجلب للإنسان التعاسة والشقاء وقد يجره فراغه وبطالته إلى ارتكاب ما حرمه الله ورسوله، حيث تؤكد العديد من الدراسات الاجتماعية انتشار معظم الجرائم بين العاطلين عن العمل . . وهنا يكون التوقف عن العمل سواء أكان اختيارياً أم إجبارياً سبب شقاء الإنسان في الدنيا . ويضيف الدكتور زقزوق: لقد أراد الله للإنسان أن يعمل ليعمر هذه الأرض ويمهدها للعيش فيها ومن أجل ذلك سلحه بالعلم الذي من خلاله يستطيع أن يقوم بهذه المهمة . ولكن العلم وحده لا يقيم عمراناً ولا ينشئ حضارة إلا إذا انضم إليه العمل لتطبيق نتائج هذا العلم حتى تصبح واقعاً ملموساً يستفيد منه كل من يعيش على هذه الأرض من إنسان وحيوان .
والعمل أحد مسؤوليات الإنسان الأساسية التي لا غنى عنها في هذه الحياة، وعلى الإنسان الذي يريد أن يعيش على هذه الأرض أن يعمل، من أجل ترقية الحياة فيها، ولا يجوز أن يكون طفيلياً عليها يأكل من خيراتها من دون عمل . والمطلوب من كل فرد أن يقوم بالعمل الذي يتناسب مع قدراته البدنية ومواهبه العقلية “فكل ميسر لما خُلق له” كما ورد في الحديث الشريف .
وليس من المقبول ولا من المعقول أن يستخف الإنسان بقيمة العمل وأهميتها البالغة للحياة والأحياء . فلا خير في إنسان لا يعمل، وقد ورد أن النبي، عليه الصلاة والسلام، رأى في المسجد رجلاً يتحامل على الناس فسأل عنه فقالوا: هذا عابدنا، فسأل عمن يرعاه ويؤكله؟ قالوا: كلنا يا رسول الله، فقال: “كلكم خير منه” . وهذا يعني أن ترك العمل بحجة العبادة يعد لوناً من ألوان التنطع في الدين . فالعمل نفسه عبادة، لأنه امتثال لأمر الله تعالى للإنسان بإعمار الأرض وصنع الحضارة فيها في قوله: “هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها” أي: طلب منكم عمارتها . وعمارة الأرض لا تتحقق إلا بالعمل الدؤوب، وبذل الجهد، والسعي في الأرض بحثاً عن خيراتها، واستخراجاً لمعادنها، وتمهيداً لطرقها، واستزراع كل شبر صالح للزراعة فيها، وغير ذلك من مسؤوليات عديدة اختص الله بها الإنسان وحده في هذا الوجود . ومن أجل ذلك سخر الله له الكون بأرضه وسمائه وما بينهما وجعل ذلك كله مجالاً لنشاطه العقلي والبدني على السواء، وعلى الإنسان أن يحقق مشيئة الله من ذلك كله بما وهبه من قوى وقدرات، وبما أنعم عليه من مواهب وملكات .
وتقديراً من النبي صلى الله عليه وسلم للعمل وحثاً عليه وجدناه كما جاء في المرويات يمتدح اليد العاملة، ويصفها بأنها يد يحبها الله ورسوله وأنها يد لا تمسها النار أبداً . كما ينبه إلى أن الإيمان من دون عمل لا خير فيه . فالإيمان كما يقول في حديث شريف ليس بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل . وتأكيداً لذلك نجد ارتباط الإيمان بالعمل الصالح في معظم الآيات التي تتحدث عن الإيمان . والعمل الصالح مفهوم شامل لكل الأعمال النافعة للإنسان في دنياه وأخراه . وإذا كان هذا هو الأساس الديني لقيمة العمل وأهميتها في حياة الناس . فإن العقل والمنطق يؤكدان هذه النظرة الدينية ويدعمانها، فالإنسان صانع الحضارة لا يمكن أن يصل إلى هدفه إلا ببذل كل الجهود الممكنة لتحويل تصوراته إلى عمل، وترجمتها إلى واقع ملموس يكون له أثره في دفع عجلة الحياة وإثرائها وترقيتها إلى ما فيه الخير للبشرية جمعاء . والعمل المطلوب ليس أي عمل، ولكنه العمل المنتج المفيد، ولن يكون كذلك إلا إذا كان عملاً متقناً . والعمل المتقن نابع من الإخلاص فيه والتفاني في إنجازه . وفي ذلك من الخير ما فيه للعمال وللمستفيدين منه .
وحثاً على إتقان العمل والإخلاص فيه يقول النبي، عليه الصلاة والسلام: “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه” .